الباحث القرآني

(p-١٦٢)ولَمّا كانَ قَدْ أمَرَهم بِذِكْرِهِ عِنْدَ قَضاءِ الأرْكانِ وكانَ رُبَّما فُهِمَ اقْتِصارُهم عَلَيْهِ في الوَقْتِ الَّذِي كانُوا يَذْكُرُونَ فِيهِ آباءَهم قالَ مُعَمِّمًا ولِيَكُونَ الحَثُّ عَلَيْهِ آكَدَ لِتَكْرِيرِ النَّدْبِ إلَيْهِ بِصِيغَةِ الأمْرِ فَيَكُونُ أضْخَمَ لِشَأْنِهِ: ﴿واذْكُرُوا﴾ بِالرَّمْيِ، أمَرَ بِالرَّمْيِ وعَبَّرَ عَنْهُ بِالذِّكْرِ لِيَشْمَلَ كُلَّ ذِكْرٍ لِسانِيًّا كانَ أوْ غَيْرَهُ ﴿اللَّهَ﴾ أيْ لِما يَسْتَحِقُّهُ في ذاتِهِ مِنَ الكَمالِ ﴿فِي أيّامٍ﴾ ولَمّا كانَتْ لا تَحْتاجُ إلى غَيْرِ العَدِّ لِكَوْنِها قَلِيلَةً وبَعْدَ الأيّامِ الَّتِي يُحْتاطُ في أمْرِها بِالرَّأْيِ وغَيْرِهِ حَتّى تَكُونَ مَعْلُوماتٍ قالَ جامِعًا صِفَةَ ما لا يَعْقِلُ بِما اطَّرَدَ فِيها مِنَ الألِفِ والتّاءِ إذا كانَ مَوْصُوفُها جَمْعَ قِلَّةٍ: ﴿مَعْدُوداتٍ﴾ وهي أيّامُ إقامَتِكم بِمِنًى في ضِيافَتِهِ سُبْحانَهُ لِفِعْلِ بَقِيَّةِ ما عَلَيْكم مِن تَتِمّاتِ العِباداتِ الحَجِّيَّةِ أوَّلُها (p-١٦٣)يَوْمُ القَرِّ، وهو الحادِيَ عَشَرَ لِيَسْتَقِرَّ النّاسُ فِيهِ بِمِنًى، ثانِيها يَوْمُ النَّفْرِ الأوَّلِ، ثالِثُها يَوْمُ النَّفْرِ الأعْظَمِ، والثَّلاثَةُ تُسَمّى أيّامَ التَّشْرِيقِ، وهى مَعَ يَوْمِ العِيدِ تُسَمّى أيّامَ النَّحْرِ. والأرْبَعَةُ مَعَ يَوْمِ عَرَفَةَ أيّامُ التَّكْبِيرِ والذِّكْرِ، ولَمّا فُهِمَ مِن هَذا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الإقامَةِ بِها - في مُدَّةِ الثَّلاثَةِ الأيّامِ نَفى ذَلِكَ مُيَسِّرًا لِأنَّ الحَجَّ يَجْمَعُ القَوِيَّ والضَّعِيفَ والخادِمَ والمَخْدُومَ، والضَّعِيفُ في هَذا الدِّينِ أمِيرٌ عَلى القَوِيِّ فَقالَ مُشِيرًا إلى أنَّ الإنْسانَ في ذَلِكَ الجَمْعِ الأعْظَمِ لَهُ نازِعانِ نازِعٌ يَنْزِعُ إلى الإقامَةِ في تِلْكَ الأماكِنِ المَرْضِيَّةِ والجَماعاتِ المَغْفُورَةِ ونازِعٌ يَنْزِعُهُ إلى أهْلِهِ وأوْطانِهِ وعَشائِرِهِ وإخْوانِهِ: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ﴾ مِنكُمُ النَّفْرَ لِلرُّجُوعِ إلى أوْطانِهِ ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ مِنها ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ والعَجَلَةُ فِعْلُ الشَّيْءِ (p-١٦٤)قَبْلَ وقْتِهِ الألْيَقِ بِهِ، وقَيَّدَ بِاليَوْمَيْنِ إعْلامًا بِأنَّ مَن أدْرَكَهُ غُرُوبُ اليَوْمِ الثّانِي بِمِنًى وهو مُقِيمٌ لَزِمَهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ ورَمْيُ اليَوْمِ الثّالِثِ، فَإنْ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِهِ سَقَطَ عَنْهُ المَبِيتُ والرَّمْيُ، قالَ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: بِلا خِلافٍ، وكَذا إنْ أدْرَكَهُ الغُرُوبُ وهو راحِلٌ قَبْلَ أنْ يَنْفَصِلَ (p-١٦٥)مِنها، ولَمْ يُقَيِّدِ التَّأخُّرَ لِأنَّ نِهايَتَهُ بِاليَوْمِ الثّالِثِ مَعْرُوفَةٌ مِن أنَّ الأيّامَ ثَلاثَةٌ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ رُبَّما أفْهَمُ أنَّ المُتَأخِّرَ يَلْحَقُهُ إثْمٌ كَما كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ وكانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم قَوْمًا يُسابِقُونَ إلى المَعالِي وكانَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُرِيدُ الرِّفْقَ بِأهْلِ هَذا الدِّينِ سَتَرَ التَّصْرِيحَ بِالتَّرْغِيبِ في التَّأخُّرِ فَعَبَّرَ عَنْهُ أيْضًا بِنَفْيِ الإثْمِ كالأوَّلِ بَعْدَ أنْ أشارَ إلى التَّرْغِيبِ فِيهِ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ النَّفَرِ الأوَّلِ بِالتَّعَجُّلِ فَقالَ: ﴿ومَن تَأخَّرَ﴾ أيْ فَأقامَ في مِنًى إلى تَمامِ الثَّلاثَةِ فَرَمى اليَوْمَ الثّالِثَ ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ والتَّأخُّرُ إبْعادُ الفِعْلِ مِنَ الآنِ الكائِنِ. قالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ والأصْحابُ: يَجُوزُ النَّفْرُ في اليَوْمِ الثّانِي مِنَ التَّشْرِيقِ ويَجُوزُ في الثّالِثِ، وهَذا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ﴾ - الآيَةَ، قالُوا: والتَّأخُّرُ إلى اليَوْمِ الثّالِثِ أفْضَلُ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَرَ في اليَوْمِ الثّالِثِ» . (p-١٦٦)ولَمّا كانَ مَدارُ الأعْمالِ البَدَنِيّاتِ عَلى النِّيّاتِ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِمَنِ﴾ أيْ هَذا النَّفْيُ لِلْإثْمِ عَنِ القِسْمَيْنِ لِمَنِ ﴿اتَّقى﴾ مِن أهْلِهِما فَأدارَ أفْعالَهُ عَلى ما يُرْضِي اللَّهَ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فافْعَلُوا ما شِئْتُمْ مِنَ التَّعَجُّلِ والتَّأخُّرِ عَطَفَ عَلَيْهِ ما عُلِمَ أنَّهُ رُوحُهُ فَقالَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الشّامِلَةُ. ولَمّا كانَ الحَجُّ حَشْرًا في الدُّنْيا والِانْصِرافُ مِنهُ يُشْبِهُ انْصِرافَ أهْلِ المَوْقِفِ بَعْدَ الحَشْرِ عَنِ الدُّنْيا فَرِيقًا إلى الجَنَّةِ وفَرِيقًا إلى السَّعِيرِ ذَكَّرَهم بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّكُمْ﴾ جَمِيعًا ﴿إلَيْهِ﴾ لا إلى غَيْرِهِ ﴿تُحْشَرُونَ﴾ بَعْدَ البَعْثِ، والحَشْرُ الجَمْعُ بِكُرْهٍ، وهو واقِعٌ عَلى أوَّلِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الأجْداثِ إلى انْتِهاءِ المَوْقِفِ، فاعْلَمُوا لِما يَكُونُ سَبَبًا في انْصِرافِكم مِنهُ إلى دارِ كَرامَتِهِ (p-١٦٧)لا إلى دارِ إهانَتِهِ. قالَ الحَرالِيُّ: وكُلِّيَّةُ الحَجِّ ومَناسِكُهُ مُطابِقٌ في الِاعْتِبارِ لِأمْرِ يَوْمِ الحَشْرِ ومَواقِفُهُ مِن خُرُوجِ الحاجِّ مِن وطَنِهِ مُتَزَوِّدًا كَخُرُوجِ المَيِّتِ مِنَ الدُّنْيا مُتَزَوِّدًا بِزادِ العَمَلِ، ووُصُولُهُ إلى المِيقاتِ وإهْلالُهُ مُتَجَرِّدًا كانْبِعاثِهِ مِنَ القَبْرِ مُتَعَرِّيًا، وتَلْبِيَتُهُ في حَجِّهِ كَتَلْبِيَتِهِ في حَشْرِهِ ﴿مُهْطِعِينَ إلى الدّاعِ﴾ [القمر: ٨] كَذَلِكَ اعْتِبارُهُ مَوْطِنًا إلى غايَةِ الإفاضَةِ والحُلُولِ بِحَرَمِ اللَّهِ في الآخِرَةِ الَّتِي هي الجَنَّةُ، والشُّرْبُ مِن ماءِ زَمْزَمَ الَّتِي هي آيَةُ نُزُلِ اللَّهُ لِأهْلِ الجَنَّةِ عَلى وُجُوهٍ مِنَ الِاعْتِباراتِ يُطالِعُها أهْلُ الفَهْمِ واليَقِينِ، فَلِأجْلِ ذَلِكَ كانَ أتَمُّ خَتْمٍ لِأحْكامِ الحَجِّ ذِكْرَ الحَشْرِ - انْتَهى. وهُنا تَمَّ ما أرادَ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن بَيانِ قَواعِدِ الإسْلامِ الخَمْسِ: الإيمانِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ، المُشارِ إلى الثَّلاثِ الأُوَلِ مِنها بِقَوْلِهِ تَعالى أوَّلَ السُّورَةِ: ﴿يُؤْمِنُونَ (p-١٦٨)بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] وذِكْرُ الحَجَّ لِمَزِيدِ الِاعْتِناءِ بِهِ لاحِقًا لِلصَّوْمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ سابِقًا عَلَيْهِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ هو السَّبَبُ في تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلى الحَجِّ تارَةً وتَأْخِيرِهِ أُخْرى في رِواياتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في الصَّحِيحِ «بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب