الباحث القرآني

(p-١)ولَمّا تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ رُسُلٍ كَثِيرَةٍ وخَتَمَ هَذِهِ الآياتِ بِأنَّهُ ﷺ مِنهم تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إلى مَعْرِفَةِ أحْوالِهِمْ في الفَضْلِ هَلْ هم فِيهِ سَواءٌ أوْ هم مُتَفاضِلُونَ، فَأشارَ إلى عُلُوِّ مَقادِيرِ الكُلِّ في قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ بِأداةِ البُعْدِ إعْلامًا بِبُعْدِ مَراتِبِهِمْ وعُلُوِّ مَنازِلِهِمْ وأنَّها بِالمَحَلِّ الَّذِي لا يُنالُ والمَقامِ الَّذِي لا يُرامُ، وجَعَلَ الحَرالِّيُّ التَّعْبِيرَ بِتِلْكَ الَّتِي هي أداةُ التَّأْنِيثِ دُونَ أُولَئِكَ الَّتِي هي إشارَةُ المُذَكَّرِ تَوْطِئَةً وإشارَةً لِما يُذْكَرُ بَعْدُ مِنِ اخْتِلافِ الأُمَمِ بَعْدَ أنْبِيائِها وقالَ: يَقُولُ فِيهِ النُّحاةُ إشارَةٌ لِجَماعَةِ المُؤَنَّثِ وإنَّما هو في العَرَبِيَّةِ لِجَماعَةٍ ثانِيَةٍ في الرُّتْبَةِ، لِأنَّ التَّأْنِيثَ أخْذُ الثَّوانِي عَنْ أوَّلِيَّةٍ تُناسِبُهُ في المَعْنى (p-٢)وتُقابِلُهُ في التَّطَرُّقِ، قالَ: ومِن لِسْنِ العَرَبِ وإشارَةِ تَأْسِيسِ كَلِمِها أنَّ المَعْنى مَتى أُرِيدَ إرْفاعُهُ أُطْلِقَ عَنْ عَلامَةِ الثّانِي في الرُّتْبَةِ وإشارَتِهِ، ومَتى أُرِيدَ إنْزالُهُ قُيِّدَ بِعَلامَةِ الثّانِي وإشارَتِهِ، ثُمَّ قالَ: فَفي ضِمْنِ هَذِهِ الإشارَةِ لِأُولِي التَّنَبُّهِ إشْعارٌ بِما تَتَضَمَّنُهُ الآيَةُ مِنَ الإخْبارِ النّازِلِ عَنْ رُتْبَةِ الثَّباتِ والدَّوامِ إلى رُتْبَةِ الِاخْتِلافِ والِانْقِطاعِ كَما أنَّهُ لَمّا كانَ الذِّكْرُ واقِعًا في مَحَلِّ إعْلاءٍ في آيَةِ الإنْعامِ قِيلَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] ولَمّا كانَ شَأْنُ الِاخْتِلافِ والِانْقِطاعِ غَيْرَ مُسْتَغْرَبٍ في مَحَلِّ النَّقْصِ والإشْكالِ وطَّأ لِهَذا الواقِعِ بَعْدَ الرُّسُلِ بِأنَّهُ لَيْسَ مِن ذَلِكَ وأنَّهُ مِنَ الواقِعِ بَعْدَ إظْهارِ التَّفْضِيلِ وإبْلاغِ البَيِّناتِ لِما يَشاؤُهُ مِن أمْرِهِ. انْتَهى. ثُمَّ أتْبَعَ هَذِهِ الإشارَةَ حالًا مِنها أوِ اسْتِئْنافًا قَوْلَهُ: ﴿فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ أيْ بِالتَّخْصِيصِ بِمَآثِرَ لَمْ تَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ بَعْدَ أنْ فَضَّلْنا الجَمِيعَ بِالرِّسالَةِ. (p-٣)ولَمّا كانَ أكْثَرُ السُّورَةِ في بَنِي إسْرائِيلَ وأكْثَرُ ذَلِكَ في أتْباعِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَدَأ بِوَصْفِهِ وثَنّى بِعِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأنَّهُ النّاسِخُ لِشَرِيعَتِهِ وهو آخِرُ أنْبِيائِهِمْ فَقالَ مُبَيِّنًا لِما أجْمَلَ مِن ذَلِكَ التَّفْضِيلِ بادِئًا بِدَرَجَةِ الكَلامِ لِأنَّها مِن أعْظَمِ الدَّرَجاتِ لافِتًا القَوْلَ إلى مَظْهَرِ الذّاتِ بِما لَها مِن جَمِيعِ الصِّفاتِ لِأنَّهُ أوْفَقُ لِلْكَلامِ المُسْتَجْمِعِ لِلتَّمامِ ﴿مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ أيْ بِلا واسِطَةٍ بِما لَهُ مِنَ الجَلالِ كَمُوسى ومُحَمَّدٍ وآدَمَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ورَفَعَ بَعْضَهُمْ﴾ وهو مُحَمَّدٌ ﷺ عَلى غَيْرِهِ، ومِن (p-٤)فَوائِدِ الإبْهامِ الِاسْتِنْباطُ بِالدَّلِيلِ لِيَكُونَ مَعَ أنَّهُ أجْلى أجْدَرَ بِالحِفْظِ وذَلِكَ الِاسْتِنْباطُ أنْ يُقالَ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ عَمَّهم بِالتَّفْضِيلِ بِالرِّسالَةِ أوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهم عَلى غَيْرِهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ رِفْعَةٌ فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ مُجَرَّدَ رِفْعَةٍ لَكانَ تَكْرِيرًا فَوَجَبَ أنْ يُفْهِمَ أنَّها رِفْعَةٌ عَلى أعْلاهُمْ، وأسْقَطَ الفَوْقِيَّةَ هُنا إكْرامًا لِلرُّسُلِ بِخِلافِ ما في الزُّخْرُفِ فَقالَ مُعَيِّنًا (p-٥)بَعْضَ ما اقْتَضاهُ التَّفْضِيلُ: ﴿دَرَجاتٍ﴾ أيْ عَظِيمَةٍ بِالدَّعْوَةِ العامَّةِ والمُعْجِزاتِ الباقِيَةِ؛ والأتْباعِ الكَثِيرَةِ في الأزْمانِ الطَّوِيلَةِ، مِن غَيْرِ تَبْدِيلٍ ولا تَحْرِيفٍ، وبِنَسْخِ شَرْعِهِ لِجَمِيعِ الشَّرائِعِ، وبِكَوْنِهِ رَحْمَةَ العالَمِينَ، وأُمَّتِهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ، وكَوْنِهِ خاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ الَّذِينَ أرْسَلَهم سُبْحانَهُ وتَعالى عِنْدَ الِاخْتِلافِ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ، فَلا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَنْسَخُ شَرِيعَتَهُ، وإنَّما يَأْتِي النَّبِيُّ النّاسِخُ لِشَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُقَرِّرًا لِشَرِيعَتِهِ مُجَدِّدًا لِما دَرَسَ مِنها كَما كانَ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُوسى عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولَمّا كانَ الشَّخْصُ لا يَبِينُ فَضْلُهُ إلّا بِآثارِهِ وكانَتْ آياتُ مُوسى [ وعِيسى ] عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ أكْثَرَ مِن آياتِ مَن سَبَقَهُما خَصَّهُما بِالذِّكْرِ إشارَةً إلى ذَلِكَ، فَكانَ فِيهِ إظْهارُ الفَضْلِ لِنَبِيِّنا ﷺ، لِأنَّهُ لا نِسْبَةَ لِما أُوتِيَ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ إلى ما أُوتِيَ، وإبْهامُهُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ إشارَةٌ إلى أنَّ (p-٦)إبْهامَهُ في الظُّهُورِ والجَلاءِ كَذِكْرِهِ، لِأنَّ ما وُصِفَ بِهِ لا يَنْصَرِفُ إلّا إلَيْهِ. ولَمّا كانَ النّاسُ واقِفِينَ مَعَ الحِسِّ إلّا الفَرْدَ النّادِرَ وكانَ لِعِيسى ﷺ مِن تَكَرُّرِ الآياتِ المَحْسُوساتِ كالإحْياءِ والإبْراءِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِ [ومَعَ] ذَلِكَ ارْتَدَّ أكْثَرُهم بَعْدَ رَفْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ صارِفًا القَوْلَ إلى مَظْهَرِ العَظَمَةِ تَهْدِيدًا لِمَن كَفَرَ بَعْدَ ما رَأى أوْ سَمِعَ مِن تِلْكَ الآياتِ الكُبَرِ: ﴿وآتَيْنا﴾ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ بِالقُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الخَلْقِ والتَّصْوِيرِ كَيْفَ نَشاءُ وعَلى غَيْرِ ذَلِكَ ﴿عِيسى﴾ ونَسَبَهُ إلى أُمِّهِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا أبَ لَهُ فَقالَ: ﴿ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أيِ الَّذِي خَلَقْناهُ مِنها بِغَيْرِ واسِطَةِ ذَكَرٍ أصْلًا ﴿البَيِّناتِ﴾ مِن إحْياءِ المَوْتى وغَيْرِهِ. قالَ الحَرالِّيُّ: والبَيِّنَةُ ما ظَهَرَ (p-٧)بُرْهانُهُ في الطَّبْعِ والعِلْمِ والعَقْلِ بِحَيْثُ لا مَندُوحَةَ عَنْ شُهُودِ وُجُودِهِ، وذَلِكَ فِيما أظْهَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى يَدَيْهِ مِنَ الإحْياءِ والإماتَةِ الَّذِي هو مِن أعْلى آياتِ اللَّهِ، فَإنَّ كُلَّ بادٍ في الخَلْقِ ومُتَنَزِّلٍ في الأمْرِ فَهو مِن آياتِ اللَّهِ، فَما كانَ أقْرَبَ إلى ما اخْتَصَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ كانَ أعْلى وأبْهَرَ، وما كانَ مِمّا يَجْرِي نَحْوُهُ عَلى أيْدِي خَلْقِهِ كانَ أخْفى وألْبَسَ إلّا عَلى مَن نَبَّهَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِاسْتِبْصارِهِ فِيهِ ﴿وأيَّدْناهُ﴾ أيْ بِعَظَمَتِنا البالِغَةِ ﴿بِرُوحِ القُدُسِ﴾ في إعْلامِهِ ذِكْرَ ما جَعَلَ تَعالى بَيْنَهُ وبَيْنَ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في كِيانِهِ فَجَرى نَحْوُهُ في عَمَلِهِ مِن واسِطَةِ الرُّوحِ كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا﴾ [مريم: ١٧] كَذَلِكَ كانَ فِعْلُهُ مَعَ تَأْيِيدِهِ؛ وفي ذَلِكَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُوسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ مُوازَنَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ، حَيْثُ كانَ أمْرُ مُوسى مِنِ ابْتِداءِ أمْرِ التَّكْلِيمِ الَّذِي هو غايَةُ سُقُوطِ الواسِطَةِ، وكانَ أمْرُ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنِ ابْتِداءِ أمْرِ الإحْياءِ الَّذِي هو غايَةُ تَصَرُّفِ المُتَصَرِّفِينَ، انْتَهى. ذِكْرُ شَيْءٍ مِمّا في الإنْجِيلِ مِن بَيِّناتِهِ وحِكَمِهِ وآياتِهِ قالَ مَتّى: أنْتُمْ مِلْحُ الأرْضِ، فَإذا فَسَدَ المِلْحُ فَبِماذا يُمَلَّحُ! لا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ لَكِنْ يُطْرَحُ خارِجًا وتَدُوسُهُ النّاسُ. وقالَ لُوقا: جَيِّدٌ هو المِلْحُ فَإنْ (p-٨)فَسَدَ بِماذا يُمَلَّحُ! لا يَصْلُحُ لِلْأرْضِ ولا المَزْبَلَةِ لَكِنْ خارِجًا، مَن كانَ لَهُ أُذُنانِ سامِعَتانِ فَلْيَسْمَعْ. وقالَ مَتّى: أنْتُمْ نُورُ العالَمِ، لا تَسْتَطِيعُ مَدِينَةٌ تَخْفى وهي مَوْضُوعَةٌ عَلى رَأْسِ جَبَلٍ، ولا يُوقَدُ سِراجٌ فَيُوضَعُ تَحْتَ مِكْيالٍ لَكِنْ يُوضَعُ عَلى مَنارَةٍ [و] يُضِيءُ لِكُلِّ مَن في البَيْتِ، هَكَذا فَلْيُضِئْ نُورُكم قُدّامَ النّاسِ لِيَرَوْا أعْمالَكُمُ الحَسَنَةَ ويُمَجِّدُوا أباكُمُ الَّذِي في السَّماواتِ، لا تَظُنُّوا أنِّي جِئْتُ لِأُخِلَّ النّامُوسَ أوِ الأنْبِياءَ، لَمْ آتِ لِأُخِلَّ بَلْ لِأُكْمِلَ الحَقَّ، أقُولُ لَكم إنَّ السَّماءَ والأرْضَ تَزُولانِ، وخُطَّةٌ واحِدَةٌ لا تَزُولُ مِنَ النّامُوسِ حَتّى يَكُونَ هَذا كُلُّهُ؛ فَمَن أخَلَّ إحْدى هَذِهِ الوَصايا الصِّغارِ وعَلِمَ النّاسُ هَكَذا يُدْعى في مَلَكُوتِ السَّماواتِ صَغِيرًا، والَّذِي يَعْمَلُ ويَعْلَمُ هَذا يُدْعى عَظِيمًا في مَلَكُوتِ السَّماءِ؛ ثُمَّ قالَ: وإذا صَلَّيْتُمْ فَلا تَكُونُوا كالمُرائِينَ، لِأنَّهم يُحِبُّونَ القِيامَ في المَجامِعِ وزَوايا الأزِقَّةِ يُصَلُّونَ لِيُظْهِرُوا لِلنّاسِ الحَقَّ، أقُولُ لَكُمْ: لَقَدْ أخَذُوا أجْرَهُمْ، وإذا صَلَّيْتَ فادْخُلْ (p-٩)إلى مَخْدَعِكَ وأغْلِقْ بابَكَ عَلَيْكَ، وصَلِّ لِأبِيكَ سِرًّا وأبُوكَ يَرى السِّرَّ فَيُعْطِيكَ عَلانِيَةً، وإذا صَلَّيْتُمْ فَلا تُكْثِرُوا الكَلامَ مِثْلَ الوَثَنِيِّينَ، لِأنَّهم يَظُنُّونَ أنَّهم سَيُسْمَعُ لَهم لِكَثْرَةِ كَلامِهِمْ، فَلا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، لِأنَّ أباكم عالِمٌ ما تَحْتاجُونَ إلَيْهِ قَبْلَ أنْ تَسْألُوهُ، وهَكَذا تُصَلُّونَ أنْتُمْ: أبانا الَّذِي في السَّماواتِ! قُدُّوسٌ اسْمُكَ، يَأْتِي مَلَكُوتُكَ، تَكُونُ مَشِيئَتُكَ كَما في السَّماءِ عَلى الأرْضِ، خُبْزُنا كَفافُنا أعْطِنا في اليَوْمِ، واغْفِرْ لَنا ما يَجِبُ عَلَيْنا كَما غَفَرْنا لِمَن أخْطَأ إلَيْنا، ولا تُدْخِلْنا التَّجارِبَ لَكِنْ نَجِّنا مِنَ الشِّرِّيرِ، لِأنَّ لَكَ المَجْدَ والقُوَّةَ إلى الأبَدِ، آمِينَ. وقالَمُرْقُسُ: وإذا قُمْتُمْ تُصَلُّونَ اغْفِرُوا لِكُلِّ مَن لَكم عَلَيْهِ لِكَيْما أبُوكُمُ الَّذِي في السَّماواتِ يَتْرُكُ لَكم هَفَواتِكم. وقالَ مَتّى: فَإنْ غَفَرْتُمْ لِلنّاسِ خَطاياهم غَفَرَ لَكم أبُوكُمُ السَّمائِيُّ خَطاياكُمْ، وإنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنّاسِ سَيِّئاتِهِمْ لَمْ يَغْفِرْ لَكم خَطاياكم. وقالَ لُوقا وكانَ يُصَلِّي في قَفْرٍ فَلَمّا فَرَغَ قالَ واحِدٌ مِن تَلامِيذِهِ: يا رَبُّ! عَلِّمْنا نُصَلِّي كَما عَلَّمَ (p-١٠)يُوحَنّا تَلامِيذَهُ، فَقالَ لَهُمْ: إذا صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أبانا الَّذِي في السَّماواتِ! يَتَقَدَّسُ اسْمُكَ، يَأْتِي مَلَكُوتُكَ، تَكُونُ إرادَتُكَ [كَما] في السَّماءِ كَذَلِكَ عَلى الأرْضِ، خُبْزُنا كَفافُنا أعْطِنا كُلَّ يَوْمٍ، اغْفِرْ لَنا خَطايانا لِأنّا نَغْفِرُ لِمَن لَنا عَلَيْهِ، ولا تُدْخِلْنا التَّجارِبَ لَكِنْ نَجِّنا مِنَ الشِّرِّيرِ؛ ثُمَّ قالَ لَهُمْ: مَن مِنكم لَهُ صَدِيقٌ يَمْضِي إلَيْهِ نِصْفَ اللَّيْلِ فَيَقُولُ لَهُ: يا صَدِيقِي! هَبْنِي ثَلاثَ خُبْزاتٍ فَإنَّ صَدِيقًا لِي جاءَ [إلَيَّ] مِن طَرِيقٍ ولَيْسَ لِي ما أُقَدِّمُ إلَيْهِ، فَيُجِيبُهُ ذَلِكَ مِن داخِلٍ ويَقُولُ: لا تُتْعِبْنِي قَدْ أغْلَقْتُ بابِي، وأوْلادِي مَعِي عَلى مَرْقَدِي ولا أقْدِرُ أقُومُ فَأُعْطِيَكَ، أقُولُ لَكُمْ: إنْ لَمْ يَقُمْ ويُعْطِهِ مِن أجْلِ الصَّداقَةِ فَيَقُومُ ويُعْطِيهِ مِن أجْلِ الحاجَةِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ، وأنا أيْضًا أقُولُ لَكُمْ: سَلُوا تُعْطَوْا، اطْلُبُوا تَجِدُوا، اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ، كُلُّ مَن سَألَ أُعْطِيَ، ومَن طَلَبَ وجَدَ، ومَن يَقْرَعْ يُفْتَحْ لَهُ. وقالَ مَتّى: وإذا صُمْتُمْ فَلا تَكُونُوا كالمُرائِينَ لِأنَّهم يُعْبِسُونَ وُجُوهَهم ويُغَيِّرُونَها لِيُظْهِرُوا لِلنّاسِ صِيامَهُمُ، الحَقَّ أقُولُ لَكُمْ، لَقَدْ أخَذُوا أجْرَهُمْ، وأنْتَ إذا صُمْتَ ادْهُنْ رَأْسَكَ واغْسِلْ وجْهَكَ لِئَلّا يَظْهَرَ لِلنّاسِ صِيامُكَ. وقالَ لُوقا: مَن مِنكم لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أوْ يَرْعى فَإذا جاءَ مِنَ الحَقْلِ يَقُولُ لَهُ لِلْوَقْتِ: اصْعَدْ (p-١١)واجْلِسْ، أوْ لَيْسَ يَقُولُ لَهُ: أعِدَّ لِي ما آكُلُهُ وشُدَّ حِقْوَيْكَ، واخْدُمْنِي حَتّى آكُلَ وأشْرَبَ، ومِن بَعْدِ ذَلِكَ تَأْكُلُ وتَشْرَبُ أنْتَ، هَلْ لِذَلِكَ العَبْدِ فَضْلٌ عِنْدَ ما فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ! كَذَلِكَ أنْتُمْ إذا فَعَلْتُمْ كُلَّ شَيْءٍ أُمِرْتُمْ بِهِ قُولُوا: إنّا عَبِيدٌ بَطّالُونَ، إنَّما عَمِلْنا ما يَجِبُ عَلَيْنا؛ وقالَ أيْضًا: فَقالَ لَهُ واحِدٌ مِنَ الجَمْعِ: يا مُعَلِّمُ! قُلْ لِأخِي: يُقاسِمُنِي المِيراثَ، فَقالَ لَهُ: يا إنْسانُ! مَن أقامَنِي عَلَيْكم حاكِمًا أوْ مُقَسِّمًا! وقالَ لَهُمُ: انْظُرُوا وتَحَفَّظُوا مِن كُلِّ الشَّرَهِ لِأنَّ الحَياةَ لَيْسَتْ لِلْإنْسانِ بِكَثْرَةِ مالِهِ، وقالَ لَهم مَثَلًا: إنْسانٌ غَنِيٌّ أخْصَبَتْ لَهُ كُورَةٌ فَفَكَّرَ وقالَ: ماذا أصْنَعُ إذْ لَيْسَ لِي حَيْثُ أضَعُ غَلّاتِي، أهْدِمُ أهْرائِي وأبْنِيها وأُوَسِّعُها وأُخَزِّنُ هُناكَ وأقُولُ لِنَفْسِي: يا نَفْسُ! لَكِ خَيْراتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، اسْتَرِيحِي وكُلِي واشْرَبِي وافْرَحِي، فَقالَ لَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: يا جاهِلُ! في هَذِهِ اللَّيْلَةِ تُنْزَعُ نَفْسُكَ وهَذا الَّذِي أعْدَدْتَهُ لِمَن يَكُونُ هَكَذا، مَن يَدَّخِرُ ذَخائِرَ ولَيْسَ هو غَنِيًّا بِاللَّهِ. وقالَ مَتّى: لا تَكْنِزُوا لَكم كُنُوزًا في الأرْضِ حَيْثُ (p-١٢)الآكِلَةُ والسُّوسُ يُفْسِدُ ولا يُنَقِّبُ السّارِقُونَ [يَتَحَيَّلُونَ] فَيَسْرِقُونَ، اكْنِزُوا لَكم كُنُوزًا في السَّماءِ حَيْثُ لا آكِلَةَ ولا سُوسَ يُفْسِدُ ولا يُنَقِّبُ السّارِقُونَ فَيَسْرِقُونَ. وقالَ لُوقا: بِيعُوا أمْتِعَتَكم وأعْطُوا رَحْمَةً فاجْعَلُوا لَكم أكْياسًا لا تَبْلى وكُنُوزًا في السَّماواتِ لا تَفْنى حَيْثُ لا يَصِلُ إلَيْهِ سارِقٌ ولا يُفْسِدُهُ سُوسٌ. وقالَ مَتّى: لِأنَّهُ حَيْثُ تَكُونُ كُنُوزُكم هُناكَ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ، سِراجُ الجَسَدِ العَيْنُ، فَإنْ كانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ [نَيِّرًا، وإنْ كانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ] مُظْلِمًا، فَإذا كانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ ما هُوَ! لَيْسَ يَسْتَطِيعُ إنْسانٌ يَعْبُدُ رَبَّيْنِ إلّا أنْ يَبْغَضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ أوْ يُجِلَّ الواحِدَ ويَحْتَقِرَ الآخَرَ، لا تَقْدِرُونَ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ والمالَ، فَلِهَذا أقُولُ لَكُمْ: لا تَهْتَمُّوا لِنُفُوسِكم بِما تَأْكُلُونَ أوْ بِما تَشْرَبُونَ ولا لِأجْسادِكم بِما تَلْبَسُونَ، ألْبِسِ النَّفْسَ؛ وقالَ لُوقا: لِأنَّ النَّفْسَ أفْضَلُ مِنَ المَآكِلِ، والجَسَدَ مِنَ اللِّباسِ، انْظُرُوا إلى طُيُورِ السَّماءِ الَّتِي لا تَزْرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تُخَزِّنُ في الأهْراءِ وأبُوكُمُ السَّمائِيُّ يَقُوتُها، (p-١٣)ألَيْسَ أنْتُمْ بِالحَرِيِّينَ أنْ تَكُونُوا أفْضَلَ مِنها؛ وقالَ لُوقا فِيكُمْ: أنْتُمْ أفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ، مَن مِنكم يَهْتَمُّ فَيَقْدِرُ أنْ يَزِيدَ عَلى قامَتِهِ ذِراعًا واحِدًا! فَلِماذا تَهْتَمُّونَ بِاللِّباسِ! اعْتَبِرُوا بِزَهْرِ الحَقْلِ كَيْفَ يَتَرَبّى ولا يَتْعَبُ؛ وقالَ لُوقا: تَأمَّلُوا الزَّهْرَ كَيْفَ يَنْمُو بِغَيْرِ تَعَبٍ ولا عَمَلٍ. انْتَهى. أقُولُ لَكم إنَّ سُلَيْمانَ في كُلِّ مَجْدِهِ لَمْ يَلْبَسْ كَواحِدَةٍ مِنها، فَإذا كانَ زَهْرُ الحَقْلِ يَكُونُ اليَوْمَ وفي غَدٍ يُطْرَحُ في التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذا فِيكم أنْتُمْ أحْرى يا قَلِيلِي الإيمانِ فَلا تَهْتَمُّوا وتَقُولُوا: ماذا نَأْكُلُ ونَشْرَبُ وماذا نَلْبَسُ؟ هَذا كُلُّهُ يَطْلُبُهُ الأُمَمُ البَرّانِيَّةُ وأبُوكم يَعْلَمُ أنَّكم تَحْتاجُونَ [إلى] هَذا جَمِيعِهِ، اطْلُبُوا أوَّلًا مَلَكُوتَ اللَّهِ وبِرَّهُ وهَذا كُلُّهُ تُزادُونَهُ، لا تَهْتَمُّوا بِالغَدِ، فالغَدُ يَهْتَمُّ بِشَأْنِهِ، ويَكْفِي كُلَّ يَوْمٍ شَرَّهُ؛ وقالَ لُوقا: تَكُونُ أوْساطُكم مَشْدُودَةً وسُرُجُكم مَوْقُودَةً، كُونُوا مُتَشَبِّهِينَ بِأُناسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهم مَتى يَأْتِيهِمْ مِنَ العَرْشِ لِكَيْ إذا جاءَ وقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ، طُوبى لِأُولَئِكَ (p-١٤)العَبِيدِ الَّذِينَ يَأْتِي سَيِّدُهم فَيَجِدُهم مُسْتَيْقِظِينَ! الحَقَّ أقُولُ لَكم إنَّهُ يَشُدُّ وسَطَهُ ويَتَّكِئُونَ هم ويَقِفُ يَخْدُمُهم لِذَلِكَ، فَطُوبى لِأُولَئِكَ العَبِيدِ! ثُمَّ قالَ: فَقالَ لَهُ بُطْرُسُ: يا رَبُّ! مِن أجْلِنا تَقُولُ هَذا المَثَلَ أمْ لِلْجَمِيعِ؟ فَقالَ: مَن تَرى الوَكِيلَ الأمِينَ الحَكِيمَ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلى حَشَمِهِ يُعْطِيهِمْ طَعامَهم في حِينِهِ؟ فَطُوبى لِذَلِكَ العَبْدِ الَّذِي يَأْتِي سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَعَلَ هَكَذا! الحَقَّ أقُولُ لَكم إنَّهُ يُقِيمُهُ عَلى جَمِيعِ مالِهِ، فَإنْ قالَ ذَلِكَ العَبْدُ الشِّرِّيرُ في قَلْبِهِ: إنَّ سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ ويَأْخُذُ في ضَرْبِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ وإمائِهِ ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَسْكَرُ فَيَأْتِي سَيِّدُهُ في يَوْمٍ لا يَظُنُّ وساعَةٍ لا يَعْلَمُ فَيَشُقُّهُ مِن وسَطِهِ ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، فَأمّا العَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إرادَةَ سَيِّدِهِ ولا يَسْتَعِدُّ ويُعْمِلُ إرادَةَ سَيِّدِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيرًا، والَّذِي لا يَعْلَمُ ويَعْمَلُ ما يَسْتَوْجِبُ بِهِ الضَّرْبَ يُضْرَبُ يَسِيرًا، لِأنَّ مَن أعْطى كَثِيرًا يَطْلُبُ كَثِيرًا والَّذِي اسْتَوْدَعَ كَثِيرًا يَطْلُبُ بِكَثِيرٍ؛ وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: الأمِينُ في القَلِيلِ يَكُونُ أمِينًا في الكَثِيرِ، والظّالِمُ في القَلِيلِ ظالِمٌ في الكَثِيرِ، فَإنْ كُنْتُمْ غَيْرَ أُمَناءٍ في مالِ الظُّلْمِ فَمَن يَأْتَمِنُكم في الحَقِّ! وإنْ كُنْتُمْ غَيْرَ أُمَناءٍ فِيما لَيْسَ لَكم فَمَن يُعْطِيكم مالَكُمْ! جِئْتُ لِأُلْقِيَ نارًا في الأرْضِ وما أُرِيدُ إلّا (p-١٥)اضْطِرامَها، ولِي صِبْغَةٌ أصْطَبِغُها، وأنا مُجِدٌّ لِتُكْمِلَ، هَلْ تَظُنُّونَ أنِّي جِئْتُ لِألْقى سَلامَةً في الأرْضِ! أقُولُ لَكُمْ: يَكُونُ افْتِراقٌ مِنَ الآنَ، يَكُونُ خَمْسَةٌ في بَيْتٍ، واحِدٌ يُخالِفُ اثْنَيْنِ واثْنانِ ثَلاثَةً، يُخالِفُ الأبُ ابْنَهُ، والِابْنُ أباهُ، والأُمُّ ابْنَتَها، والِابْنَةُ أُمَّها، والحَمْأةُ كَنَّتَها، والكَنَّةُ حَمْأتَها. وقالَ مَتّى: لا تُدِينُوا لِئَلّا تُدانُوا، وبِالكَيْلِ الَّذِي تَكِيلُونَ يُكالُ لَكم. وقالَ لُوقا: لا تُحِبُّوا الحُكْمَ عَلى أحَدٍ لِئَلّا يُحْكَمَ عَلَيْكُمُ، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، أعْطُوا تُعْطَوْا بِمِكْيالٍ صالِحٍ مَمْلُوءٍ فائِضٍ مُلْقىً في حُضُونِكُمْ، لِأنَّهُ بِالكَيْلِ الَّذِي تَكِيلُونَ يُكالُ لَكُمْ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أعْمى أنْ يَقُودَ أعْمى! ألَيْسَ يَقَعانِ كِلاهُما في حُفْرَةٍ! وقالَ مَتّى: لِما [ذا] تَنْظُرُ القَذى الَّذِي في عَيْنِ أخِيكَ ولا تَفْطُنُ بِالخَشَبَةِ الَّتِي في عَيْنِكَ، وكَيْفَ تَقُولُ لِأخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ القَذى مِن عَيْنِكَ. وفِي عَيْنِكَ خَشَبَةٌ يا مُرائِي! أخْرِجْ أوَّلًا الخَشَبَةَ مِن عَيْنِكَ وحِينَئِذٍ تَنْظُرُ أنْ تُخْرِجَ القَذى مِن عَيْنِ أخِيكَ، لا تُعْطُوا القُدْسَ لِلْكِلابِ، ولا تُلْقُوا جَواهِرَكم أمامَ الخَنازِيرِ لِئَلّا تَدُوسَها بِأرْجُلِها وتَرْجِعَ فَتُزْمِنَكُمْ، (p-١٦)سَلُوا تُعْطَوُا، اطْلُبُوا تَجِدُوا، اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكم. لِأنَّ كُلَّ مَن يَطْلُبْ يَجِدْ، [ومَن سَألَ يُعْطَ] ومَن يَقْرَعْ يُفْتَحْ لَهُ، أيُّ إنْسانٍ مِنكم يَسْألُهُ ابْنُهُ خُبْزًا فَيُعْطِيهِ حَجَرًا! أوْ يَسْألُهُ سَمَكَةً فَيُعْطِيهِ حَيَّةً! فَإذا كُنْتُمْ أنْتُمُ الأشْرارُ تَعْرِفُونَ تَمْنَحُونَ العَطايا الصّالِحَةَ لِأبْنائِكم فَكَمْ بِالحَرِيِّ أبُوكُمُ الَّذِي في السَّماواتِ يُعْطِي الخَيْراتِ لِمَن يَسْألُهُ! وكُلُّ ما تُرِيدُونَ أنْ يَفْعَلَ النّاسُ افْعَلُوهُ أنْتُمْ بِهِمْ؛ فَهَذا هو النّامُوسُ والأنْبِياءُ. قالَ لُوقا: وزَوالُ السَّماءِ والأرْضِ أسْهَلُ مِن أنْ يَبْطُلَ مِنَ النّامُوسِ حَرْفٌ واحِدٌ؛ وقالَ أيْضًا وقالَ لَهم مَثَلًا: لِكَيْ يُصَلُّوا كُلَّ حِينٍ ولا يَمَلُّوا؛ قالَ: كانَ قاضٍ في مَدِينَةٍ لا يَخافُ اللَّهَ تَعالى ولا يَسْتَحْيِي مِنَ النّاسِ وكانَ في تِلْكَ المَدِينَةِ أرْمَلَةٌ وكانَتْ تَأْتِي إلَيْهِ وتَقُولُ: أنْصِفْنِي مِن خَصْمِي، ولَمْ يَكُنْ يَشاءُ إلى زَمانٍ، وبَعْدَ ذَلِكَ قالَ في نَفْسِهِ: إنْ كُنْتُ لا أخافُ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى ولا أسْتَحْيِي مِنَ النّاسِ لَكِنْ مِن أجْلِ هَذِهِ المَرْأةِ أحْكُمُ لَها ولا تَعُودُ تُعَنِّفُنِي وتَأْتِي إلَيَّ في كُلِّ حِينٍ لِتُتْعِبَنِي! قالَ الرَّبُّ سُبْحانَهُ وتَعالى: اسْمَعُوا ما قالَ قاضِي الظُّلْمِ، (p-١٧)أفَلَيْسَ اللَّهُ أحْرى أنْ يَنْتَقِمَ لِمُخْتارِيهِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ النَّهارَ واللَّيْلَ! نَعَمْ أقُولُ لَكم إنَّهُ يَنْتَقِمُ لَهم سَرِيعًا. وقالَ مَتّى: ادْخُلُوا مِنَ البابِ الضَّيِّقِ، فَإنَّ المَسْلَكَ واسِعٌ، والطَّرِيقَ المُؤَدِّيَةَ إلى الهَلاكِ رَحْبَةٌ، والدّاخِلِينَ فِيها كَثِيرٌ هُمْ، ما أضْيَقَ البابَ وأكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّتِي تُؤَدِّي إلى الحَياةِ! وقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَها احْذَرُوا مِنَ الأنْبِياءِ الكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكم بِلِباسِ الحِمْلانِ وداخِلُهم ذِئابٌ خَطَفَةٌ، ومِن ثِمارِهِمْ فاعْرِفُوهُمْ، هَلْ يُجْمَعُ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبٌ ومِنَ العَوْسَجِ تِينٌ! هَكَذا كُلُّ شَجَرَةٍ [صالِحَةٍ] تُخْرِجُ ثَمَرَةً جَيِّدَةً، والشَّجَرَةُ الرَّدِيئَةُ تُخْرِجُ ثَمَرَةً شِرِّيرَةً، لا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ صالِحَةٌ تُخْرِجُ ثَمَرَةً شِرِّيرَةً، ولا شَجَرَةٌ رَدِيئَةٌ تُخْرِجُ ثَمَرَةً جَيِّدَةً. وقالَ لُوقا: وكُلُّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِن ثَمَرَتِها لَيْسَ يُجْمَعُ مِنَ الشَّوْكِ تِينٌ، ولا يُقْطَفُ مِنَ العُلَّيْقِ عِنَبٌ، الرَّجُلُ الصّالِحُ مِنَ الذَّخائِرِ الَّتِي في قَلْبِهِ يُخْرِجُ الصّالِحاتِ، والشِّرِّيرُ مِن ذَخائِرِهِ الشِّرِّيرَةِ يُخْرِجُ الشَّرَّ، لِأنَّ مِن فَضْلِ ما في القَلْبِ يَنْطِقُ الفَمُ. (p-١٨)وقالَ مَتّى: وكُلُّ شَجَرَةٍ لا تُثْمِرُ ثَمَرَةً جَيِّدَةً تُقْطَعُ وتُلْقى في النّارِ، فَمِن ثِمارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ، لَيْسَ كُلُّ مَن يَقُولُ: يا رَبُّ! يا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّماواتِ، لَكِنِ الَّذِي يُعْمِلُ إرادَةَ الَّذِي في السَّماواتِ أيْ أمْرَهُ، كَثِيرُونَ يَقُولُونَ لِي في ذَلِكَ اليَوْمِ: يا رَبُّ! يا رَبُّ! ألَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنا وبِاسْمِكَ أخْرَجْنا الشَّياطِينَ وبِاسْمِكَ صَنَعْنا آياتٍ كَثِيرَةً! فَحِينَئِذٍ أعْتَرِفُ لَهم أنِّي ما أعْرِفُكم قَطُّ، اذْهَبُوا عَنِّي يا فاعِلِي الإثْمِ. وقالَ لُوقا: فَقالَ لَهُ واحِدٌ: يا رَبُّ! قَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَنْجُونَ! فَقالَ: احْرِصُوا عَلى الدُّخُولِ مِنَ البابِ الضَّيِّقِ، فَإنِّي أقُولُ لَكم إنَّ كَثِيرًا يُرِيدُونَ الدُّخُولَ مِنهُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، فَإذا قامَ رَبُّ البَيْتِ يُغْلِقُ البابَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقِفُونَ خارِجًا ويَقْرَعُونَ البابَ ويَقُولُونَ: يا رَبُّ! يا رَبُّ! افْتَحْ لَنا، فَيُجِيبُ: لا أعْرِفُكُمْ، مِن أيْنَ أنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أكَلْنا قُدّامَكَ وشَرِبْنا، فَيَقُولُ: ما أعْرِفُكُمْ، مِن أيْنَ أنْتُمْ؟ تَباعَدُوا عَنِّي بِأعْمالِ الظُّلْمِ، هُناكَ يَكُونُ البُكاءُ وصَرِيرُ الأسْنانِ. قالَ مَتّى: كُلُّ مَن يَسْمَعُ كَلِماتِي هَذِهِ ويَعْمَلُ بِها يُشْبِهُ رَجُلًا عاقِلًا بَنى بَيْتَهُ عَلى الصَّخْرَةِ. وقالَ لُوقا: بَنى بَيْتًا وحَفَرَ وعَمَّقَ ووَضَعَ الأساسَ عَلى صَخْرَةٍ، فَنَزَلَ المَطَرُ وجَرَتِ الأنْهارُ وهَبَّتِ الرِّياحُ وضَرَبَتْ ذَلِكَ البَيْتَ فَلَمْ يَسْقُطْ، لِأنَّ أساسَهُ ثابِتٌ عَلى الصَّخْرَةِ، وكُلُّ مَن يَسْمَعُ كَلِماتِي هَذِهِ (p-١٩)ولا يَعْمَلُ بِها يُشْبِهُ رَجُلًا جاهِلًا بَنى بَيْتَهُ عَلى الرَّمْلِ، فَنَزَلَ المَطَرُ وجَرَتِ الأنْهارُ وهَبَّتِ الرِّياحُ وضَرَبَتْ ذَلِكَ البَيْتَ فَسَقَطَ وكانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا. وكانَ لَمّا أكْمَلَ يَشُوعُ هَذِهِ الكَلِماتِ بُهِتَ الجَمِيعُ مِن تَعْلِيمِهِ، لِأنَّهُ كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَهُ سُلْطانٌ ولَيْسَ كَمِثْلِ كُتّابِهِمْ. وفِيهِ مِمّا يَمْتَنِعُ إطْلاقُهُ في شَرْعِنا لَفْظُ الأبِ والرَّبِّ وسَيَأْتِي في آلِ عِمْرانَ ما يَشْفِي العَلِيلَ في تَأْوِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلى تَقْرِيرِ صِحَّتِهِ. وكُلُّ ما ورَدَ مِن وصْفِ الأنْبِياءِ بِالكَذَبَةِ فالمُرادُ بِهِ المُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ كَذِبًا. ولَمّا تَقَدَّمَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى أرْسَلَ رُسُلًا وأنْزَلَ مَعَهم كُتُبًا، وأنَّهم تَعِبُوا ومَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ وزُلْزِلُوا حَتّى جَمَعُوا النّاسَ عَلى الحَقِّ، وأنَّ أتْباعَهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ كانَ مِمّا يَتَوَجَّهُ النَّفْسَ لِلسُّؤالِ عَنْهُ سَبَبُ اخْتِلافِهِمْ، فَبَيَّنَ أنَّهُ مَشِيئَتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لا غَيْرُ إعْلامًا بِأنَّهُ الفاعِلُ المُخْتارُ فَكانَ التَّقْدِيرُ: ولَوْ شاءَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَساوى بَيْنَ الرُّسُلِ في الفَضِيلَةِ، ولَوْ شاءَ لَساوى بَيْنَ أتْباعِهِمْ في قَبُولِ ما أتَوْا بِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمُ اثْنانِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فاخْتَلَفُوا عَلَيْهِمْ وهم يُشاهِدُونَ البَيِّناتِ، وعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَسْلِيَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ لافِتًا القَوْلَ إلى التَّعْبِيرِ بِالجَلالَةِ إشارَةً إلى أنَّ الِاخْتِلافَ (p-٢٠)مَعَ دَلالَةِ العَقْلِ عَلى أنَّهُ لا خَيْرَ فِيهِ شاهِدٌ لِلْخالِقِ بِجَمِيعِ صِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الأمْرِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهي كَلِمَةٌ جامِعَةٌ قُرْآنِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ تُشْهِدُ اللَّهَ وحْدَهُ وتَمْحُو عَنِ الإقامَةِ ما سِواهُ، انْتَهى. ﴿ما اقْتَتَلَ﴾ أيْ ما تَكَلَّفَ القِتالَ مَعَ أنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ ﴿الَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ لِاتِّفاقِهِمْ عَلى ما فارَقُوا عَلَيْهِ نَبِيَّهم مِنَ الهُدى. قالَ الحَرالِّيُّ: فَذَكَرَ الِاقْتِتالَ الَّذِي إنَّما يَقَعُ بَعْدَ فِتْنَةِ المَقالِ بَعْدَ فِتْنَةِ الأحْوالِ بِالضَّغائِنِ والأحْقادِ بَعْدَ فَقْدِ السَّلامَةِ بَعْدَ فَقْدِ الوِدادِ بَعْدَ فَقْدِ المَحَبَّةِ [الجامِعَةِ] لِلْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّها، انْتَهى ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ أيْ عَلى أيْدِي رُسُلِهِمْ. قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إيذانٌ بِأنَّ الوَسائِلَ والأسْبابَ لا تَقْتَضِي آثارَها إلّا بِإمْضاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فِيها. انْتَهى. ﴿ولَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَشَإ اتِّفاقَهم عَلى الهُدى ﴿فَمِنهُمْ﴾ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنِ اخْتِلافِهِمْ أنْ كانَ مِنهم ﴿مَن آمَنَ﴾ أيْ ثَبَتَ عَلى ما فارَقَ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ حَسْبَما دَعَتْ إلَيْهِ البَيِّناتُ فَكانَ إيمانُهُ هَذا هو الإيمانَ في الحَقِيقَةِ لِأنَّهُ أعْرَقُ في أمْرِ الغَيْبِ ﴿ومِنهم مَن كَفَرَ﴾ ضَلالًا عَنْها أوْ عِنادًا. ولَمّا كانَ [مِنَ] النّاسِ مَن أعْمى اللَّهُ قَلْبَهُ فَنَسَبَ أفْعالَ المُخْتارِينَ (p-٢١)مِنَ الخَلْقِ إلَيْهِمُ اسْتِقْلالًا قالَ تَعالى مُعْلِمًا أنَّ الكُلَّ بِخَلْقِهِ تَأْكِيدًا لِما مَضى مِن ذَلِكَ مُعِيدًا ذِكْرَ الِاسْمِ الأعْظَمِ إشارَةً إلى عِظَمِ الحالِ في أمْرِ القِتالِ الكاشِفِ لِمَن باشَرَهُ في ضَلالٍ عَنْ أقْبَحِ الخِلالِ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لا كُفْؤَ لَهُ ﴿ما اقْتَتَلُوا﴾ بَعْدَ اخْتِلافِهِمْ بِالإيمانِ والكُفْرِ، وكَرَّرَ الِاسْمَ الأعْظَمَ زِيادَةً في الإعْلامِ بِعِظَمِ المَقامِ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ﴾ أيْ بِجَلالِهِ وعِزِّ كَمالِهِ شاءَ اقْتِتالَهم فَإنَّهُ ﴿يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ فاخْتَلَفُوا واقْتَتَلُوا طَوْعَ مَشِيئَتِهِ عَلى خِلافِ طِباعِهِمْ وما يُناقِضُ ما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ والحِكْمَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب