الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى ما لا بُدَّ مِنهُ مِمّا سِيقَ بَعْدَ الإعْلامِ بِفَرْضِ القِتالِ المَكْرُوهِ لِلْأنْفُسِ مِن تَفْصِيلِ ما أُحْمِلَ في لَيْلِ الصِّيامِ مِنَ المَشارِبِ والمَناكَحِ وما تَبِعَها وكانَ الطَّلاقُ كَما سَلَفَ كالمَوْتِ وكانَتِ المُراجَعَةُ كالإحْياءِ وخَتَمَ ذَلِكَ بِالصَّلاةِ حالَ الخَوْفِ الَّذِي أغْلَبُ صُورَةِ (p-٣٨٦)الجِهادِ ثُمَّ بِتَبْيِينِ الآياتِ أعَمَّ مِن أنْ تَكُونَ في الجِهادِ أوْ غَيْرِهِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ دَلِيلًا عَلى آيَةِ كَتْبِ القِتالِ المَحْثُوثِ فِيها عَلى الإقْدامِ عَلى المَكارِهِ لِجَهْلِ المَخْلُوقِ بِالغاياتِ: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ وقالَ الحَرالِيُّ: لَمّا كانَ أمْرُ الدِّينِ مُقامًا بِمَعالِمِهِ الخَمْسِ الَّتِي إقامَةُ ظاهِرِها تَمامٌ في الأُمَّةِ وإنَّما تَتِمُّ إقامَتُها بِتَقْوى القُلُوبِ وإخْلاصِ النِّيّاتِ كانَ القَلِيلُ مِنَ المَواعِظِ والقِصَصِ في شَأْنِهِ كافِيًا، ولَمّا كانَ حَظِيرَةَ الدِّينِ (p-٣٨٧)إنَّما هو الجِهادُ الَّذِي فِيهِ بَذْلُ الأنْفُسِ وإنْفاقُ الأمْوالِ كَثُرَتْ فِيهِ مَواعِظُ القُرْآنِ وتَرَدَّدَتْ وعَرَضَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِإعْلامٍ بِما يَقَعُ فِيهِ فَذَكَرَ ما وقَعَ مِنَ الأقاصِيصِ في الأُمَمِ السّالِفَةِ وخُصُوصًا أهْلَ الكِتابَيْنِ بَنِي إسْرائِيلَ ومَن لَحِقَ بِهِمْ مِن أبْناءِ العِيصِ فَكانَتْ وقائِعُهم مَثَلًا لِوَقائِعِ هَذِهِ الأُمَّةِ فَلِذَلِكَ أُحِيلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى اسْتِنْطاقِ أحْوالِهِمْ بِما يَكْشِفُهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَهُ مِن أمْرِهِمْ عِيانًا وبِما يُنْزِلُهُ مِن خَبَرِهِمْ بَيانًا وكانَ مِن جامِعَةِ مَعْنى ذَلِكَ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهم مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة: ٢١١] وكانَ مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي يَحِقُّ الإقْبالُ بِها عَلى النَّبِيِّ ﷺ لِعُلُوِّ مَعْناها فَأشْرَفُ المَعانِيَ ما قِيلَ فِيهِ ”ألَم تَرَ“ إقْبالًا عَلى النَّبِيِّ ﷺ وعُمُومُ المَعانِي ما قِيلَ فِيهِ ”ألَم تَرَوْا“ إقْبالًا عَلى الأُمَّةِ لِيُخاطَبَ كُلٌّ عَلى قَدْرِ ما قَدَّمَ لَهم مِن تَمْهِيدِ مَوْهِبَةِ العَقْلِ لِتَتَرَتَّبَ المَكْسَبَةُ مِنَ العِلْمِ عَلى مِقْدارِ المَوْهِبَةِ مِنَ العَقْلِ فَكانَ مِنَ القَصَصِ العَلِيِّ العِلْمُ اللَّطِيفُ الِاعْتِبارِ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآياتُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ (p-٣٨٨)لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِهَذِهِ الأُمَّةِ حَتّى لا يَفِرُّوا مِنَ المَوْتِ فِرارَ مَن قَبْلَهُمْ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا نَزَلَ الوَباءُ بِأرْضٍ وأنْتُمْ بِها فَلا تَخْرُجُوا فِرارًا مِنهُ» وذَلِكَ لِتَظْهَرَ مَزِيَّتُهم عَلى مَن قَبْلَهم بِما يَكُونُ مِن عَزْمِهِمْ كَما أظْهَرَ اللَّهُ تَعالى مَزِيَّتَهم عَلى مَن قَبْلَهم بِما آتاهم مِن فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ الَّتِي لَمْ يُنَوِّلُها لِمَن قَبْلَهُمُ - انْتَهى. ولَمّا كانَتْ مُفارَقَةُ الأوْطانِ مِمّا لا يُسْمَحُ بِهِ نَبَّهَ بِذِكْرِهِ عَلى عَظِيمِ ما دَهَمَهم فَقالَ: ﴿إلى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ أيْ مِمَّنْ تَقَدَّمَكم مِنَ الأُمَمِ ﴿مِن دِيارِهِمْ﴾ الَّتِي ألِفُوها وطالَ ما تَعِبُوا حَتّى تَوَطَّنُوها لِما وقَعَ فِيها مِمّا لا طاقَةَ لَهم بِهِ عَلى المَوْتِ ﴿وهم أُلُوفٌ﴾ أيْ كَثِيرَةٌ جِدًّا تَزِيدُ عَلى العَشَرَةِ بِما أفْهَمَهُ جَمْعُ التَّكْثِيرِ. قالَ الحَرالِيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ تَخَوُّفَهم لَمْ يَكُنْ مِن نَقْصِ عَدَدٍ وإنَّما كانَ مَن جَزَعِ أنْفُسٍ فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ (p-٣٨٩)وتَعالى أنَّ الحَذَرَ لا يُنْجِي مِنَ القَدَرِ وإنَّما يُنَجِّي مِنهُ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ الدُّعاءُ «إنَّ الدُّعاءَ لَيَلْقى القَدَرَ فَيَعْتَلِجانِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» انْتَهى. ﴿حَذَرَ المَوْتِ﴾ فِرارًا مِن طاعُونٍ وقَعَ في مَدِينَتِهِمْ أوْ فِرارًا مِن عَدُوٍّ دَعاهم نَبِيُّهم إلى قِتالِهِ - عَلى اخْتِلافِ الرِّوايَةِ - ظَنًّا مِنهم أنَّ الفِرارَ يُنْجِيهِمْ. ودَلَّ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى أنَّ مَوْتَهم كانَ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بِأنْ جَعَلَهم كالمَأْمُورِ الَّذِي لَمْ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الِامْتِثالِ بِقَوْلِهِ مُسَبَّبًا عَنْ خُرُوجِهِمْ عَلى هَذا الوَجْهِ: ﴿فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لا يَفُوتُهُ هارِبٌ ولا يُعْجِزُهُ طالِبٌ لِأنَّ لَهُ الكَمالَ كُلَّهُ ﴿مُوتُوا﴾ أيْ فَماتُوا أجْمَعُونَ مَوْتَ نَفْسٍ واحِدَةٍ لَمْ يَنْفَعْهم حَذَرُهم ولا صَدُّ القَدَرِ عَنْهم عَلَّمَهم بِالأُمُورِ وبَصَّرَهم إعْلامًا بِأنَّ مَن هابَ القِتالَ حَذَرَ المَوْتِ لَمْ يُغْنِهِ حَذَرُهُ مَعَ ما جَناهُ مِن إغْضابِ رَبِّهِ ومَن أقْدَمَ عَلَيْهِ لَمْ يَضُرَّهُ إقْدامُهُ مَعَ ما فازَ بِهِ مِن مَرْضاةِ مَوْلاهُ. قالَ الحَرالِيُّ: في إشْعارِهِ (p-٣٩٠)إنْباءٌ بِأنَّ هَذِهِ الإماتَةَ إماتَةٌ تَكُونُ بِالقَوْلِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَأماتَهُمُ اللَّهُ، فَتَكُونُ إماتَةً حاقَّةً لا مَرْجِعَ مِنها، فَفِيهِ إبْداءٌ لِمَعْنى تَدْرِيجِ ذاتِ المَوْتِ في أسْنانٍ مُتَراقِيَةٍ مِن حَدِّ ضَعْفِ الأعْضاءِ والقُوى بِالكَسَلِ إلى حَدِّ السِّنَةِ إلى حَدِّ النَّوْمِ إلى حَدِّ الغَشْيِ إلى حَدِّ الصَّعْقِ إلى حَدِّ هَذِهِ الإماتَةِ بِالقَوْلِ إلى حَدِّ الإماتَةِ الآتِيَةِ عَلى جُمْلَةِ الحَياةِ الَّتِي لا تَرْجِعُ إلّا بَعْدَ البَعْثِ وكَذَلِكَ الإماتَةُ الَّتِي يَكُونُ عَنْها تَبَدُّدُ الجِسْمِ مَعَ بَقائِهِ عَلى صُورَةِ أشْلائِهِ أشَدَّ إتْيانًا عَلى المَيِّتِ مِنَ الَّتِي لا تَأْتِي عَلى أعْضائِهِ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلى الأرْضِ أنْ تَأْكُلَ أجْسادَ الأنْبِياءِ والشُّهَداءِ والعُلَماءِ والمُؤَذِّنِينَ» فَكَما لِلْحَياةِ أسْنانٌ مِن حَدِّ رَبْوِ الأرْضِ إلى حَدِّ حَياةِ المُؤْمِنِ إلى ما فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الحَياةِ كَذَلِكَ لِلْمَوْتِ أسْنانٌ بِعَدَدِ أسْنانِ الحَياةِ مَعَ كُلِّ سِنِّ حَياةٍ مَوْتٌ إلى أنْ يَنْتَهِيَ الأمْرُ إلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ﴿وأنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ [النجم: ٤٢] فَبِذَلِكَ يَعْلَمُ ذُو الفَهْمِ أنَّ (p-٣٩١)ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أحْياهُمْ﴾ وفي كَلِمَةِ ”ثُمَّ“ إمْهالٌ إلى ما شاءَ اللَّهُ - انْتَهى. وجَعَلَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ تَقْرِيرًا لَهُ ﷺ بِالرُّؤْيَةِ إمّا لِأنَّهُ كَشَفَ لَهُ عَنْهم في الحالَتَيْنِ وإمّا تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ في القَطْعِ بِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى لَهُ عَلى حالَةٍ هي كالرُّؤْيَةِ لِغَيْرِهِ تَدْرِيبًا لِأُمَّتِهِ؛ ولَعَلَّ في الآيَةِ حَضًّا عَلى التَّفَضُّلِ بِالمُراجَعَةِ مِنَ الطَّلاقِ كَما تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلى هَؤُلاءِ بِالإحْياءِ بَعْدَ أنْ أدَّبَهم بِالإماتَةِ وخَتَمَ ما قَبْلَها بِالإقامَةِ في مَقامِ التَّرَجِّي لِلْعَقْلِ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الخارِجِينَ مِن دِيارِهِمْ لِهَذا الغَرَضِ سُفَهاءُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لِتَعْقِلُوا فَلا تَكُونُوا كَهَؤُلاءِ الَّذِينَ ظَنُّوا أنَّ فِرارَهم يُنْجِيهِمْ مِنَ اللَّهِ بَلْ تَكُونُونَ عالِمِينَ بِأنَّكم أيْنَما كُنْتُمْ فَفي قَبْضَتِهِ وطَوْعَ (p-٣٩٢)مَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ فَيُفِيدُكم ذَلِكَ الإقْدامُ عَلى ما كَتَبَ عَلَيْكم مِمّا تَكْرَهُونَهُ مِنَ القِتالِ، أوْ يُقالُ: ولَمّا كانَ المُتَوَفّى قَدْ يُطَلِّقُ زَوْجَهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ فِرارًا مِن إرْثِها وقَدْ يَخُصُّ بَعْضَ وارِثِيهِ مِمّا يُضارُّ بِهِ غَيْرُهُ وقَدْ يَحْتالُ عَلى المُطَلَّقَةِ ضِرارًا بِما يَمْنَعُ حَقَّها خَتَمَ آيَةَ الوَفاةِ عَنِ الأزْواجِ والمُطَلَّقاتِ بِتَرْجِيَةِ العَقْلِ بِمَعْنى أنَّكم إذا عَقَلْتُمْ لَمْ تَمْنَعُوا أحَدًا مِن فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي آتاكم عِلْمًا مِنكم بِأنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَمْنَعَ المُرادَ إعْطاؤُهُ ويَمْنَحَ المُرادَ مَنعُهُ بِأسْبابٍ يُقِيمُها ودَواعِي يَخْلُقُها أوْ يَشْفِي فاعِلَ ذَلِكَ مِن مَرَضِهِ ثُمَّ يَسْلُبُهُ فَضْلَهُ فَيُفْقِرُهُ بَعْدَ غِناهُ ويُضْعِفُهُ بَعْدَ قُواهُ، فَإنَّهُ لا يَنْفَعُ مِن قَدَرِهِ حَذَرٌ، ولا يَدْفَعُ مُرادَهُ كَيَدٌ ولا حِيَلٌ وإنْ كَثُرَ العَدَدُ وجَلَّ المَدَدُ، ﴿ألَمْ تَرَ﴾ إلى أنْ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِالجَلالِ والإكْرامِ ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾ ﴿عَلى النّاسِ﴾ أيْ عامَّةً فَلْيَذْكُرْ كُلُّ واحِدٍ ما لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الفَضْلِ، (p-٣٩٣)ولْيَرْغَبُوا في العَفْوِ عَمَّنْ يَرَوْنَ أنَّ مَنعَهُ عَدْلٌ لِأنَّ ذَلِكَ أقْرَبُ إلى الشُّكْرِ وأبْعَدُ عَنِ الكُفْرِ، فَطَلاقُ الفارِّ إخْراجُ الزَّوْجَةِ عَنْ دائِرَةِ عِصْمَتِهِ حَذَرًا مِن إماتَةِ مالِهِ بِأخْذِ ما يَخُصُّها مِنهُ وخُرُوجِ الزَّوْجِ عَنْ دائِرَةِ النِّكاحِ حَذَرًا مِن مَوْتٍ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِها في عِصْمَتِهِ وخُرُوجِ الأُلُوفِ مِن دارِ الإقامَةِ حَذَرًا مِن مَوْتِ مُطَلِّقٍ، ومِنَ المُناسَباتِ البَدِيعَةِ أنَّهُ لَمّا كانَتْ حَقِيقَةُ حالِ العَرَبِ أنَّهُمُ انْتَقَلُوا بَعْدَ أبِيهِمْ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتّابِعِينَ لَهُ بِإحْسانٍ مِن ضِيقِ دارِ العِلْمِ والإيمانِ حَذَرًا مِن هَلاكِ الأبْدانِ بِتَكالِيفِ الأدْيانِ إلى (p-٣٩٤)قَضاءِ الشَّهَواتِ والعِصْيانِ فَوَقَعُوا في مَوْتِ الجَهْلِ والكُفْرانِ فَلَمّا نَزَلَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ وكانَ أكْثَرُ هَذِهِ السُّورَةِ في الرَّدِّ عَلى أهْلِ الكِتابِ وكَرَّرَ فِيها هِدايَةَ العَرَبِ مِنَ الكُفْرِ والجَهْلِ بِكَلِمَةِ الإطْماعِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ نَحْوَ ﴿ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم ولَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٠] ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣] ﴿لَعَلَّهم يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: ١٨٦] ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩] ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وغَيْرَ ذَلِكَ إلى أنَّ خَتْمَ هَذِهِ الآياتِ بِتَرَجِّي العَقْلِ وكانَ أهْلُ الكِتابِ قَدِ اشْتَدَّ حَسَدُهم لَهم بِجَعْلِ النَّبِيِّ الَّذِي كانُوا يَنْتَظِرُونَهُ مِنهم وكانَ الحاسِدُ يَتَعَلَّقُ في اسْتِبْعادِ الخَيْرِ عَنْ مَحْسُودِهِ بِأدْنى شَيْءٍ كانُوا كَأنَّهم قالُوا: أيُحْيِي هَؤُلاءِ العَرَبُ عَلى كَثْرَتِهِمْ وانْتِشارِهِمْ في أقْطارِ هَذِهِ الجَزِيرَةِ مِن مَوْتِ الكُفْرِ والجَهْلِ بِالإيمانِ والعِلْمِ بَعْدَ أنْ تَمادَتْ بِهِمْ فِيهِما الأزْمانُ وتَوالَتْ عَلَيْهِمُ اللَّيالِي والأيّامُ حَتّى عَتَوْا فِيهِما وعَسَوْا ومَرَدُوا عَلَيْهِما وقَسَوْا؟ فَأُجِيبُوا بِـ نَعَمْ وما اسْتَبْعَدْتُمُوهُ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَقالُوا: فَإنْ كانَ لِلَّهِ بِهِمْ عِنايَةٌ فَلِمَ تَرَكَهم يَجْهَلُونَ ويَكْفُرُونَ بَعْدَ ما شَرَعَ لَهم أبُوهم إسْماعِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دِينَ أبِيهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فَأُجِيبُوا بِأنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِذَنْبٍ اسْتَحَقُّوهُ (p-٣٩٥)لِحِكْمَةٍ اقْتَضاها سابِقُ عِلْمِهِ ثُمَّ ذَكَّرَهم قُدْرَتَهُ في مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ العُقُوبَةِ واللُّطْفِ بِما هم بِهِ عالِمُونَ فَقالَ تَعالى مُخاطِبًا لِنَبِيِّهِ ﷺ والمُرادُ هم - كَما يُقالُ: الكَلامُ لَكِ واسْمَعِي يا جارَةُ - ﴿ألَمْ تَرَ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِكُلِّ فاهِمٍ أيْ تَعْلَمُ بِقَلْبِكَ أيُّها السّامِعُ عِلْمًا هو كالرُّؤْيَةِ بِبَصَرِكَ لِما تَقَدَّمَ مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي هي أضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ عَلى القُدْرَةِ عَلى البَعْثِ ويُؤَيِّدُ أنَّهُ لَمَحَ فِيهِ الإبْصارَ تَعْدِيَتُهُ بِـ إلى في قَوْلِهِ: ﴿إلى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ وقالَ: ﴿فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها عُقُوبَةً لَهم بِفِرارِهِمْ مِن أمْرِهِ ﴿مُوتُوا ثُمَّ أحْياهُمْ﴾ بَعْدَ أنْ تَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ وتَقادَمَ بِهِمُ الزَّمَنُ كَما أفْهَمُهُ العَطْفُ بِحَرْفِ التَّراخِي تَفَضُّلًا مِنهُ، فَكَما تَفَضَّلَ عَلى أُولَئِكَ بِحَياةِ أشْباهِهِمْ بَعْدَ عُقُوبَتِهِمْ بِالمَوْتِ فَهو يَتَفَضَّلُ عَلى هَؤُلاءِ بِحَياةِ أرْواحِهِمْ مِن مَوْتِ الكُفْرِ والجَهْلِ إظْهارًا لِشَرَفِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها بِما لَهُ مِنَ الجَلالِ والعَظَمَةِ والكَمالِ ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾ أيْ عَظِيمٍ ﴿عَلى النّاسِ﴾ أيْ (p-٣٩٦)كافَّةً مُطِيعِهِمْ وعاصِيهِمْ. قالَ الحَرالِيُّ: بِما يَنْسُبُهم تارَةً إلى أحْوالٍ مُهْوِيَةٍ ثُمَّ يُنْجِيهِمْ مِنها إلى أحْوالٍ مُنْجِيَةٍ بِحَيْثُ لَوْ أبْقى هَؤُلاءِ عَلى هَذِهِ الإماتَةِ ومَن لَحِقَ بِسُنَّتِهِمْ مِن بَعْدِهِمْ لَهَلَكَتْ آخِرَتُهم كَما هَلَكَتْ دُنْياهم ولَكِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى أحْياهم لِتَجَدُّدِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمُ - انْتَهى. كَما تَفَضَّلَ عَلَيْكم يا بَنِي إسْرائِيلَ بِأنْ أحْياكم مِن مَوْتِ العُبُودِيَّةِ وذَلِكَ الذُّلِّ بَعْدَ أنْ كانَ ألْزَمَكُمُوهُ بِذُنُوبِكم دُهُورًا طَوِيلَةً وكَما تَفَضَّلَ عَلَيْكم أيُّها العَرَبُ بِقَصِّ مِثْلِ هَذِهِ الأخْبارِ عَلَيْكم لِتُعْتَبَرُوا ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ كَرَّرَ الإظْهارَ ولَمْ يُضْمِرْ لِيَكُونَ أنَصَّ عَلى العُمُومِ لِئَلّا يَدَّعِي مُدَّعٍ أنَّ المُرادَ بِالنّاسِ الأُوَلِ أهْلُ زَمانٍ ما فَيَخُصُّ الثّانِي أكْثَرَهم ﴿لا يَشْكُرُونَ﴾ وذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِبَنِي إسْرائِيلَ في أنَّهم لَمْ يَشْكُرُوهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في الوَفاءِ بِمُعاهِدَتِهِ لَهم في اتِّباعِ هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي هَذا الأُسْلُوبِ بَعْدَ هَذِهِ المُناسَباتِ إثْباتٌ لِقُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى الإعادَةِ وجَرٌّ لِمُنْكِرِ ذَلِكَ إلى الحَقِّ مِن حَيْثُ (p-٣٩٧)لا يَشْعُرُ. قالَ الحَرالِيُّ: والشُّكْرُ ظُهُورُ باطِنِ الأمْرِ عَلى ظاهِرِ الخُلُقِ بِما هو باطِنٌ فَمِن حَيْثُ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قَسْرًا فالشُّكْرُ أنْ يَبْدُوَ الخُلُقُ كُلُّهُ بِاللَّهِ شُكْرًا، لِأنَّ أصْلَ الشَّكُورِ الدّابَّةُ الَّتِي يَظْهَرُ عَلَيْها ما تَأْكُلُهُ سِمَنًا وصَلاحًا، فَمَن أُودِعَ خُلُقَ أمْرٍ لَمْ يَبْدُ عَلى خُلُقِهِ فَهو كَفُورٌ. فَلَمّا أوْدَعَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في ذَواتِ الأشْياءِ مِن مَعْرِفَتِهِ وعِلْمِهِ وتَكْبِيرِهِ كانَ مَن لَمْ يَبْدُ ذَلِكَ عَلى ظاهِرِ خُلُقِهِ كَفُورًا، ومَن بَدا ما اسْتَسَرَّ فِيهِ مِن ذَلِكَ شَكُورًا، ولَيْسَ مِن وصْفِ النّاسِ ذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ أنْ يَكُونَ البادِي عَلَيْهِمْ عِنْدَهم تارَةً مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وتارَةً مِن أنْفُسِهِمْ ومِمَّنْ دُونَ اللَّهِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُ أوْلِياءَ عَلى حَدِّ كُفْرٍ أوْ هَوًى أوْ بِدْعَةٍ أوْ خَطِيئَةٍ وعَلى حَدِّ رَيْنِ كَسْبِهِمْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَفي اعْتِبارِ هَذِهِ الآيَةِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الأمَةِ مِن أنْ يَحْذَرُوا المَوْتَ. قالَ بَعْضُ التّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ: لَقَدْ رَأيْنا أقْوامًا يَعْنُونَ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَوْتُ إلى أحَدِهِمْ أشْهى مِنَ الحَياةِ عِنْدَكُمُ اليَوْمَ؛ وإنَّما ذَلِكَ لَمّا تَحَقَّقُوا مِن مَوْعُودِ الآخِرَةِ حَتّى كَأنَّهم يُشاهِدُونَهُ فَهانَ عَلَيْهِمُ الخُرُوجُ مِن خَرابِ الدُّنْيا إلى عِمارَةِ آخِرَتِهِمُ - انْتَهى. وما أحْسَنَ (p-٣٩٨)الرُّجُوعَ إلى قَصَصِ الأقْدَمِينَ والِالتِفاتِ إلى قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] عَلى هَذا الوَجْهِ وهَؤُلاءِ الَّذِينَ أماتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أحْياهُمْ؛ قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ: إنَّ إحْياءَهم كانَ عَلى يَدِ حِزْقِيلَ أحَدِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وقالَ البَغَوِيُّ: إنَّهُ ثالِثُ خُلَفائِهِمْ، والَّذِي رَأيْتُهُ في سِفْرِ الأنْبِياءِ المَبْعُوثِينَ مِنهم بَعْدَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِتَجْدِيدِ أمْرِ التَّوْراةِ وإقامَةِ ما دُرِسَ مِن أحْكامِها وهم سِتَّةَ عَشَرَ نَبِيًّا أوَّلُهم يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وآخِرُهم دانْيالُ عَلى جَمِيعِهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتَّحِيَّةُ والإكْرامُ أنَّ حِزْقِيلَ خامِسُ عَشَرِهِمْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. قالَ في الإصْحاحِ الحادِي والعِشْرِينَ مِن نُبُوَّتِهِ: وكانَتْ (p-٣٩٩)عَلى يَدِ الرَّبِّ وأخْرَجَنِي رُوحُ الرَّبِّ إلى صَحْراءَ مَمْلُوءَةٍ عِظامَ مَوْتى وأمَرَنِي أجُوزُ عَلَيْها وأدُورُ حَوْلَها، فَرَأيْتُها كَثِيرَةً في الصَّحْراءِ يابِسَةً وقالَ لِي: يا ابْنَ الإنْسانِ! هَلْ تَعِيشُ هَذِهِ العِظامُ؟ فَقُلْتُ: أنْتَ تَعْلَمُ يا رَبَّ الأرْبابِ! قالَ لِي: تَنَبَّأْ عَلى هَذِهِ العِظامِ وقُلْ لَها: أيَّتُها العِظامُ البالِيَةُ! اسْمَعُوا كَلامَ اللَّهِ أنَّ هَكَذا يَقُولُ رَبُّ الأرْبابِ لِهَذِهِ العِظامِ: إنِّي أرُدُّ فِيكُمُ الرُّوحَ فَتَحْيَوْنَ وتَعْلَمُونَ أنِّي أنا الرَّبُّ، آتِي بِالعَصَبِ والجِلْدِ واللَّحْمِ أُنْبِتُهُ، وأرُدُّ فِيكُمُ الأرْواحَ فَتَحْيَوْنَ، فَلَمّا تَنَبَّأْتُ بِهَذا صارَ صَوْتٌ عَظِيمٌ وزَلْزَلَةٌ، واقْتَرَبَتِ العِظامُ كُلُّ عَظْمٍ إلى مَفْصِلِهِ، ورَأيْتُ قَدْ صَعِدَ عَلَيْها العَصَبُ ونَبَتَ اللَّحْمُ ورُدَّ عَلَيْها الجِلْدُ مِن فَوْقِ ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ فِيهِمْ رُوحٌ، وقالَ الرَّبُّ: يا ابْنَ الإنْسانِ! هَذِهِ العِظامُ كُلُّها مِن بَنِي إسْرائِيلَ ومِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ كانُوا يُقْتَلُونَ وقَدْ بَلِيَتْ عِظامُهم وكُلُّ رَجُلٍ بَطَلٌ، تَنَبَّأْ أيُّها الإنْسانُ وقُلْ لِلرُّوحِ: هَكَذا يَقُولُ رَبُّ الأرْبابِ: تَعالَوْا أيُّها الأرْواحُ، وأنْفُخُ في هَؤُلاءِ القَتْلى فَيَعِيشُوا، فَتَنَبَّأْتُ كالَّذِي أمَرَنِي الرَّبُّ، فَدَخَلَتْ فِيهِمُ الرُّوحُ (p-٤٠٠)وعاشُوا وقامُوا عَلى أرْجُلِهِمْ جَيْشٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وقالَ لِي الرَّبُّ: يا ابْنَ الإنْسانِ! هَذِهِ العِظامُ كُلُّها مِن بَنِي إسْرائِيلَ ومِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ كانُوا يُقْتَلُونَ وقَدْ بَلِيَتْ عِظامُهم وكُلُّ رَجُلٍ بَطَلٌ، فَمِن أجْلِ هَذا تَنَبَّأْ وقُلْ: هَكَذا يَقُولُ رَبُّ الأرْبابِ: هو ذا أفْتَحُ قُبُورَكم وأُصْعِدُكم مِن قُبُورِكم وآتِي بِكم إلى أرْضِ إسْرائِيلَ وتَعْلَمُونَ أنِّي أنا الرَّبُّ أنْفُخُ فِيكم رُوحِي فَتَعِيشُونَ وأتْرُكُكم تَعْمَلُونَ؛ قَدْ قُلْتُ هَذا وأنا أفْعَلُهُ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب