الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ذِكْرُ أحْكامِ عِشْرَةِ النِّساءِ عَلى هَذا الوَجْهِ مَظِنَّةَ سُؤالِ سائِلٍ كَما تَقَدَّمَ يَقُولُ: قَدِ اسْتَغْرَقَ الِاشْتِغالُ بِهِنَّ الزَّمانَ وأضَرَّ بِالفَراغِ لِلْعِبادَةِ وكانَ هَذا السُّؤالُ إيماءً إلى الِاسْتِئْذانِ في الرَّهْبانِيَّةِ والِاخْتِصاءِ الَّذِي سَألَ فِيهِ مَن سَألَ كَما سَيُبَيَّنُ إنْ شاءَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في المائِدَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] وكانَ الإعْراضُ عَنْ جَوابِ السّائِلِ بِالأمْرِ بِالمُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ رُبَّما أشْعَرَ بِالإقْرارِ عَلى مَضْمُونِ السُّؤالِ والإذْنِ في التَّرَهُّبِ بِقَرِينَةِ الإعْراضِ عَنِ السُّؤالِ ورُبَّما كانَ مُشِيرًا إلى النَّهْيِ عَنِ التَّرَهُّبِ بِقَرِينَةِ السُّكُوتِ عَلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الأمْرِ بِعِشْرَتِهِنَّ مِن غَيْرِ نَهْيٍ عَنْهُ عَقَّبَ الأمْرَ بِذَلِكَ بِبَعْضِ آياتِ النِّساءِ تَأْكِيدًا لِما أفْهَمَتْهُ تِلْكَ الإشارَةُ أيِ اتْرُكُوا التَّرَهُّبَ وكُونُوا رِجالًا في الِاقْتِداءِ بِنَبِيِّكم ﷺ (p-٣٧٨)فِي القِيامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وحُقُوقِ نَفْسِهِ وغَيْرِهِ مِن سائِرِ العِبادِ وجَعَلَ ما تَعْقُبُ آيَةَ الصَّلاةِ مِن تَعَلُّقِ النِّكاحِ آيَتَيْنِ فَقَطْ أُولاهُما في حُكْمٍ مِن أحْكامِ المَوْتِ وهي مَنسُوخَةٌ كَما قالَ الأكْثَرُ لَيْسَتْ مِن دَعائِمِ أحْكامِ هَذا البابِ إشارَةً إلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الإقْبالُ عَلى العِبادَةِ أكْثَرَ وأنْ يَكُونَ الِاشْتِغالُ بِأمْرِ النِّساءِ والأوْلادِ إنَّما هو عَلى وجْهِ التَّزَوُّدِ لِلْمَوْتِ وما بَعْدَهُ فَقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ﴾ وقالَ الحَرالِيُّ: لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أحْكامَ الأزْواجِ في الطَّلاقِ والوَفاةِ وحُكْمَ الفَرْضِ والمُتْعَةِ في المُطَلَّقاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ خَتَمَ هَذِهِ الأحْكامَ المُؤَكَّدَةَ بِالفَرْضِ والأمْرِ بِما هو مِن نَحْوِها فَنَظَمَ بِالمُتْعَةِ مِنَ النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ والإخْدامِ وما في مَعْناهُ المُتْعَةُ بِالسُّكْنى لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها إلى حَدِّ ما كانَتِ العِدَّةُ في الجاهِلِيَّةِ لِيَكُونَ لِلْخَيْرِ والمَعْرُوفِ بَقاءٌ في الإسْلامِ بِوَجْهٍ ما أيَّما عَقْدٍ وعَهْدٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَلَنْ يَزِيدَهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً - انْتَهى. فَقالَ تَعالى: ﴿يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ أيْ يُقارِبُونَ أنْ يَسْتَوْفِيَ أرْواحَهم مَن أعارَها أبْدانَهم فَيُخَلِّصَها مِنها كامِلَةً لا يُغادِرُ مِنها شَيْئًا ولا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنَ الجِسْمِ مَعَها مَعَ ما بَيْنَهُما مِن كَمالِ الِامْتِزاجِ الَّذِي لا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلى تَمْيِيزِ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ إلّا هو سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَلْيُوصُوا ﴿وصِيَّةً﴾ ومَن رَفَعَ فالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: فَعَلَيْهِمْ (p-٣٧٩)وصِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ تُحْمَلَ الوَفاةُ عَلى حَقِيقَتِها ويَكُونَ التَّقْدِيرُ: وصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِأزْواجِهِمْ، أوْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ وصِيَّةً ﴿لأزْواجِهِمْ﴾ بِالسُّكْنى في بُيُوتِهِمْ ﴿مَتاعًا﴾ لَهُنَّ ﴿إلى﴾ رَأْسِ ﴿الحَوْلِ﴾ مِن حِينِ الوَفاةِ. قالَ الحَرالِيُّ: وهو غايَةُ العُمْرِ وجامِعٌ لِجُمْلَةِ الفُصُولِ الَّتِي بِوَفائِها تَظْهَرُ أحْوالُ الصَّبْرِ عَنِ الشَّيْءِ والحِرْصِ عَلَيْهِ وإنَّما الحَوْلُ الثّانِي اسْتِدْراكٌ - انْتَهى. ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ أيْ غَيْرَ مُصاحِبٍ ذَلِكَ المَتاعَ بِنَوْعِ إخْراجٍ أوْ غَيْرِ ذَوِي إخْراجٍ. قالَ الحَرالِيُّ: لِتَكُونَ الأرْبَعَةُ الأشْهُرِ والعَشَرُ فَرْضًا وباقِي الحَوْلِ مَتاعًا لِتَلْحَقَ أنْواعُ المُتْعَةِ بِأنْواعِ اللّازِمِ في الزَّوْجِيَّةِ مِن نَفَقَةٍ وكُسْوَةٍ وإخْدامٍ وسُكْنى، ولَمّا كانَ هَذا المَتاعُ الزّائِدُ إنَّما هو تَقْرِيرٌ لِلزَّوْجَةِ في حالِ ما كانَتْ عَلَيْهِ مَعَ زَوْجِها إشْعارًا بِبَقاءِ العِصْمَةِ وإلاحَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى بِحُسْنِ صَبْرِ المَرْأةِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها عَلى زَوْجِها، لا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ حَتّى تَلْقاهُ فَتَكُونُ مَعَهُ عَلى النِّكاحِ السّابِقِ لِيَكُونَ لِلْأُمَّةِ في أزْواجِهِمْ لَمْحَةُ حَظٍّ مِن تَحْرِيمِ أزْواجِ نَبِيِّهِمْ بَعْدَهُ اللّاتِي يَقُمْنَ بَعْدَهُ إلى أنْ يَلْقَيْنَهُ أزْواجًا بِحالِهِنَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَن يَسْتَشْرِفُ مِن خَواصِّ أُمَّتِهِ إلى اتِّباعِهِ في أحْكامِهِ وأحْكامِ أزْواجِهِ لِأنَّ الرِّجالَ مِمّا يَسْتَحْسِنُونَ ذَلِكَ لِأزْواجِهِمْ، فَمِن أشَدِّ (p-٣٨٠)ما يَلْحَقُ الرَّجُلَ بَعْدَ وفاتِهِ تَزَوُّجُ زَوْجِهِ مِن بَعْدِهِ لِأنَّها بِذَلِكَ كَأنَّها هي المُطَلِّقَةُ لَهُ، ولِذَلِكَ ورَدَ أنَّ المَرْأةَ إنَّما تَكُونُ لِآخِرِ زَوْجٍ. لِأنَّها تَرَكَتِ الزَّوْجَ ولَمْ يَتْرُكْها هُوَ، قالَ ﷺ: «أنا وسَفْعاءُ الخَدَّيْنِ حَبَسَتْ نَفْسَها عَلى يَتاماها حَتّى ماتُوا - أوْ: بانُوا - كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ» كَأنَّهُ ﷺ أكَّدَ ذَلِكَ المَعْنى عَلى مَن تَرَكَ لَها المُتَوَفّى ذُرِّيَّةً لِأنَّهُ أثْبَتُ عَهْدٍ مَعَهُ - انْتَهى. رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ قالَ: كانَتْ هَذِهِ العِدَّةُ تُعْتَدُّ عِنْدَ أهْلِ زَوْجِها واجِبٌ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةً لأزْواجِهِمْ مَتاعًا إلى الحَوْلِ غَيْرَ إخْراجٍ﴾ قالَ: جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَها تَمامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أشْهُرٍ وعِشْرِينَ لَيْلَةً وصِيَّةً، إنْ شاءَتْ سَكَنَتْ في وصِيَّتِها وإنْ شاءَتْ خَرَجَتْ وهو قَوْلُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ فالعِدَّةُ كَما هي واجِبٌ عَلَيْها. ولَمّا كانَ هَذا المَتاعُ الواجِبُ مِن جِهَةِ الزَّوْجِ جائِزًا مِن جِهَةِ المَرْأةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنْ خَرَجْنَ﴾ أيْ مِن أنْفُسِهِنَّ مِن غَيْرِ مُزْعِجٍ (p-٣٨١)ولا مُخْرِجٍ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ يا أهْل الدِّينِ الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ ﴿فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٤] مِنَ النِّكاحِ ومُقَدَّماتِهِ. ولَمّا كانَتْ لَهُنَّ في الجاهِلِيَّةِ أحْوالٌ مُنْكَرَةٌ في الشَّرْعِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن مَعْرُوفٍ﴾ أيْ عِنْدَكم يا أهْلَ الإسْلامِ. ولَمّا كانَ في هَذا حُكْمانِ حُكْمٌ مِن جِهَةِ الرِّجالِ فَضْلٌ وآخَرُ مِن جِهَةِ النِّساءِ عَفْوٌ فَكانَ التَّقْدِيرُ: فاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وفي ضِمْنِهِ كَما قالَ الحَرالِيُّ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلْأوْلِياءِ إنْ لَمْ يُنَفِّذُوا ويُمْضُوا هَذِهِ الوَصِيَّةَ بِما ألْزَمَ اللَّهُ، فَفي إلاحَتِهِ أنَّ مَن أضاعَ ذَلِكَ نالَهُ مِن عِزَّةِ اللَّهِ عُقُوباتٌ في ذاتِ نَفْسِهِ وزَوْجِهِ ومُخْلِفِيهِ مِن بَعْدِهِ ويَجْرِي مَأْخَذَ ما تَقْتَضِيهِ العِزَّةُ عَلى وزْنِ الحِكْمَةِ جَزاءً وِفاقًا وحُكْمًا قِصاصًا، وهَذِهِ (p-٣٨٢)الآيَةُ مِمّا ذَكَرَ فِيها بَعْضُ النّاسِ النَّسْخَ وإنَّما هي مِمّا لَحِقَها نِسْيانٌ أوْقَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى الخَلْقِ حَتّى لا يَكادَ أنْ يَكُونَ عَمِلَ بِها أحَدٌ إلّا أحَدًا لَمْ يُذْكَرْ بِهِ ولَمْ يَشْتَهِرْ مِنهُ فَهي مِمّا أنْسى فَرانَ عَلَيْهِ النِّسْيانُ لِأمْرٍ شاءَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ، وقَدْ ورَدَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أنْفَذَ لِامْرَأةٍ مِن تَرِكَةِ زَوْجِها نَفَقَةَ سَنَةٍ» وذَلِكَ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الفَرائِضِ حِينَ كانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ - انْتَهى. وبِما قالَ الحَرالِيُّ مِن أنَّها غَيْرُ مَنسُوخَةٍ قالَ مُجاهِدٌ كَما تَقَدَّمَ في رِوايَةِ البُخارِيِّ عَنْهُ أنَّ الزَّوْجَةَ إنِ اخْتارَتْ هَذا فَعِدَّتُها الحَوْلُ وإلّا فَعِدَّتُها الآيَةُ الأُولى، ونَقَلَهُ الشَّمْسُ الأصْفَهانِيُّ عَنْهُ في تَفْسِيرِهِ، ونُقِلَ عَنْ بَلَدَيْهِ أبِي مُسْلِمٍ قَرِيبًا مِنهُ فَإنَّهُ قالَ بَعْدَ أنْ نُقِلَ عَنْهُ أنَّها غَيْرُ مَنسُوخَةٍ: لَيْسَ (p-٣٨٣)التَّقْدِيرُ ما يُفِيدُ الوُجُوبَ عَلى الزَّوْجِ مِثْلَ: فَلْيُوصُوا بَلِ التَّقْدِيرُ: وقَدْ وصَّوْا، أوْ: ولَهم وصِيَّةٌ. وحَسَّنَ تَعْقِيبَ آيَةِ المُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ بِعِدَّةِ الوَفاةِ كَوْنُ الخَوْفِ المَذْكُورِ فِيها مِن أسْبابِ القَتْلِ، ولَعَلَّ إثْباتَها في التِّلاوَةِ مَعَ كَوْنِها مَنسُوخَةَ الحُكْمِ عَلى ما قالَ الجُمْهُورُ تَذْكِيرًا لِلنِّساءِ بِما كانَ عِدَّةً لَهُنَّ في أوَّلِ الأمْرِ لِئَلّا يَسْتَطِلْنَ العِدَّةَ الثّابِتَةَ بِأرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ فَيَنْتَهِكْنَ شَيْئًا مِن حُرُماتِها، كَما أشارَ إلَيْهِ ما في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّ امْرَأةً اسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ ﷺ أنْ تُكَحِّلَ ابْنَتَها لِوَجَعٍ أصابَها، فَأبى وقالَ: ”قَدْ كانَتْ إحْداكُنَّ في الجاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلى رَأْسِ الحَوَلِ“» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب