الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى جَوابُ السُّؤالِ عَنِ المَلِكِ الَّذِي لا تَنْفَعُ عِنْدَهُ شَفاعَةٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ ولا خُلَّةٌ ولا غَيْرُهُما وما تَبِعَ ذَلِكَ إلى أنْ خَتَمَ بِقِصَّةِ الأطْيارِ الَّتِي صَغَتْ إلى الخَلِيلِ بِالإنْفاقِ [عَلَيْها] والإحْسانِ إلَيْها ثَنى الكَلامَ إلى الأمْرِ بِالنَّفَقَةِ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي لا تَنْفَعُ فِيهِ الوَسائِلُ إلّا بِالوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ﴾ [البقرة: ٢٤٥] نَظَرًا إلى أوَّلِ السُّورَةِ تَذْكِيرًا بِوَصْفِ المُتَّقِينَ حَثًّا عَلَيْهِ، فَضَرَبَ لِذَلِكَ مُثُلًا صَرِيحَةً لِمُضاعَفَتِها فانْدَرَجَ فِيهِ مُطْلَقُ الأمْرِ بِها انْدِراجَ المُطْلَقِ في المُقَيَّدِ وتَلْوِيحُهُ الَّذِي هو مِن جُمْلَةِ المُشارِ إلَيْهِ بِحَكِيمٍ لِلْحَياءِ، فَصَرَّحَ بِأنَّ النَّفَقَةَ المَأْمُورَ بِها مِن ذَخائِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي لا يَنْفَعُ فِيهِ إلّا ما شَرَعَهُ وهو مِن جَلِيلِ العِزَّةِ، وساقَهُ عَلى وجْهٍ يَتَضَمَّنُ إحْياءَ المَواتِ الَّذِي هو أنْسَبُ الأشْياءِ (p-٧٤)لِما قَبْلَهُ مِن نَشْرِ الأمْواتِ، فَهو إيماءٌ إلى الِاسْتِدْلالِ عَلى البَعْثِ بِأمْرٍ مَحْسُوسٍ، وذَلِكَ مِن دَقِيقِ الحِكْمَةِ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَقُولُ: إنَّ خَلِيلِي عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا كانَ مِنَ الرّاسِخِينَ في رُتْبَةِ الإيمانِ أهَّلْتُهُ لِامْتِطاءِ دَرَجَةٍ أعْلى مِن دَرَجَةِ الإيقانِ بِخَرْقِ العادَةِ في رَفْعِ الأسْتارِ عَلى يَدِهِ عَنْ إحْياءِ الأطْيارِ وأقَمْتُ نَمَطًا مِن ذَلِكَ لِعامَّةِ الخَلْقِ مَطْوِيًّا في إحْياءِ النَّباتِ عَلى وجْهٍ مُعْتادٍ فَمَنِ اعْتَبَرَ بِهِ أبْصَرَ ومَن عَمِيَ عَنْهُ انْعَكَسَ حالُهُ وأدْبَرَ فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿مَثَلُ﴾ فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَإنَّهُ مَثَلُ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ أيْ يَبْذُلُونَ ﴿أمْوالَهُمْ﴾ بِطِيبِ نَفْسٍ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ كَمَثَلِ زارِعٍ مِثْلَ ما يُنْفِقُونَ ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ مِمّا زَرَعَهُ. قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الحَبِّ وهو تَمامُ النَّباتِ المُنْتَهِي إلى صَلاحِيَةِ كَوْنِهِ طَعامًا لِلْآدَمِيِّ الَّذِي هو أتَمُّ الخَلْقِ، فالحَبُّ أكْمَلُ مِنَ الثَّمَرَةِ طَعامِيَّةً والثَّمَرَةِ إدامِيَّةً ﴿أنْبَتَتْ﴾ أيْ بِما جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَها مِن قُوَّةِ الإنْباتِ بِطِيبِ (p-٧٥)أرْضِها واعْتِدالِ رَيِّها ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ بِأنْ تَشَعَّبَ مِنها سَبْعُ شُعَبٍ في كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ وهو مِنَ السُّنْبُلِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو مُجْتَمَعُ الحَبِّ في أكْمامِهِ، كَأنَّهُ آيَةُ اسْتِحْقاقِ اجْتِماعِ أهْلِ ذَلِكَ الرِّزْقِ في تَعاوُنِهِمْ في أمْرِهِمْ، وتَعْرِيفٌ بِأنَّ الحَبَّ يَجْمَعُهُ لا بِوَحْدَتِهِ ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ فَصارَتِ الحَبَّةُ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ بِمُضاعَفَةِ اللَّهِ لَها. قالَ الحَرالِّيُّ: فَضَرَبَ المَثَلَ لِلْإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ وذَكَرَ السَّبْعَ لِما فِيهِ مِنَ التَّمامِ بِالحَرْثِ الَّذِي هو كِيمْيا عِبادِهِ يَشْهَدُونَ مِن تَثْمِيرِهِ حَيْثُ تَصِيرُ الحَبَّةُ أصْلًا ويُثْمِرُ الأصْلُ سَنابِلَ ويَكُونُ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ أعْدادٌ مِنَ الحَبِّ، فَكانَ ما ذَكَرَ تَعالى هو أوَّلَ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ وذَكَرَ السَّبْعَ لِما فِيهِ مِنَ التَّمامِ وما يَقْبَلُهُ مِنَ التَّكْثِيرِ، فَإنَّ ما أنْبَتَ أكْثَرَ مِن سَبْعٍ إذا قُصِدَ بِالتَّكْثِيرِ أنْبَأ عَنْهُ بِالسَّبْعِ، لِأنَّ العَرَبَ تُكَثِّرُ بِهِ ما هو أقَلُّ مِنهُ أوْ أكْثَرُ، فَجَعَلَ أدْنى النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، ثُمَّ فَتَحَ تَعالى بابَ التَّضْعِيفِ إلى ما لا يَصِلُ إلَيْهِ عَدٌّ. انْتَهى. فالآيَةُ مِنَ الاحْتِباكِ وتَقْدِيرُها: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ونَفَقَتِهِمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وزارِعِها، فَذِكْرُ المُنْفِقِ أوَّلًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ الزّارِعِ ثانِيًا، وذِكْرُ الحَبَّةِ ثانِيًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ النَّفَقَةِ أوَّلًا. (p-٧٦)ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَكَما ضاعَفَ سُبْحانَهُ وتَعالى لِلزّارِعِ حَبَّتَهُ فَهو يُضاعِفُ لِلْمُنْفِقِ نَفَقَتَهُ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ بِما لَهُ مِنَ السَّعَةِ في القُدْرَةِ وكُلِّ صِفَةٍ حُسْنى ﴿واللَّهُ﴾ أيْ بِما لَهُ مِنَ الكَمالِ في كُلِّ صِفَةٍ ﴿واسِعٌ﴾ لا يُحَدُّ في صِفَةٍ مِن صِفاتِهِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْها أفْعالُهُ ﴿عَلِيمٌ﴾ فَهو يُضاعِفُ لِأهْلِ النَّفَقَةِ عَلى قَدْرِ ما عَلِمَهُ مِن نِيّاتِهِمْ؛ ولَمّا خَتَمَ أوَّلَ آياتِ هَذِهِ الأمْثالِ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ خَتَمَ آخِرَها بِذَلِكَ إشارَةً إلى أنَّ سَعَتَهُ قَدْ أحاطَتْ بِجَمِيعِ الكائِناتِ فَهو جَدِيرٌ بِالإثابَةِ في الدّارَيْنِ، وأنَّ عِلْمَهُ قَدْ شَمِلَ كُلَّ مَعْلُومٍ فَلا يَخْشى أنْ يَتْرُكَ عَمَلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب