الباحث القرآني

قَوْلَهُ: ﴿إذْ تَبَرَّأ﴾ وهو مِنَ التَّبَرُّؤِ الَّذِي هو طَلَبُ البَراءَةِ وإيقاعُها بِجِدٍّ واجْتِهادٍ، وهي إظْهارُ التَّخَلُّصِ مِن وُصْلَةٍ أوِ اشْتِباكٍ ﴿الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ أيْ: مَعَ اتِّباعِ غَيْرِهِمْ لَهم، وهُمُ الرُّؤَساءُ ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ مَعَ نَفْعِهِمْ لَهم في الدُّنْيا بِالِاتِّباعِ لَهم والذَّبِّ عَنْهم. وقالَ الحَرالِّيُّ: قالَ ذَلِكَ إظْهارًا لِإفْصاحِ ما أفْهَمَهُ مَضْمُونُ الخِطابِ الأوَّلِ لِتَتَّسِقَ الآياتُ بَعْضُها بِبَعْضٍ، فَتَظْهَرُ الآيَةُ ما في ضِمْنِ سابِقَتِها، وتَجْمَعُ الآيَةُ ما في تَفْصِيلِ لاحِقَتِها وإعْلاءً لِلْخِطابِ بِما هو المَعْقُولُ عِلْمُهُ المُتَقَدِّمُ إلى ما في الإيمانِ نَبَأهُ لِيَتِمَّ نُورُ (p-٣٠٩)العَقْلِ الَّذِي وقَعَ بِهِ الِاعْتِبارُ بِنُورِ الإيمانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ القَبُولُ لِما في الآخِرَةِ عَيانُهُ، فَمَن عَقَلَ عِبْرَةَ الكَوْنِ الظّاهِرِ اسْتَحَقَّ إسْماعَ نَبَأِ الغَيْبِ الآتِي؛ ثُمَّ قالَ: بِذا يَتَبَرَّأُ المَتْبُوعُ في الذِّكْرِ لِأنَّهُ الآخِرُ في الكَوْنِ، فَكَأنَّهُ في المَعْنى: إنَّما تَعَلَّقَ التّابِعُ بِالمَتْبُوعِ لِيُعِيذَهُ في الآخِرَةِ كَما كانَ عَهْدٌ مِنهُ [أنْ يُعِيذَهُ في الدُّنْيا فَيَتَبَرَّأ مِنهُ ] لَمّا ذَكَرَ تَعالى مِن ﴿أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ١٦٥] ولِذَلِكَ اتَّصَلَ ذِكْرُ التَّبَرُّؤِ بِذِكْرِ قَبْضِ القُوَّةِ والقُدْرَةِ عَنْهم. انْتَهى. قالَ تَعالى ﴿ورَأوُا﴾ أيِ: الكُلُّ ﴿العَذابَ﴾ أيِ: الَّذِي لا مَحِيصَ لَهم عَنْهُ. وقالَ الحَرالِّيُّ: قالَهُ رَدًّا لِلْإضْمارِ عَلى الجَمِيعِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ ذَلِكَ قَبْلَ غَلَبَةِ العَذابِ عَلَيْهِمْ وفي حالِ الرُّؤْيَةِ، فَفِيهِ إنْباءٌ بِأنَّ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمُ العَذابَ وبَيْنَ أخْذِهِمْ بِهِ مَهَلٌ يَقَعُ فِيهِ خُصُومَتُهم وتَبَرُّؤُهم وإدْراكُهم لِلْحَقِّ الَّذِي كانَ مُتَغَيِّبًا عَنْهم في الدُّنْيا بِما فَتَنَ بَعْضُهم بَعْضًا. انْتَهى. ﴿وتَقَطَّعَتْ﴾ أيْ: تَكَلَّفَتْ وتَعَمَّدَتِ القَطْعَ وهو بَيْنَ المُتَّصِلِ، أشارَ إلَيْهِ الحَرالِّيُّ، ومَعْناهُ أنَّهُ قَطَّعَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ إشارَةً إلى تَكَرُّرِ القَطْعِ في مُهْلَةٍ بِأنْ يَظْهَرَ لَهُمُ انْقِطاعُ الأسْبابِ (p-٣١٠)شَيْئًا فَشَيْئًا زِيادَةً في إيهانِهِمْ وإيلامِهِمْ وهو أنَّهم ﴿بِهِمُ﴾ أيْ: كُلُّهم جَمِيعُ ﴿الأسْبابُ﴾ أيْ: كُلُّها، وهي الوُصُلُ الَّتِي كانَتْ بَيْنَهم في الدُّنْيا، والسَّبَبُ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى حُصُولٍ، في الأصْلِ الحَبْلُ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مَقْصِدٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: وفِيهِ إشْعارٌ بِخُلُوِّ بَواطِنِهِمْ مِنَ التَّقْوى ومِنَ اسْتِنادِهِمْ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في دُنْياهم، وأنَّهم لَمْ يَكُونُوا عَقَلُوا إلّا تَسَبُّبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ ولَمْ يَكُنْ لَهم، لِأنَّ ذَلِكَ واقِعٌ بِهِمْ في أنْفُسِهِمْ لا واقِعٌ لَهم في غَيْرِهِمْ، فَكَأنَّهم كانُوا نِظامَ أسْبابٍ تَقَطَّعَتْ بِهِمْ فانْتَثَرُوا مِنها، وأسْبابُهم وصْلُ ما بَيْنَهم في الدُّنْيا الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ في الآخِرَةِ، لِأنَّها مِنَ الوُصُلِ الفانِيَةِ لا مِنَ الوُصُلِ الباقِيَةِ لِأنَّ مُتَقاضى ما في الدُّنْيا ما كانَ مِنهُ بِحَقٍّ فَهو مِنَ الباقِياتِ الصّالِحاتِ وما كانَ مِنهُ عَنْ هَوًى فَهو مِنَ الفانِي الفاسِدِ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب