الباحث القرآني

ثُمَّ عَلَّلَ إبانَةَ عَداوَتِهِ والنَّهْيَ عَنِ اتِّباعِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما﴾ فَحَصَرَ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الأمْرُ بِشَيْءٍ فِيهِ رُشْدٌ؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ كَما قالَ الحَرالِّيُّ إنْباءٌ بِما مَكَّنَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى حَتّى صارَ أمْرًا ﴿بِالسُّوءِ﴾ وهو خَبائِثُ الأنْفُسِ الباطِنَةِ الَّتِي يُورِثُ فِعْلُها مَساءَةً ﴿والفَحْشاءِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: وهو ما يَكْرَهُهُ الطَّبْعُ مِن رَذائِلِ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ كَما يُنْكِرُهُ العَقْلُ ويَسْتَخْبِثُهُ الشَّرْعُ، فَيَتَّفِقُ في حُكْمِهِ آياتُ اللَّهِ الثَّلاثُ مِنَ الشَّرْعِ والعَقْلِ والطَّبْعِ، بِذَلِكَ يَفْحُشُ (p-٣٢٠)الفِعْلُ ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ﴾ الحائِزِ أقْصى مَراتِبِ العَظَمَةِ ﴿ما لا تَعْلَمُونَ﴾ مِمّا تَسْتَفْتِحُونَ قَوْلَهُ في أقَلِّ المَوْجُوداتِ مِن إشْراكٍ أوِ ادِّعاءِ ولَدٍ أوْ تَحْلِيلٍ وتَحْرِيمٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ولَقَدْ أبْلَغَ سُبْحانَهُ وتَعالى في هَذِهِ الآيَةِ في حُسْنِ الدُّعاءِ لِعِبادِهِ إلَيْهِ لُطْفًا مِنهُ بِهِمْ ورَحْمَةً لَهم بِتَذْكِيرِهِمْ في سِياقِ الِاسْتِدْلالِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ بِما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِ لَهم أوَّلًا وبِجَعْلِهِ لَهم مُلائِمًا ثانِيًا وإباحَتِهِ لَهم ثالِثًا وتَحْذِيرِهِ لَهم مِنَ العَدُوِّ رابِعًا - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن دَقائِقِ الألْطافِ وجَلائِلِ المِنَنِ في سِياقٍ مُشِيرٍ إلى جَمِيعِ أصْنافِ الحَلالِ وسَبَبِ تَحْلِيلِهِ. قالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في كِتابِ العُرْوَةِ في حَرْفِ الحَلالِ: وجْهُ إنْزالِ هَذا الحَرْفِ تَوْسِيعُ الِاسْتِمْتاعِ بِما خَلَقَ اللَّهُ في الأرْضِ مِن نِعَمِهِ وخَيْرِهِ (p-٣٢١)المُوافَقَةِ لِطِباعِهِمْ وأمْزِجَتِهِمْ وقَبُولِ نُفُوسِهِمْ في جَمِيعِ جِهاتِ الِاسْتِمْتاعِ مِن طَعامٍ وشَرابٍ ولِباسٍ ومَرْكَبٍ ومَأْوًى وسائِرِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ مِمّا أخْرَجَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ومِمّا بَثَّهُ في الأرْضِ وما عَمِلَتْ أيْدِيهِمْ في ذَلِكَ مِن صَنْعَةٍ وتَرْكِيبٍ ومَزْجٍ لِيَشْهَدُوا دَوامَ لُبْسِ الخَلْقِ الجَدِيدِ في كُلِّ خَلْقٍ عَلى حَسَبِ ما مِنهُ فَطَرَ خَلْقَهُ؛ ولَمّا كانَ الإنْسانُ مَخْلُوقًا مِن صَفاوَةِ كُلِّ شَيْءٍ تَوَسَّعَ لَهُ بِجِهاتِ الِانْتِفاعِ بِكُلِّ شَيْءٍ إلّا ما اسْتَثْنى مِنهُ بِحَرْفِ الحَرامِ ووَجْهِهِ كَما اسْتَثْنى لِآدَمَ أكْلَ الشَّجَرَةِ مِن مُتَّسَعِ رَغَدِ الجَنَّةِ فَكانَ لَهُ المَتاعُ بِجَمِيعِهِ إلّا ما أضَرَّ بِبَدَنِهِ أوْ خُبْثَ نَفْسِهِ أوْ رانَ عَلى عِلْمِ قَلْبِهِ وذَلِكَ بِأنْ يَسُوغَ لَهُ طَبْعًا وتَحْسُنَ مَغَبَّتُهُ في أخْلاقِ نَفْسِهِ ويُسْنِدُهُ قَلْبُهُ لِمُنْعِمِهِ الَّذِي يَشْهَدُ مِنهُ بِداياتِهِ وتَكَمُّلاتِهِ تَجْرِبَةً ثُمَّ كَمَّلَ القُرْآنُ ذَلِكَ بِإخْلاصِهِ لِلْمُنْعِمِ مِن غَيْرِ أثَرٍ لِما سِواهُ فِيهِ وجامِعِ مَنزِلِهِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ [القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] ومِن أوائِلِهِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ ] البَيانِ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ (p-٣٢٢)ومِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠] الآيَةُ وسائِرُ الآياتِ الوارِدَةِ في سُورَةِ النَّحْلِ وفي سُورَةِ يس إذْ هي القَلْبُ الَّذِي مِنهُ مِدادُ القُرْآنِ كُلِّهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها وأخْرَجْنا مِنها حَبًّا فَمِنهُ يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٣٣] الآياتِ إلى سائِرِ ما في القُرْآنِ مِن نَحْوِهِ، ومِن مُتَّسَعٍ خِلالَ هَذا الحَرْفِ وقَعَتِ الفِتْنَةُ عَلى الخَلْقِ بِما زُيِّنَ لَهم مِنهُ ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤] الآيَةَ ووَجْهُ فِتْنَتِهِ أنَّ عَلى قَدْرِ التَّبَسُّطِ فِيهِ يَحْرُمُ مِن طِيبِ الآخِرَةِ ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ [الأحقاف: ٢٠] «إنَّما يَلْبَسُ هَذِهِ مَن لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ» ﴿فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ﴾ [التوبة: ٦٩] ومِن رُؤْيَةِ سُوءِ هَذا المَخْبَرِ نَشَأ زُهْدُ الزّاهِدِينَ، ومِن رُؤْيَةِ حُسْنِ المَتْجَرِ ورِبْحِهِ وتَضاعُفِهِ إلى ما لا يُدْرَكُ مَداهُ ونَعِيمُهُ في بَيْعِ خَلاقِ الدُّنْيا بِخَلاقِ الآخِرَةِ نَشَأ ورَعُ المُتَوَرِّعِينَ؛ فاسْتَراحَتْ قُلُوبُهم بِالزُّهْدِ، وانْكَفَؤُوا بِالوَرَعِ عَنِ الكَدِّ، وتَفَرَّغَتْ قُلُوبُهم وأعْمالُهم لِبَذْلِ الجِدِّ في سَبِيلِ الحَمْدِ، وتَمَيَّزَ الشَّقِيُّ مِنَ السَّعِيدِ بِالرَّغْبَةِ فِيهِ أوْ عَنْهُ، فَمَن رَغِبَ في الحَلالِ شَقِيَ ومَن رَغِبَ عَنْهُ سَعِدَ؛ وهو الحَرْفُ الَّذِي (p-٣٢٣)قَبَضَ بَسْطَهُ حَرْفُ النَّهْيِ حَتّى لَمْ يَبْقَ لِابْنِ آدَمَ حَظٌّ فِيما زادَ عَلى جِلْفِ الطَّعامِ وهي كِسْرَةٌ وثَوْبٌ يَسْتُرُهُ وبَيْتٌ يُكِنُّهُ، وما زادَ عَلَيْهِ مَتْجَرٌ إنْ أنْفَقَهُ رَبِحَهُ وقَدَّمَ عَلَيْهِ وإنِ ادَّخَرَهُ خَسِرَهُ ونَدِمَ عَلَيْهِ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِأحَدٍ في أكْلِهِ حَتّى يَتَّصِفَ بِالطَّيِّبِ لِلنّاسِ الَّذِينَ هم أدْنى المُخاطَبِينَ بِانْسِلاخِ أكْثَرِهِمْ مِنَ العَقْلِ والشُّكْرِ والإيمانِ ﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] ومَحا اسْمَهُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وهُمُ الَّذِينَ لا يَثْبُتُونَ ولا يَدُومُونَ عَلى خَيْرِ أحْوالِهِمْ بَلْ يُخْلِصُونَ وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢] وهو ما طَيَّبَهُ حَرْفُ النَّهْيِ عِلْمًا، وبَرِئَ مِن حَوادِّ القُلُوبِ طُمَأْنِينَةً، وتَمَّمَ وأنْهى صَفْوَةً لِلْمُرْسَلِينَ فَقالَ ﴿يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [المؤمنون: ٥١] ووَرَدَ جَوابًا لِسُؤالِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ [المائدة: ٤] فَمَن آثَرَ حَرْفَ النَّهْيِ عَلى حَرْفِ الحَلالِ فَقَدْ تَزَكّى واتَّبَعَ الأحْسَنَ وصَحَّ هُداهُ وصَفا لُبُّهُ (p-٣٢٤)ومَن آثَرَ حَرْفَ الحَلالِ عَلى حَرْفِ النَّهْيِ فَقَدْ تَدَسّى وحُرِمَ هُدى الكُتُبِ وعِلْمَ الحِكْمَةِ ومَزِيدَ التَّأْبِيدِ بِما فاتَهُ مِنَ التَّزْكِيَةِ وتَوَرَّطَ فِيهِ مِنَ التَّدْسِيَةِ واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ. ثُمَّ قالَ فِيما بِهِ تَحْصُلُ قِراءَتُهُ: اعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ لَمّا كانَ جامِعًا كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُنْتَفِعًا أمّا في حالِ السِّعَةِ فَمَعَ اسْتِثْناءِ أشْياءَ يَسِيرَةٍ مِمّا يَضُرُّهُ مِن جِهَةِ نَفْسِهِ أوْ غَيْرِهِ أوْ رَبِّهِ عَلى ما ذُكِرَ في الفَصْلِ الأوَّلِ أيْ: حَرْفُ الحَرامِ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] الآيَةَ: وأمّا في حالِ الضَّرُورَةِ فَبِغَيْرِ اسْتِثْناءٍ البَتَّةَ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] والَّذِي تَحْصُلُ بِهِ قِراءَةُ هَذا الحَرْفِ أمّا مِن جِهَةِ القَلْبِ فَمَعْرِفَةُ حِكْمَةِ اللَّهِ في المُتَناوَلِ مِن مَخْلُوقاتِهِ ومَعْرِفَةُ أخَصِّ مَنافِعِها مِمّا خَلَقَهُ، لِيَكُونَ غِذاءً في سِعَةٍ أوْ ضَرُورَةٍ وإدامًا أوْ فاكِهَةً أوْ دَواءً كَذَلِكَ؛ ومَعْرِفَةُ مُوازَنَةِ ما بَيْنَ الِانْتِفاعِ بِالشَّيْءِ ومَضَرَّتِهِ واسْتِعْمالِهِ عَلى حُكْمِ الأغْلَبِ مِن مَنفَعَتِهِ، أوِ اجْتِنابِهِ عَلى حُكْمِ الأغْلَبِ مِن مَضَرَّتِهِ ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ (p-٣٢٥)لِلنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩] وذَلِكَ مُدْرَكٌ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِاعْتِبارِ العَقْلِ وإدْراكِ الحِسِّ في مَخْلُوقاتِهِ كَما أدْرَكَهُ الحَنِيفِيُّونَ، كانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قَدْ حَرَّمَ الخَمْرَ عَلى نَفْسِهِ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ إذا أُخِذَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ يَقُولُ: واللَّهِ لَوْ أصَبْتُ شَيْئًا أشْتَرِيهِ بِمالِي كُلِّهِ يَزِيدُ في عَقْلِي لَفَعَلْتُ فَكَيْفَ أشْتَرِي بِمالِي شَيْئًا يُنْقِصُ مِن عَقْلِي ! وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا ما يُنَبِّهُ عَلى حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في الأشْياءِ الَّتِي بِها تُتَناوَلُ أوْ تُجْتَنَبُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: ١٦٤] «فَقالَ لِطَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وقَدْ ناوَلَهُ سَفَرْجَلَةً ”تَذْهَبُ بِطَخاءِ الفُؤادِ“» «وقالَ لِأبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهو رَمِدٌ في خُبْزِ الشَّعِيرِ والسِّلْقِ: ”كُلْ مِن هَذا فَإنَّهُ أوْفَقُ لَكَ“» «وقالَ في التَّمْرِ والقِثّاءِ: ”حَرُّ هَذا يَكْسِرُ بَرْدَ هَذا“» وقالَ لِرَمِدٍ: «أتَأْكُلُ التَّمْرَ وأنْتَ رَمِدٌ» «وقالَ لِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها في الماءِ المُشَمَّسِ: ”لا تَفْعَلِي يا حُمَيْراءُ ! فَإنَّهُ يُوَلِّدُ البَرَصَ“» وقالَ: «اسْتاكُوا بِكُلِّ عُودٍ ما خَلا الآسَ والرُّمّانَ فَإنَّهُما يُهَيِّجانِ عِرْقَ الجُذامِ» «وقالَ لِامْرَأةٍ اسْتَطْلَقَتْ بالشُّبْرُمِ: ”حارٌّ جارٌّ، ألا اسْتَطْلَقْتِ بِالسَّنا ؟ فَإنَّهُ لَوْ كانَ (p-٣٢٦)شَيْءٌ يُذْهِبُ الدّاءَ لَأذْهَبَهُ السَّنا“» إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا إذا أباحَهُ أوْ حَظَرَهُ نَبَّهَ عَلى حِكْمَتِهِ. وكانَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها تَقُولُ لِلْمَرِيضِ: اصْنَعُوا لَهُ خَزِيرَةً فَإنَّها مُجِمَّةٌ لِفُؤادِ المَرِيضِ وتُذْهِبُ بَعْضَ الحَزَنِ. ومِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِن كَلامِ العُلَماءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم ومُجَرَّباتِ الحُكَماءِ ومَعارِفِ الحُكَماءِ الحُنَفاءِ، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] الطَّيِّباتُ ما اسْتَطابَتْهُ نُفُوسُ العَرَبِ، والخَبائِثُ ما اسْتَخْبَثَتْهُ نُفُوسُ العَرَبِ؛ هَذا مِن جِهَةِ [القَلْبِ ] وأمّا مِن جِهَةِ النَّفْسِ فَسَخاؤُها بِما يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِراكُ [مِنَ ] المُنْتَفَعاتِ المُحَلَّلاتِ، لِأنَّ الشُّحَّ بِالحَلالِ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ مُحْظَرٌ لَهُ عَلى المُخْتَصِّ بِهِ الضِّيافَةُ عَلى أهْلِ الوَبَرِ ﴿وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهم مِنهُ﴾ [النساء: ٨] ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: ٢٦] ﴿فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا القانِعَ (p-٣٢٧)والمُعْتَرَّ﴾ [الحج: ٣٦] وكَذَلِكَ صَبْرُها عَمّا تَشْتَهِيهِ مِنَ المُضِرّاتِ مِنَ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] إلى قَوْلِهِ ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠] ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: ١٦] وكَذَلِكَ التَّراضِي وطِيبُ النَّفْسِ فِيما يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِراكُ ﴿إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلاثَةُ مِنَ السَّخاءِ والصَّبْرِ والتَّراضِي في النَّفْسِ، وأمّا في العَمَلِ وتَناوُلِ اليَدِ فَأوَّلُ ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ والتَّسْمِيَةُ عِنْدَ كُلِّ مُتَناوَلٍ، لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ لِلَّهِ فَما تُنُووِلَ بِاسْمِهِ أُخِذَ بِإذْنِهِ وما تُنُووِلَ بِغَيْرِ اسْمِهِ أُخِذَ تَلَصُّصًا عَلى غَيْرِ وجْهِهِ وشارَكَ الشَّيْطانُ في تَناوُلِهِ فَتَبِعَهُ المُتَناوِلُ مَعَهُ في خُطُواتِهِ وشارَكَهم في الأمْوالِ والأوْلادِ؛ «جاءَ أعْرابِيٌّ وصَبِيٌّ لِيَأْكُلا طَعامًا بَيْنَ أيْدِي النَّبِيِّ ﷺ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَأخَذَ بِأيْدِيهِما وقالَ ”إنَّ الشَّيْطانَ جاءَ لِيَسْتَحِلَّ بِهِما هَذا الطَّعامَ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إنَّ يَدَهُ في يَدِي مَعَ أيْدِيهِما“ فَسَمّى النَّبِيُّ ﷺ (p-٣٢٨)وأكَلَ ثُمَّ أطْلَقَها وقالَ: ”كُلا بِاسْمِ اللَّهِ“ وقالَ لِغُلامٍ آكِلٍ: ”يا غُلامُ ! سَمِّ اللَّهَ“» والثّانِي التَّناوُلُ بِاليَمِينِ، لِأنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُلُ بِشِمالِهِ ويَشْرَبُ بِشِمالِهِ، واليَمِينُ خادِمُ ما عَلا مِنَ الجَسَدِ والشِّمالُ خادِمُ ما سَفَلَ مِنهُ. والثّالِثُ أنْ يَتَناوَلَ تَناوُلَ تَقَنُّعٍ وتَرَفُّعٍ عَنْ تَناوُلِ النُّهْبَةِ «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْكُلُ بِثَلاثَةِ أصابِعَ”“ويَشْرَبُ مَصًّا في ثَلاثٍ”وقالَ:“هُوَ أبْرَأُ وأمْرَأ وأهْنَأُ» وقالَ: «الكُبادُ مِنَ العَبِّ» والرّابِعُ الِاكْتِفاءُ بِما دُونَ الشِّبَعِ لِما في ذَلِكَ مِن حُسْنِ اغْتِذاءِ البَدَنِ وحِفْظِ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ؛ ومِن عَلاماتِ السّاعَةِ ظُهُورُ السِّمَنِ عَنِ الأكْلِ في الرِّجالِ؛ و«ما مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِن بَطْنٍ» و«ما دَخَلَتِ الحِكْمَةُ مَعِدَةً مُلِئَتْ طَعامًا» و«المُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًى واحِدٍ والكافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أمْعاءَ» لِتَوَكُّلِ المُؤْمِنِ في قِوامِهِ ولِاتِّكالِ الكافِرِ عَلى الغِذاءِ في قُوَّتِهِ: «وحَسْبَ المُؤْمِنِ لُقَيْماتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإنْ كانَ ولا بُدَّ فاعِلًا فَثُلُثٌ لِلطَّعامِ وثُلُثٌ لِلشَّرابِ وثُلُثٌ (p-٣٢٩)لِلنَّفَسِ» انْتَهى. قُلْتُ: ولَعَلَّ المُرادَ أنَّ الكافِرَ يَأْكُلُ شِبَعًا فَيَأْكُلُ مِلْأ بَطْنِهِ لِأنَّ الأمْعاءَ كَما قالُوا سَبْعَةٌ، والمُؤْمِنُ يَأْكُلُ تَقَوُّتًا فَيَأْكُلُ في مِعًى واحِدٍ وهو سُبُعُ بَطْنِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَفي مِعاءَيْنِ وشَيْءٍ وهو الثُّلُثُ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ. قالَ الحَرالِّيُّ: والخامِسُ حَمْدُ اللَّهِ تَعالى في الخِتامِ، لِأنَّ مَن لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ في الخِتامِ كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ. ومَن حَمِدَ غَيْرَ اللَّهِ آمَنَ بِطاغُوتِهِ؛ فَبِهَذِهِ الأُمُورِ مَعْرِفَةً في القَلْبِ وحالًا في النَّفْسِ وآدابًا في العَمَلِ تَصِحُّ قِراءَةُ حَرْفِ الحَلالِ ويَحْصُلُ خَيْرُ الدُّنْيا ويَتَمَدَّدُ الأساسُ لِبِناءِ خَيْرِ الآخِرَةِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ولِيُّ التَّوْفِيقِ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب