الباحث القرآني

(p-١٨٣)ولَمّا كانَ هَذا الخَتْمُ مُؤْذِنًا بِالعَذابِ وكانَ إتْيانُ العَذابِ مِن مَحَلٍّ تُتَوَقَّعُ مِنهُ الرَّحْمَةُ أفْظَعَ وكانَ أنْفَعُ الأشْياءِ السَّحابَ لِحَمْلِهِ الغَيْثَ والمَلائِكَةَ الَّذِينَ هم خَيْرٌ مَحْضٌ وكانَ الَّذِينَ شاهَدُوا العَذابَ مِنَ السَّحابِ الَّذِي هو مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ لِيَكُونَ أهْوَلُ عادًا وبَنِي إسْرائِيلَ وكانَ عادٌ قَدْ مَضَوْا فَلا يُمْكِنُ عادَةً سُؤالُهم وكانَ مَن زَلَّ بَعْدَ هَذا البَيانِ قَدْ أشْبَهَ بَنِي إسْرائِيلَ في هَذا الحالِ فَكانَ جَدِيرًا بِأنْ يُشْبِهَهم في المَآلِ فِيما صارُوا إلَيْهِ مِن ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ وحُلُولِ الغَضَبِ والوُقُوعِ في العَطَبِ قالَ تَعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أيْ يَنْتَظِرُونَ إذا زَلُّوا. سائِقًا لَهُ في أُسْلُوبِ الإنْكارِ، وصِيغَةُ الغَيْبَةِ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِافْتِعالِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الزّالِّينَ في غايَةِ البُعْدِ عَنْ مُواطِنِ الرَّأْفَةِ والِاسْتِحْقاقِ بِمَظْهَرِ الكِبْرِ والنِّقْمَةِ بِإعْراضِ السَّيِّدِ عَنْ خِطابِهِمْ وإقْبالِهِ مِن عَذابِهِمْ عَلى ما لَمْ يَكُنْ في حِسابِهِمْ ﴿إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ مَجْدُ الَّذِي (p-١٨٤)لا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ تَجَلِّيَ عَظَمَتِهِ وظُهُورَ جَلالِهِ، كائِنًا مَجْدُهُ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ ظُلَّةً في داخِلِ ظُلَّةٍ، وهي ما يَسْتُرُ مِنَ الشَّمْسِ فَهي في غايَةِ الإظْلامِ والهَوْلِ والمَهابَةِ لِما لَها مِنَ الكَثافَةِ الَّتِي تَغُمُّ عَلى الرّائِي ما فِيها وتُدَمِّرُ ما أتَتْ عَلَيْهِ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ المَجْدِ الَّذِي لا يُقَدِّرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ إلّا اللَّهُ ﴿والمَلائِكَةُ﴾ أيْ ويَأْتِي جُنْدُهُ الَّذِينَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم، هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ، وعَلى قِراءَةِ أبِي جَعْفَرٍ بِالخَفْضِ، المَعْنى وظُلَلٌ مِنَ المَلائِكَةِ أيْ جَماعاتٌ يَمْلَئُونَ الأقْطارَ لِيَتَبادَرُوا إلى امْتِثالِ أوامِرِهِ؛ وهَلْ يَنْتَظِرُونَ (p-١٨٥)مِنَ القَوِيِّ المُحْكِمِ لِما يَفْعَلُ العَزِيزُ الَّذِي يَعْلُو أمْرُهُ كُلَّ أمْرٍ إلّا إتْيانَهُ بِالبَأْسِ إذا غَضِبَ بَعْدَ طُولِ الحِلْمِ وتَمادِي الأناةِ فَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ ولا يُعارَضُ أمْرَهُ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقُضِيَ﴾ أيْ والحالُ أنَّهُ قَدْ قُضِيَ ﴿الأمْرُ﴾ أيْ نَفَذَ بِإهْلاكِهِمْ سَرِيعًا فَرَجَعُوا إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأسْرِهِمْ لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ شَيْئًا ﴿وإلى اللَّهِ﴾ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ وحْدَهُ ﴿تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ كُلُّها دُنْيا وأُخْرى، فَإنَّ حُكْمَهُ لا يُرَدُّ وقُدْرَتُهُ لا تُحَدُّ. قالَ الحَرالِيُّ: وإتْيانُ اللَّهِ في مَحَلِّ الإيمانِ أمْرٌ مُبْهَمٌ لا يَنالُهُ عِلْمُ العالِمِينَ ويَقِفُ دُونَهُ إيمانُ المُؤْمِنِينَ، لا يَأْخُذُونَهُ بِكَيْفٍ ولا يَتَوَهَّمُونَهُ بِوَهْمٍ، وإتْيانُ اللَّهِ في أوائِلِ فَهْمِ (p-١٨٦)الفاهِمِينَ بُدُوُّ أمْرِهِ وخِطابُهُ في مَحَلٍّ ما مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أوِ العَرْشِ أوِ الكُرْسِيِّ أوْ ما شاءَ مِن خَلْقِهِ؛ فَهو تَعالى يَجِلُّ أنْ يَحْجُبَهُ كَوْنٌ، فَحَيْثُ ما بَدَأ خِطابُهُ كِفاحًا لا بِواسِطَةٍ فَهُناكَ هو ﴿ونادَيْناهُ مِن جانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ﴾ [مريم: ٥٢] إلى: ﴿إنِّي أنا اللَّهُ﴾ [القصص: ٣٠] وفي الكِتابِ الأوَّلِ: جاءَ اللَّهُ مِن سَيْناءَ - انْتَهى. وتَمامُهُ: وشَرْقٌ مِن جَبَلِ ساعِيرَ وظَهَرَ لَنا مِن جِبالِ فارانَ؛ والمُرادُ بِالأوَّلِ نُبُوَّةُ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو واضِحٌ، وبِالثّانِي نُبُوَّةُ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإنَّ جَبَلَ ساعِيرَ هو جَبَلُ الجَلِيلِ وهو الَّذِي بَيْنَ طَبَرِيَّةَ ومَرْجِ بَنِي عامِرٍ، وبِالثّالِثِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإنَّ فارانَ هي مَكَّةُ المُشَرَّفَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب