الباحث القرآني
ولَمّا كانَ مِن شَأْنِ الطِّينِ الَّذِي مِنهُ البَشَرُ وما تَوَلَّدَ مِنهُ أنْ لا يَخْلُصَ عَنِ الشَّوائِبِ إلّا بَعْدَ مُعاناةٍ شَدِيدَةٍ، ألا تَرى أنَّ الذَّهَبَ أصْفاهُ وهو لا يَخْلُو عَنِ الغِشِّ ولا يُعَرّى عَمّا خالَطَهُ مِنَ الدَّنَسِ إلّا بِالِامْتِحانِ بِشَدِيدِ (p-٢٥٣)النِّيرانِ ! قالَ تَعالى مُعَلِّمًا لَهم بِالتَّرْبِيَةِ بِما تَحْصُلُ بِهِ التَّصْفِيَةُ بِما تُؤَدِّي إلَيْهِ مُناصَبَةُ الكُفّارِ ومُقارَعَةُ أهْلِ دارِ البَوارِ: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ عَطْفًا عَلى ما أرْشَدَ إلَيْهِ التَّقْدِيرُ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ: فَلْنَأْمُرْكم بِمُقارَعَةِ كُلِّ مَن أمَرْناكم مِن قَبْلُ بِمُجامَلَتِهِ ولَيَتَمالَأنَّ عَلَيْكم أهْلُ الأرْضِ ولَنَبْلُوَنَّكم أيْ: يُصِيبُكم بِأشْياءَ إصابَةً تُشْبِهُ فِعْلَ المُخْتَبِرِ لِأحْوالِكم لِيَظْهَرَ الصّابِرُ مِنَ الجَزَعِ. قالَ الحَرالِّيُّ: فالصَّبْرُ الأوَّلُ أيْ: في ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] عَنِ الكَسَلِ وعَلى العَمَلِ، والصَّبْرُ الثّانِي أيْ: في ﴿وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾ عَلى مَصائِبِ الدُّنْيا، فَلِذَلِكَ انْتَظَمَ بِهَذِهِ الآياتِ آيَةَ ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ عَطْفًا وتَجاوُزًا لِأُمُورٍ يُؤْخَذُ بِها مَن لَمْ يُجاهِدْ في سَبِيلِ اللَّهِ ضَعْفًا عَنْ صَبْرِ النَّفْسِ عَنْ كُرْهِ القِتالِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] فَمَن لَمْ يَحْمِلِ الصَّبْرَ الأوَّلَ عَلى الجِهادِ أخَذَ بِأُمُورٍ هي بَلايا (p-٢٥٤)فِي باطِنِهِ تَجاوَزَها الخِطابُ فانْعَطَفَ عَلَيْها ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ﴾ وهو حَذَرُ النَّفْسِ مِن أُمُورٍ ظاهِرَةٍ تَضُرُّها ﴿والجُوعِ﴾ وهو غَلَبَةُ الحاجَةِ إلى الغِذاءِ عَلى النَّفْسِ حَتّى تَتَرامى لِأجْلِهِ فِيما لا تَتَأمَّلُ عاقِبَتَهُ، فَإذا كانَ عَلى غَيْرِ غَلَبَةٍ مَعَ حاجَةٍ فَهو الغَرَثُ، فَلِذَلِكَ في الجُوعِ بَلاءٌ ما والغَرَثُ عادَةٌ جارِيَةٌ. وقالَ أيْضًا: الجُوعُ فَراغُ الجِسْمِ عَمّا بِهِ قِوامُهُ كَفَراغِ النَّفْسِ عَنِ الأمَنَةِ الَّتِي لَها قِوامٌ ما، فَأفْقَدَها القِوامَيْنِ في ذاتِ نَفْسِها بِالخَوْفِ وفي بَدَنِها بِالجُوعِ لَمّا لَمْ تَصْبِرْ عَلى كُرْهِ الجِهادِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ لِأهْلِ الصَّبْرِ عَلَيْهِ أهْوَنَ مِنَ الصَّبْرِ عَلى الخَوْفِ والجُوعِ، وأيُّما كانَ أوَّلُ نائِلِهِمْ مِن هَذا الِابْتِلاءِ الخَوْفِ حَيْثُ خافُوا الأعْداءَ عَلى أنْفُسِهِمْ فَجاءَهم إلى مَواطِنِهِمْ، مَن لَمْ يَمْشِ إلى طَبِيبِهِ لِيَسْتَرِيحَ جاءَ الطَّبِيبُ لِهَلاكِهِ، وشَتّانَ بَيْنَ خَوْفِ الغازِي لِلْعَدُوِّ في عُقْرِهِ وبَيْنَ خَوْفِ المُحْصَرِ في أهْلِهِ، وكَذَلِكَ شَتّانَ بَيْنَ أرْزاقِ المُجاهِدِ وتَزْوِيدِهِ وخَيْرِ الزّادِ التَّقْوى في سَبِيلِهِ لِجِهادِهِ وبَيْنَ جُوعِ المُتَخَلِّفِ في عَيْلَتِهِ. انْتَهى. ونُكِّرَ الشَّيْءُ وما بَعْدَهُ حَثًّا عَلى الشُّكْرِ بِالإشارَةِ إلى أنَّ كُلَّ (p-٢٥٥)ما أصابَ مِنها فَفي قُدْرَةِ اللَّهِ ما هو أعْظَمُ مِنهُ، فَعَدَمُ الإصابَةِ بِهِ نِعْمَةٌ.
ولَمّا كانَ الجُوعُ قَدْ يَكُونُ عَنْ رِياضَةٍ بَيَّنَ أنَّهُ عَنْ حاجَةٍ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَقْصٍ﴾ وهو التَّقاصُرُ عَنِ الكَفافِ ﴿مِنَ الأمْوالِ﴾ أيِ: النِّعَمِ الَّتِي كانَتْ مِنها أغْذِيَتُهم. قالَ الحَرالِّيُّ: لِأنَّ ذَلِكَ عُرْفُ اسْتِعْمالِهِمْ في لَفْظِ المالِ. وقالَ أيْضًا: [والمالُ ] ما هو لِلْمُتَمَوَّلِ بِمَنزِلَةِ الجُزْءِ مِنهُ عِنْدَهُ لِمالِهِ لِذَلِكَ مِنهُ، فَضاعَفَ تَعالى مِثالَ البَلاءِ في ذَواتِ أنْفُسِهِمْ وأبْدانِهِمْ لِيَقْطَعَ عَنْهم راحَةَ تَطَلُّعِ الكِفايَةِ مِنَ الأمْوالِ في مُقابَلَةِ ما يَنالُ المُجاهِدُ مِنَ الغَناءِ والرِّزْقِ، فالمُجاهِدُ آمِنٌ في جَيْشِهِ مُتَزَوِّدٌ في رَحْلِهِ غانِمٌ مِن عَدُوِّهِ، والمُتَخَلِّفُ خائِفٌ في أهْلِهِ جائِعٌ في عَيْلَتِهِ ناقِصُ المالِ مِن ذاتِ يَدِهِ. انْتَهى.
ولَمّا كانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَنْ إفْراطٍ في الكَثْرَةِ قالَ: ﴿والأنْفُسِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ مَن جاهَدَ كَثُرَ عَدَدُهُ ونَما ولَدُهُ، وأنَّ مَن تَكاسَلَ قَلَّ عَدَدُهُ ودَرَجَ خَلَفُهُ، وفي ضِمْنِهِ إشْعارٌ بِمَنالِ المُتَكاسِلِ (p-٢٥٦)حَواصِدَ مِن جَوارِفِ الآجالِ مِنَ الوَباءِ والطّاعُونِ وغَيْرِهِ. انْتَهى. وقالَ: ﴿والثَّمَراتِ﴾ الَّتِي هي نَفْسُ الأشْجارِ الَّتِي بِها قِوامُ أنْفُسِ الأبْدانِ تَخْصِيصًا لَها بِالذِّكْرِ، لِأنَّها أعْظَمُ أمْوالِ الأنْصارِ الَّذِينَ هم مِن أخَصِّ النّاسِ بِهَذا الذِّكْرِ لا سِيَّما في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ وهو أوَّلُ زَمانِ الهِجْرَةِ.
ولَمّا كانَ السِّياقُ مُرْشِدًا إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: فَأنْذِرْ مَن لَمْ يَصْبِرْ، ولَكِنَّهُ طُوِيَ إشارَةً إلى إجْلالِ الَّذِينَ آمَنُوا عَنْ أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن لَمْ يَصْبِرْ عَطَفَ عَلَيْهِ إرْشادًا إلَيْهِ وحَثًّا عَلى الصَّبْرِ ثُمَّ ذَكَرَ المُوجِبِينَ لِلنَّصْرِ قَوْلَهُ: ﴿وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾ وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ هَذا البَلاءُ عَنْ تَكاسُلٍ مِنَ الصَّبْرِ الأوَّلِ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١] وكانَ مِمّا يَتَدارَكُهُ صَبْرٌ عَلَيْهِ تَدارَكَ تَعالى هَذِهِ الرُّتْبَةَ بِبُشْرى الصّابِرِينَ مِن هَلَكَةِ ما يَنالُ مَن لَمْ يَصْبِرْ عَلى هَذِهِ المُصِيبَةِ (p-٢٥٧)وضَجَرَ مِنها وتَسَخَّطَ فِيها، فَكانَ لِلصّابِرِ الأوَّلِ الصُّحْبَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣]
{"ayah":"وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











