الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ مِمّا أرادَ مِن أحْوالِ الطّاعِنِينَ في القِبْلَةِ الَّتِي هي قِيامٌ لِلنّاسِ وما اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مِمّا يَضْطَرُّهُ إلَيْهِ في إقامَةِ الدِّينِ مِن جِدالِهِمْ وجِلادِهِمْ وخَتَمَ ذَلِكَ بِالهُدى شَرَعَ في ذِكْرِ ما كانَ البَيْتُ بِهِ قِيامًا (p-٢٦٢)لِلنّاسِ مِنَ المَشاعِرِ القائِدَةِ إلى كُلِّ خَيْرٍ الحامِيَةِ عَنْ كُلِّ ضَيْرٍ الَّتِي جُعِلَتْ مَواقِفُها أعْلامًا عَلى السّاعَةِ لا سِيَّما والحَجُّ أخُو الجِهادِ في المَشَقَّةِ والنُّزُوحِ عَنِ الوَطَنِ وقَدْ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ أحَدَ الجِهادَيْنِ مَعَ أنَّهُ مِن أعْظَمِ مَقاصِدِ البَيْتِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآياتِ مَناقِبُهُ المَتْلُوَّةِ مَآثِرُهُ المَنصُوبَةِ شَعائِرُهُ الَّتِي هي في الحَقِيقَةِ دَعائِمُهُ مِنَ الِاعْتِكافِ والصَّلاةِ والطَّوافِ [المُشارِ ] إلى حَجِّهِ واعْتِمارِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] فَأفْصَحَ بِهِ بَعْدَ تِلْكَ الإشارَةِ بَعْضَ الإفْصاحِ إذْ كانَ لَمْ يَبْقَ مِن مَفاخِرِهِ العُظْمى غَيْرُهُ وضَمَّ إلَيْهِ العُمْرَةَ الحَجَّ الأصْغَرَ لِمُشارَكَتِها لَهُ في إظْهارِ فَخارِهِ وإعْلاءِ مَنارِهِ فَقالَ: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ﴾ فَهو كالتَّعْلِيلِ لِاسْتِحْقاقِ البَيْتِ لِأنْ يَكُونَ (p-٢٦٣)قِبْلَةً، وعَرَّفَهُما لِأنَّهُما جَبَلانِ مَخْصُومانِ مَعْهُودانِ تِجاهَ الكَعْبَةِ، اسْمُ الصَّفا مِنَ الصَّفْوَةِ وهو ما يُخَلَّصُ مِنَ الكَدَرِ، واسْمُ المَرْوَةِ مِنَ المَرْوِ وهو ما تَحَدَّدَ مِنَ الحِجارَةِ - قالَهُ الحَرالِّيُّ. وخَصَّهُما هُنا بِالذِّكْرِ إشارَةً إلى أنَّ بَرَكَةَ الإقْبالِ عَلَيْهِما عَلى ما شَرَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مُفِيدَةٌ لِحَياةِ القُلُوبِ بِما أُنْزِلَ عَلى هَذا الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ الباقِيَيْنِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ شِفاءً لِلْقُلُوبِ وزَكاةً لِلنُّفُوسِ زِيادَةً لِلنِّعْمَةِ بِصِفَةِ الشُّكْرِ وتَعْلِيمًا بِصِفَةِ العِلْمِ كَما كانَ الإقْبالُ عَلى السَّعْيِ بَيْنَهُما تَسْلِيمًا لِأمْرِ اللَّهِ مُفِيدًا لِحَياةِ أبِيهِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونَفَعَ مَن بَعْدَهُ بِما أنَبَعَ لَهُ مِن ماءِ زَمْزَمَ الباقِي إلى قِيامِ السّاعَةِ طَعامَ طُعْمٍ وشِفاءَ سُقْمٍ، وفي ذَلِكَ مَعَ تَقْدِيمِ الصَّفا إشارَةً لِلْبُصَراءِ مِن أرْبابِ القُلُوبِ إلى أنَّ الصّابِرَ لِلَّهِ المُبَشَّرَ فِيما قَبْلَها يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ قَلْبُهُ جامِعًا بَيْنَ الصَّلابَةِ والصَّفا، فَيَكُونُ بِصَلابَتِهِ الحَجَرِيَّةِ مانِعًا مِنَ القَواطِعِ الشَّيْطانِيَّةِ، وبِرِقَّتِهِ الزُّجاجِيَّةِ جامِعًا لِلَوامِعِ الرَّحْمانِيَّةِ، بَعِيدًا عَنِ القَلْبِ المائِيِّ بِصَلابَتِهِ، وعَنِ الحَجَرِيِّ بِصَفائِهِ واسْتِنارَتِهِ. ومِن أعْظَمِ المُناسَباتِ أيْضًا كَوْنُ (p-٢٦٤)سَبِيلِ الحَجِّ إذْ ذاكَ كانَ مَمْنُوعًا بِأهْلِ الحَرْبِ، فَكَأنَّها عِلَّةٌ لِما قَبْلَها وكَأنَّهُ قِيلَ: ولَنَبْلُوَنَّكم بِما ذُكِرَ لِأنَّ الحَجَّ مِن أعْظَمِ شَعائِرِ هَذا البَيْتِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبالِهِ وهو مِمّا يُفْرَضُ عَلَيْكم وسَبِيلُهُ مَمْنُوعٌ بِمَن تَعْلَمُونَ، فَلَنَبْلُوَنَّكم بِقِتالِهِمْ لِزَوالِ مانِعِ الحَجِّ وقِتالِ غَيْرِهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ لِإتْمامِ النِّعْمَةِ بِتَمامِ الدِّينِ وظُهُورِهِ عَلى كُلِّ دِينٍ. ومِن أحْسَنِها أيْضًا أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ البَلايا بِنَقْصِ الأمْوالِ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] أتْبَعَها الدَّواءَ الجابِرَ لِذَلِكَ النَّقْصِ دِينًا ودُنْيا، «فَإنَّ الحَجَّ والعُمْرَةَ يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ» رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ورُوِيَ أيْضًا عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم كَما بَيَّنْتُهُ في كِتابِي الِاطِّلاعُ عَلى حَجَّةِ الوَداعِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ جامِعَةٍ مِن أمْرِ الحَجِّ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] مِن حَيْثُ إنَّ النِّعْمَةَ المُضافَةَ إلَيْهِ أحَقُّ بِنِعْمَةِ الدِّينِ وفي ضِمْنِها نِعْمَةُ الدُّنْيا الَّتِي لَمْ يَتَهَيَّأِ الحَجُّ إلّا بِها مِنَ الفَتْحِ والنَّصْرِ والِاسْتِيلاءِ عَلى كافَّةِ العَرَبِ كَما قالَ تَعالى فِيما أنْزَلَ يَوْمَ تَمامِ الحَجِّ الَّذِي (p-٢٦٥)هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] وذَلِكَ بِما أتَمَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلَيْهِمْ مِن نِعْمَةِ تَمامِ مَعالِمِ الدِّينِ وتَأْسِيسِ الفَتْحِ بِفَتْحِ أُمِّ القُرى الَّتِي في فَتْحِها فَتْحُ جَمِيعِ الأرْضِ لِأنَّها قِيامُ النّاسِ نَظَمَ تَعالى بِما تَلاهُ مِنَ الخِطابِ تَفْصِيلًا مِن تَفاصِيلِ أمْرِ الحَجِّ انْتَظَمَ بِأمْرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِن حَيْثُ ما في سَبَبِ إنْزالِهِ مِنَ التَّحَرُّجِ لِلَّذِينِ أُعْلِمُوا بِرَفْعِ الجُناحِ عَنْهم وهم طائِفَةٌ مِنَ الأنْصارِ كانُوا يُهِلُّونَ لِمَناةَ وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ فَتَحَرَّجُوا مِنَ التَّطَوُّفِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ. وطائِفَةٌ أيْضًا خافُوا أنْ يَلْحَقَهم في الإسْلامِ بِعَمَلِهِمْ نَحْوُ ما كانُوا يَعْمَلُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ نَقْصٌ في عَمَلِ الإسْلامِ، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهم لِمُخْتَلِفِ نِيّاتِهِمْ فَإنَّ الأعْمالَ بِالنِّيّاتِ، فَما نُوِيَ لِلَّهِ كانَ لِلَّهِ ولَمْ يَبُلَّ فِيهِ بِمُوافَقَةِ ما كانَ مِن عاداتِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ، وفي فِقْهِهِ صِحَّةُ السُّجُودِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِمَن أُكْرِهَ عَلى السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وفي طَيِّ ذَلِكَ صِحَّةُ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ لِمَن أُكْرِهَ عَلَيْها، أذِنَ ﷺ (p-٢٦٦)غَيْرَ مَرَّةٍ في أنْ يَقُولَ فِيهِ قائِلٌ ما يُوافِقُ الكُفّارَ بِحُسْنِ نِيَّةٍ لِلْقائِلِ فِيهِ ذَلِكَ ولِقَضاءِ حاجَةٍ لَهُ مِن حَوائِجِ دُنْياهُ عِنْدَ الكَفّارِ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ ﷺ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، يَقْبَلُ الضَّمائِرَ ولا يُبالِي بِالظَّواهِرِ في أحْوالِ الضَّرائِرِ، فَرَفَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْهُمُ الجُناحَ بِحُسْنِ نِيّاتِهِمْ وإخْلاصِهِمْ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَلَهم، فَبِهَذا النَّحْوِ مِنَ التَّقاصُرِ في هَذِهِ الرُّتْبَةِ انْتَظَمَ افْتِتاحُ هَذا الخِطابِ بِما قَبْلَهُ مِن أحْوالِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ المُبْتَلِينَ بِما ذُكِرَ. انْتَهى. ﴿مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ أيْ: أعْلامِ دِينِ المَلِكِ الأعْلى الَّذِي دانَ كُلُّ شَيْءٍ لِجَلالِهِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: وهي أيِ الشَّعائِرُ ما أحَسَّتْ بِهِ القُلُوبُ مِن حَقِّهِ، وقالَ: والشُّعَيْرَةُ ما شَعَرَتْ بِهِ القُلُوبُ مِن أُمُورٍ باطِنَةٍ ﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ [الحج: ٣٢] وإنَّما ذَكَرَها تَعالى بِالشَّعائِرِ وعَمَلُها مَعْلَمٌ [مِن ] مَعالِمِ الإسْلامِ (p-٢٦٧)وحُرْمَةٌ مِن حُرُمِ اللَّهِ لَمّا كانَ حَكَمَ في أمْرِ القُلُوبِ الَّتِي كانَ في ضَمائِرِها تَحَرُّجُهم فَمِن حَيْثُ ذَكَّرَها بِالشَّعِيرَةِ صَحَّحَها الإخْلاصُ والنِّيَّةُ ﴿فَمَن حَجَّ﴾ مِنَ الحَجِّ وهو تَرْدادُ القَصْدِ إلى ما يُرادُ خَيْرُهُ وبِرُّهُ. وقالَ الأصْفَهانِيُّ: أصْلُهُ زِيادَةُ شَيْءٍ تُعَظِّمُهُ. انْتَهى. ﴿البَيْتَ﴾ ذَكَرَ البَيْتَ في الحَجِّ والمَسْجِدَ الحَرامَ في التَّوَجُّهِ لِانْتِهاءِ الطَّوافِ إلى البَيْتِ واتِّساعِ المُصَلّى مِن حَدِّ المَقامِ إلى ما وراءَهُ لِكَوْنِ الطّائِفِ مُنْتَهِيًا إلى البَيْتِ وكَوْنِ المُصَلِّي قائِمًا بِمَحَلِّ أدَبٍ يُؤَخِّرُهُ عَنْ مُنْتَهى الطّائِفِ مُداناةُ البَيْتِ، وذَكَّرَهُ تَعالى بِكَلِمَةِ ”مَن“ المُطْلَقَةِ المُسْتَغْرِقَةِ لِأُولِي العَقْلِ تَنَكُّبًا بِالخِطابِ عَنْ خُصُوصِ المُتَحَرِّجِينَ، فَفي إطْلاقِهِ إشْعارٌ بِأنَّ الحَجَّ لا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ مِمّا يَعْرِضُ في مَواطِنِهِ مِن مَكْرُوهِ الدِّينِ لِاشْتِغالِ الحاجِّ بِما هو فِيهِ عَمّا سِواهُ، فَفي خَفِيِّ فِقْهِهِ إعْراضُ الحاجِّ عَنْ مَناكِرِ تِلْكَ المَواطِنِ الَّتِي تُعْرَضُ فِيها بِحَسَبِ الأزْمانِ والأعْصارِ، ويُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّ الحَجَّ آيَةُ الحَشْرِ وأهْلِ الحَشْرِ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٧] فَكَذَلِكَ (p-٢٦٨)حُكْمُ ما هو آيَتُهُ؛ وحَجُّ البَيْتِ إتْيانُهُ في خاتِمَةِ السَّنَةِ مِنَ الشُّهُورِ الَّذِي هو شَهْرُ ذِي الحِجَّةِ أنَّهُ خَتَمَ العُمُرَ، كَما كانَ النَّبِيُّ ﷺ حَيْثُ خَتَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عُمُرَهُ بِعَمَلِ الحَجِّ؛ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿أوِ اعْتَمَرَ﴾ فَذَكَرَ العُمُرَةَ مَعَ الحَجِّ لَمّا كانَ الطَّوافُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ مِن شَعائِرِ العَمَلَيْنِ ﴿فَلا جُناحَ﴾ وهو المُؤاخَذَةُ عَلى الجُنُوحِ، والجُنُوحُ المَيْلُ عَنْ جادَّةِ القَصْدِ. انْتَهى. ﴿عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ﴾ أيْ: يَدُورَ بِهِمَّةٍ وتَعَمُّدٍ ونَشاطٍ ﴿بِهِما﴾ بادِيًا بِما بَدَأ اللَّهُ. قالَ الحَرالِّيُّ: رَفْعُ الجُناحِ عَنْ الفِعْلِ حُكْمٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الجائِزُ والواجِبُ والفَرْضُ والمُباحُ حَتّى يَصِحَّ أنْ يُقالَ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ، كَما يُقالُ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَطْعَمَ إذا جُعْتَ؛ وإنَّما يُشْعِرُ بِالجَوازِ والتَّخْيِيرِ نَفْيُ الجُناحِ عَنِ التَّرْكِ لا عَنِ الفِعْلِ، كَما «قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلَّذِينِ سَألُوهُ عَنِ العَزْلِ: ”لا جُناحَ عَلَيْكم أنْ لا تَفْعَلُوا“» أيْ: أنْ لا تُنْزِلُوا، لِأنَّ الفِعْلَ كِنايَةٌ عَنِ الثُّبُوتِ لا عَنِ التَّرْكِ الَّذِي هو مَعْنى العَزْلِ ”وهُوَ الَّذِي قَرَّرَتْهُ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها لَمّا قالَ عُرْوَةُ: (p-٢٦٩)ما أرى عَلى أحَدٍ شَيْئًا أنْ لا يَطُوفَ بِهِما، فَقالَتْ: لَوْ كانَ كَما تَقُولُ كانَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لا يَطُوفَ بِهِما الحَدِيثَ. قُلْتُ: ولَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِالنَّفْيِ إنَّما اخْتِيرَ لِيَدُلَّ عَلى نَفْيِ ما تَوَهَّمُوهُ بِالمُطابَقَةِ، وتَقَعُ الدَّلالَةُ عَلى الوُجُوبِ بِإفْهامِ الجَزاءِ لِأنَّ مَن حَجَّ أوِ اعْتَمَرَ ولَمْ يَتَطَوَّفْ بِهِما كانَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وبِالسُّنَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهُ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «اسْعَوْا فَإنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ومِن فِعْلِهِ ﷺ مَعَ قَوْلِهِ «.“ خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم ”» ومَن عَدَّهُما مِنَ الشَّعائِرِ ونَحْوِ ذَلِكَ. قالَ الحَرالِّيُّ: وما رُوِيَ مِن قِراءَةِ مَن قَرَأ“أنْ لا يَطُوفُ بِهِما”فَلَيْسَتْ“ لا ”نافِيَةٌ عَلى حَدِّ ما نَفَتْ مَعْناهُ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها وإنَّما هي مُؤَكِّدَةٌ لِلْإثْباتِ بِمَنزِلَةِ ﴿ما مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] و﴿لِئَلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ﴾ [الحديد: ٢٩] لِأنَّ مِن تَمامِ المُبْهَمِ اسْتِعْمالُهُ في المُتَقابِلِينَ مِنَ النَّفْيِ والإثْباتِ كاسْتِعْمالِهِ في وُجُوهٍ مِنَ التَّقابُلِ كَما تُسْتَعْمَلُ“ ما ”في النَّفْيِ والإثْباتِ، وكَذَلِكَ جاءَتْ“ لا ”فِي لِسانِ العَرَبِ بِمَنزِلَتِها في الِاسْتِعْمالِ وإنْ كانَ دُونَ ذَلِكَ في الشُّهْرَةِ، فَوارِدُ القُرْآنِ مُعْتَبَرٌ بِأعْلى رُتْبَةِ لُغَةِ العَرَبِ وأفْصَحِها، لا يَصِلُ إلى تَصْحِيحِ عَرَبِيَّتِهِ مَنِ اقْتَصَرَ مِنَ النَّحْوِ والأدَبِ عَلى ما دُونَ (p-٢٧٠)الغايَةِ لِعُلُوِّهِ في رُتْبَةِ العَرَبِيَّةِ ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣] انْتَهى. والَّذِينَ قَرَؤُوا بِزِيادَةِ“لا" عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ - بِخِلافٍ عَنْهُ - وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ مَسْعُودٍ وأنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ [ومَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ، كَما نَقَلَ ذَلِكَ الإمامُ أبُو الفَتْحِ عُثْمانُ بْنُ جِنِّيٍّ في كِتابِهِ المُحْتَسِبِ في تَوْجِيهِ القِراءاتِ ] الشَّواذِّ؛ ومَعْنى قَوْلِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها لَكانَ أنْ لا يَطُوفَ خاصَّةً، ولَمْ تَرِدْ قِراءَةٌ بِالإثْباتِ؛ وأمّا مَعَ قِراءَةِ الإثْباتِ فَإنَّ المَعْنى يُرْشِدُ إلى أنَّ قِراءَةَ النَّفْيِ مِثْلُها، لِأنَّ كَوْنَهُما مِنَ الشَّعائِرِ يَقْتَضِي التَّطَوُّفَ بِهِما لا إهْمالُهُما. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ. قالَ الحَرالِّيُّ: وذِكْرُهُ (p-٢٧١)تَعالى بِالتَّطَوُّفِ الَّذِي هو تَفَعُّلٌ أيْ: تَشَبُّهٌ بِالطَّوافِ، ومَعَ البَيْتِ بِالطَّوافِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] لَمّا كانَ السَّعْيُ تَرَدُّدًا في طُولٍ، والمُرادُ الإحاطَةُ بِهِما، فَكانَ في المَعْنى كالطَّوافِ لا في الصُّورَةِ، فَجَعَلَهُ لِذَلِكَ تَطَوُّفًا أيْ: تَشَبُّهًا بِالطَّوافِ. انْتَهى. ولَمّا كانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم لَمْ يَقْصِدُوا بِتَرْكِ الطَّوافِ بَيْنَهُما إلّا الطّاعَةَ فَأُعْلِمُوا أنَّ الطَّوافَ بَيْنَهُما طاعَةٌ، عَبَّرَ بِما يُفِيدُ مَدْحَهم فَقالَ تَعالى: ﴿ومَن تَطَوَّعَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: أيْ: كَلَّفَ نَفْسَهُ مُعاهَدَةَ البِرِّ والخَيْرِ مِن غَيْرِ اسْتِدْعاءٍ لَهُ ﴿خَيْرًا﴾ فِيهِ إعْلامٌ بِفَضِيلَةِ النَّفَقَةِ في الحَجِّ والعُمْرَةِ بِالهَدْيِ ووُجُوهِ المَرافِقِ لِلرُّفَقاءِ بِما يُفْهِمُهُ لَفْظُ الخَيْرِ، لِأنَّ عُرْفَ اسْتِعْمالِهِ في خَيْرِ الرِّزْقِ والنَّفَقَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] و﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠] ولَمّا كانَ رَفْعُ الجُناحِ تَرْكًا عادَلَها في الخِطابِ بِإثْباتِ عَمَلِ خَيْرٍ لِيَقَعَ في الخِطابِ إثْباتٌ يُفِيدُ عَمَلًا حِينَ لَمْ يُفِدِ الأوَّلُ إلّا تَرْكًا، فَمَن تَحَقَّقَ بِالإيمانِ أجْزَلَ نَفَقاتِهِ في الوِفادَةِ (p-٢٧٢)عَلى رَبِّهِ واخْتَصَرَ في أغْراضِ نَفْسِهِ، ومَن حُرِمَ النَّصَفَ مِن دُنْياهُ اقْتَصَرَ في نَفَقاتِهِ في وِفادَتِهِ عَلى رَبِّهِ وأجْزَلَ نَفَقاتِهِ في أغْراضِ نَفْسِهِ وشَهَواتِ عِيالِهِ، فَذَلِكَ مِن أعْلامِ المُؤْمِنِينَ وأعْلامِ الجاهِلِينَ، مَن وفَدَ عَلى المَلِكِ أجْزَلَ ما يُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وإنَّما قَدَّمَهُ بِالحَقِيقَةِ لِنَفْسِهِ لا لِرَبِّهِ، فَمَن شَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِإظْهارِها حِينَ الوِفادَةِ، عَلَيْهِ في آيَةِ بِعْثَةٍ إلَيْهِ ولِقائِهِ لَهُ شَكَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ يَوْمَ يَلْقاهُ، فَكانَتْ هَدايا اللَّهِ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْظَمَ مِن هَدْيِهِ إلَيْهِ يَوْمَ الوِفادَةِ عَلَيْهِ في حَجِّهِ وعُمْرَتِهِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ أيِ: المُحِيطَ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ ﴿شاكِرٌ﴾ أيْ: مُجازٍ بِالأعْمالِ مَعَ المُضاعَفَةِ لِثَوابِها؛ قالَ الحَرالِّيُّ: وقَوْلُهُ: ﴿عَلِيمٌ﴾ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِن مَداخِلِ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ في إجْزالِ النَّفَقاتِ لِما يَغْلُبُ عَلى النَّفْسِ مِنَ التَّباهِي في إظْهارِ الخَيْرِ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب