الباحث القرآني
ولَمّا بَيَّنَ اسْتِقامَةَ القِبْلَةِ الَّتِي وجَّهَهم إلَيْها عَرَّفَ أنَّها وسَطٌ لا جَوْرَ (p-٢٠٦)فِيها فَأتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ﴾ أيْ: ومِثْلُ ما جَعَلْنا قِبْلَتَكم وسَطًا لِأنَّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ الَّذِي هو وسَطُ الأرْضِ وهو بِناءُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو أوْسَطُ الأنْبِياءِ وهو مَعَ ذَلِكَ خِيارُ البُيُوتِ فَهو وسَطٌ بِكُلِّ مَعْنى ﴿جَعَلْناكُمْ﴾ بِالهِدايَةِ إلَيْهِ في الِاسْتِقْبالِ وإلى غَيْرِهِ مِمّا نَأْمُرُكم بِهِ ﴿أُمَّةً﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الأمِّ وهو تَتَبُّعُ الجُمْلَةِ والعَدَدِ بَعْضُها لِبَعْضٍ إلى أنْ يَنْتَهِيَ لِإمامٍ أوَّلَ، فالإمامُ والأُمَّةُ كالمُتَقابِلَيْنِ، الإمامُ قاصِدٌ أُمَمًا، والأُمَّةُ قاصِدَةٌ إمامَها الَّذِي هو أمَمَها، والأمامُ ما بَيْنَ اليَدَيْنِ بِمَشْهَدِ الحِسِّ وسَبِيلِ القَصْدِ، انْتَهى.
﴿وسَطًا﴾ أيْ: شَرِيفَةً خِيارًا، لِأنَّ الوَسَطَ العَدْلُ الَّذِي نِسْبَةُ الجَوانِبِ كُلِّها إلَيْهِ سَواءٌ، فَهو خِيارُ الشَّيْءِ. قالَ أبُو تَمّامٍ الطّائِيُّ:
؎كانَتْ هي الوَسَطُ المَحْمِيُّ فاكْتَنَفَتْ. . . بِها الحَوادِثُ حَتّى أصْبَحَتْ طَرَفًا
(p-٢٠٧)وسالِكٌ الوَسَطَ مِنَ الطَّرِيقِ مَحْفُوظٌ مِنَ الغَلَطِ، ومَتى زاغَ عَنِ الوَسَطِ حَصَلَ الجَوْرُ المُوقِعُ في الضَّلالِ عَنِ القَصْدِ؛ فَفي هَذا أنَّهم لَمّا ادَّعَوُا الخُصُوصِيَّةَ كُذِّبُوا ورُدَّتْ حُجَجُهم ثُمَّ أُثْبِتَتِ الخُصُوصِيَّةُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ؛ والوَسَطُ بِالتَّحْرِيكِ اسْمٌ لِعَيْنِ ما بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّيْءِ كَمَرْكَزِ الدّائِرَةِ، وبِالسُّكُونِ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِداخِلِ الدّائِرَةِ مَثَلًا، وكَذا كانَ ظَرْفًا، فالأوَّلُ يُجْعَلُ مُبْتَدَأً وفاعِلًا ومَفْعُولًا بِهِ، ولا يَصْحُّ شَيْءٌ مِن هَذا في السّاكِنِ، قالَهُ الأصْبِهانِيُّ: ومادَّةُ وسَطَ مَهْمُوزَةً وغَيْرَ مَهْمُوزَةٍ واوِيَّةً ويائِيَّةً بِتَراكِيبِها الأحَدَ عَشَرَ: وسَطَ، وطَسَ، سَوَطَ، سَطَوَ، طَوَسَ، طَسَوَ، طَيَسَ، طِسى، [سَيَطَ ] سَطَأ، طَسَأ، تَدُورُ عَلى العَدْلِ السَّواءِ الَّذِي نِسْبَتُهُ إلى كُلِّ جانِبٍ عَلى التَّساوِي، ويَلْزَمُ أنْ يَكُونَ أعْلى مِن غَيْرِهِ، لِأنَّ أكْثَرَ المَخْلُوقاتِ كَرِيٌّ؛ وكُلُّ ما كانَ في وسَطِ الكُرَةِ كانَ أعْلى، ولِأنَّ كُلَّ جُزْءٍ بَعْدَ الوَسَطِ إذا نَسَبْتَهُ إلى الطَّرَفِ الَّذِي يَلِيهِ كانَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَهُ أقَلَّ مِمّا بَيْنَهُ وبَيْنَ الوَسَطِ؛ ويَلْزَمُ [العَدْلَ الجَوْدَةُ ويَلْزَمُ ] العُلُوَّ الغَلَبَةُ والسَّطْوَةُ والكَثْرَةُ والشِّدَّةُ، وقَدْ يَلْزَمُ العُلُوَّ الِاضْطِرابُ فَيَأْتِي الِاخْتِلاطُ والِاقْتِطاعُ والضَّعْفُ؛ فَمِنَ الأصْلِ الوَسَطُ مِن كُلِّ شَيْءٍ أعْدَلُهُ، ووَسَطُ الشَّيْءِ ما بَيْنَ طَرَفَيْهِ، فَإذا سُكِّنَتِ السِّينُ كانَ ظَرْفًا (p-٢٠٨)أوْ هو فِيما هو مُصْمَتٌ فَإذا كانَتْ أجْزاؤُهُ مُتَخَلِّصَةً مُتَبايِنَةً فَبِالإسْكانِ؛ ووَسَطَهُ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، وتَوَسَّطَ بَيْنَهم عَمِلَ الوَساطَةَ وأخَذَ الوَسَطَ بَيْنَ الرَّدِيءِ والجَيِّدِ، ووَسَطَ القَوْمَ وتَوَسَّطَهم هو وسَطٌ فِيهِمْ أوْسَطُهم نَسَبًا وأرْفَعُهم مَحَلًّا وهو المُتَوَسِّطُ بَيْنَ القَوْمِ، وواسِطَةُ الرَّحْلِ ما بَيْنَ قادِمَتِهِ وآخِرَتِهِ، وأوْطاسٌ وادٍ بِدِيارِ هَوازِنَ لِما وصَفَهُ بِهِ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ مِن أنَّهُ لا حَزْنٌ ضَرْسٌ ولا سَهْلٌ دَهْسٌ، أيْ: يَثْقُلُ المَشْيُ فِيهِ بِكَوْنِهِ شِبْهَ الرَّمْلِ وما هو بِرَمْلٍ ولا تُرابٍ، ومِنَ الجَوْدَةِ وهي مَلْزُومَةٌ لِحُسْنِ الوَسَطِ البابِ، والصَّلاةُ الوُسْطى أفْضَلُ الصَّلَواتِ، والطّاوُوسُ طائِرٌ حَسَنٌ، والجَمِيلُ مِنَ الرِّجالِ والفِضَّةِ، والأرْضُ المُخْضَرَّةُ فِيها كُلُّ ضَرْبٍ مِنَ النَّبْتِ، والمَطُوسُ كَمُعْظَمِ الشَّيْءِ الحَسَنِ، والطَّوْسِ بِالفَتْحِ القَمَرُ وحُسْنُ الوَجْهِ ونَضارَتُهُ بَعْدَ عِلَّةٍ، وتَطَوَّسَتِ المَرْأةُ تَزَيَّنَتْ، وطَواسٌ كَسَحابٍ لَيْلَةٌ مِن لَيالِي المِحاقِ كَأنَّهُ مِن بابِ الإزالَةِ أوْ بِالنَّظَرِ إلى أنَّ النُّجُومَ في شِدَّةِ الظَّلامِ أحْسَنُ. ومِنَ العُلُوِّ: سَطا الفَرَسُ أبْعَدَ الخَطْوَ، والسّاطِئُ: الفَرَسُ البَعِيدُ الخُطْوَةِ والَّذِي يَرْفَعُ ذَنَبَهُ في حَضَرِهِ، والطَّوِيلُ وواسِطُ الكُورِ (p-٢٠٩)مُقَدَّمُهُ، ومِنَ الشِّدَّةِ والغَلَبَةِ: صارَ الماءُ وسِيطَهُ غَلَبَ عَلى الطِّينِ، وسَطا عَلَيْهِ وبِهِ صالَ أوْ قَهَرَ بِالبَطْشِ، والرّاعِي عَلى النّاقَةِ أدْخَلَ يَدَهُ في رَحِمِها لِيُخْرِجَ ما فِيها مِن ماءِ الفَحْلِ، والفَرَسُ رَكِبَ رَأْسَهُ، وساطاهُ شَدَّدَ عَلَيْهِ؛ والسّاطِئُ الفَحْلُ المُغْتَلِمُ يُخْرَجُ مِن إبِلٍ إلى إبِلٍ، وسَطَأها مَهْمُوزًا كَمَنَعَ جامَعَها؛ والوَطْسُ كالوَعْدِ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ والكَسْرُ، والوَطِيسُ التَّنُّورُ وحَرُّ الحَرْبِ، والوَطِيسُ شِدَّةُ الأمْرِ، وكَكِتابِ الرّاعِي، وتَواطَسُوا عَلَيَّ أيْ: تَواطَحُوا أيْ: تَداوَلُوا الشَّرَّ بَيْنَهم، والمَوْجُ تَلاطَمَ، وأوْطاسٌ وادٍ بِدِيارِ هَوازِنَ لِأنَّهُ أشَدُّ مِمّا هو رَمْلٌ صِرْفٌ، والسَّوْطُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ والشَّدَّةُ والضَّرْبُ، والمِسْواطُ فَرَسٌ لا يُعْطى حَضَرُهُ إلّا بِالسَّوْطِ، والسِّياطِ قُضْبانُ الكِرابِ الَّذِي عَلَيْهِ دَمالِيقُهُ أيْ: عَراجِينُهُ والكِرابُ أُصُولُ السَّعَفِ الغِلاظِ العِراضِ، وسَوَطَ أخْرَجَ ذَلِكَ، والطَّوْسُ بِالفَتْحِ: الوَطْءُ وبِالضَّمِّ: دَوامُ الشَّيْءِ ودَواءٌ يُشْرَبُ لِلْحِفْظِ، وطَواسٌ كَسَحابٍ لَيْلَةٌ مِن لَيالِي المِحاقِ، وما أدْرِي أيْنَ طَوَّسَ بِهِ أيْ: ذَهَبَ بِهِ؛ (p-٢١٠)وطِسى كَرِضى طَسًا غَلَبَ الدَّسَمُ عَلى قَلْبِهِ فَأُتْخِمَ كَطَسا أيْ: واوِيًّا؛ وطَسِئَ مَهْمُوزًا أيْضًا كَفَرِحَ وجَمْعُ طَسَأٍ وطَساءٍ فَهو طَسِيءٌ أُتْخِمَ أوْ تَغَيُّرٌ مِن أكْلِ الدَّسَمِ، وأطْسَأهُ الشِّبَعُ ونَفْسِي طاسِئَةٌ ويَدْخُلُ هَذا في الِاضْطِرابِ والِاخْتِلاطِ والضَّعْفِ. ومِنَ الكَثْرَةِ الوَسَطُ وهي النّاقَةُ تَمْلَأُ الإناءَ ويَدْخُلُ في الجِيدِ، والطَّيْسُ العَدَدُ الكَثِيرُ، وكُلُّ ما في وجْهِ الأرْضِ مِن تُرابٍ وقِمامٍ أوْ خَلْقٌ كَثِيرُ النَّسْلِ كالذُّبابِ والنَّمْلِ والهَوامِّ أوْ دِقاقُ التُّرابِ كالطَّيْسَلِ في الكُلِّ وكَثْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الرَّمْلِ والماءِ وغَيْرِهِما؛ وسَطا الماءُ كَثُرَ؛ والسُّوَيْطاءُ مَرْقَةٌ كَثِيرَةُ الماءِ، ومِنَ الِاخْتِلاطِ [سِياطٌ كَكِتابٍ مُغْنٍ مَشْهُورٌ؛ و] سَطا الطَّعامَ ذاقَهُ؛ والسّاطِئُ: الفَحْلُ المُغْتَلِمُ يُخْرَجُ مِن إبِلٍ إلى إبِلٍ، وسَطا الرّاعِي عَلى النّاقَةِ أدْخَلَ يَدَهُ في رَحِمِها لِيُخْرِجَ ما فِيها مِن ماءِ الفَحْلِ؛ والسَّوْطُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ والخَلْطُ والضَّرْبُ، والسِّياطُ قُضْبانُ الكِرابِ الَّذِي عَلَيْهِ دَمالِيقُهُ، وسَوْطٌ باطِلٌ ضَوْءٌ يَخْرُجُ مِنَ الكُوَّةِ، وسِطْتُ الشَّيْءَ بِالسَّوْطِ ضَرَبْتُهُ بِهِ، والسَّوْطُ أيْضًا ما يُخْلَطُ بِهِ كالمِسْواطِ ووَلَدٌ لِإبْلِيسَ، والمِسْواطُ فَرَسٌ لا يُعْطِي حُضْرَهُ (p-٢١١)إلّا بِالسَّوْطِ، واسْتَوَطَ أمْرُهُ اضْطَرَبَ واخْتَلَطَ، وأمْوالُهم سَوِيطَةٌ بَيْنَهم مُخْتَلِطَةٌ، والطُّوسُ بِالضَّمِّ دَواءٌ يُشْرَبُ لِلْحِفْظِ، والطّاوُوسُ طائِرٌ والأرْضُ المُخْضَرَّةُ فِيها كُلُّ ضَرْبٍ مِنَ النَّبْتِ، ومِنَ الِاقْتِطاعِ الطّاسُ أيِ: الإناءُ يُشْرَبُ فِيهِ، والسَّوْطُ النَّصِيبُ والفَضْلَةُ مِنَ الغَدِيرِ. ومِنَ الضَّعْفِ الوَسَطُ مِن بُيُوتِ الشُّعَراءِ وهو أصْغَرُها، وطَسَأ كَمَنَعَ مَهْمُوزًا اسْتْحْيا.
ولَمّا أثْبَتَ لَهُمُ الوَسَطَ الَّذِي مَن حَلَّهُ كانَ جَدِيرًا بِأنْ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الجَوانِبِ واسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كَوْنُهُ خِيارًا قالَ: ﴿لِتَكُونُوا﴾ أيْ: أنْتُمْ لا غَيْرُكم ﴿شُهَداءَ﴾ كَما أفادَهُ التَّعْبِيرُ بِهَذا دُونَ أنْ يُقالَ: لِتَشْهَدُوا، وقالَ: ﴿عَلى النّاسِ﴾ أيْ: كافَّةً. ولَمّا كانَ الرَّسُولُ ﷺ أوْسَطَهم قالَ: ﴿ويَكُونَ الرَّسُولُ﴾ أيْ: لا غَيْرُهُ بِما اقْتَضاهُ اخْتِصاصُهُ بِكَوْنِهِ وسَطَ الوَسَطِ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ خاصَّةً ﴿شَهِيدًا﴾ بِأنَّكم تابَعْتُمُوهُ وصَدَّقْتُمُوهُ فَكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ، (p-٢١٢)وبِأنَّهُ قَدْ بَلَّغَكم مُدَّةَ حَيّاتِهِ، فَلَمّا ماتَ خَلَّفَ فِيكم كِتابًا مُعْجِزًا مُتَواتِرًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ ولا تَحْرُقُهُ النّارُ، لِأنَّهُ مَحْفُوظٌ في الصُّدُورِ مَتْلُوٌّ بِالألْسُنِ إلى أنْ يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ، ولِذَلِكَ عَبَّرَ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ فافْهَمْ صَوْغَ الكَلامِ هَكَذا: إنَّهم حازُوا شَرَفَيْنِ أنَّهُ لا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلّا الرَّسُولُ، وأنَّهُ لا يَحْتاجُ في الشَّهادَةِ عَلى سائِرِ الأُمَمِ إلى غَيْرِ شَهادَتِهِمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنَّ غَيْرَهم يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كَما شَهِدُوا عَلَيْهِمْ، ولِتَوَهُّمِ أنَّ غَيْرَهم لا يُكْتَفى في الشَّهادَةِ عَلَيْهِ إلّا بِشَهادَةِ الرَّسُولِ كَما لَمْ يُكْتَفَ فِيهِمْ إلّا بِذَلِكَ.
ولَمّا أعْلَمَ بِما ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٤٢] وعَلِمَ جَوابَهم وبَيَّنَ سِرَّ التَّحْوِيلِ بَيَّنَ عِلَّةَ التَّوْجِيهِ إلى قِبْلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما جَعَلْنا﴾ أيْ: بِعَظَمَتِنا الَّتِي لا يُقاوِيها أحَدٌ ﴿القِبْلَةَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: في جُمْلَتِهِ إنْباءٌ بِأنَّ القِبْلَةَ مَجْعُولَةٌ أيْ: مُصَيَّرَةٌ عَنْ حَقِيقَةٍ وراءَها ابْتِلاءٌ بِتَقْلِيبِ الأحْكامِ (p-٢١٣)لِيَكُونَ تَعَلُّقُ القَلْبِ بِاللَّهِ الحَكِيمِ لا بِالعَمَلِ المُحْكَمِ، فالوُجْهَةُ الظّاهِرَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلى المُتَّبِعِ عَنْ صِدْقٍ فَيَثْبُتُ عِنْدَ تَقَلُّبِ الأحْكامِ بِما في قَلْبِهِ مِن صِدْقِ التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ والتَّوَجُّهِ لَهُ أيّانَ ما وجَّهَهُ، وعَلى المُجِيبِ عَنْ غَرَضٍ ظاهِرٍ لَيْسَ يُسْنِدُهُ صِدْقٌ باطِنٌ فَيَتَعَلَّقُ مِنَ الظّاهِرِ بِما لا يَثْبُتُ عِنْدَ تَغَيُّرِهِ، انْتَهى.
وبَيَّنَ أنَّها الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها﴾ وبَيَّنَ أنَّ العِلَّةَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ النّاسِ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا لِنَعْلَمَ﴾ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ بِالجُنُودِ والرُّسُلِ وغَيْرِهِمْ حِينَ وُجُودِ الأمْرِ بِالتَّحَوُّلِ عَنْها ﴿مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ في كُلِّ ما يَأْمُرُ بِهِ اتِّباعًا دالًّا عَلى تَمَكُّنِ إيمانِهِ ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ﴾ أيْ: يَرْتَدُّ [فَيُدْبِرُ ] بَعْدَ إقْبالِهِ مُتَنَكِّسًا ﴿عَلى عَقِبَيْهِ﴾ عَلَمًا مُتَعَلِّقًا بِمَوْجُودٍ تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ في مَجارِي عاداتِكم، والعَقِبُ مُؤَخَّرُ القَدَمِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: لِنَجْعَلَ عَلَمًا ظاهِرًا عَلى الصّادِقِ وغَيْرِهِ يَشْتَمِلُ العِلْمُ بِهِ مَن عَلِمَ الغَيْبَ قَبْلَ كَوْنِهِ وبَعْدَ كَوْنِهِ، ومَن لَمْ يَعْلَمِ الغَيْبَ إلّا عَنْ عِلْمٍ بِما يُنْبِئُنِي عَنْهُ نُونُ الِاسْتِتْباعِ فَهَذا وجْهُهُ ووَجْهُ ما يَرِدُ مِن نَحْوِهِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، انْتَهى.
ثُمَّ بَيَّنَ شِدَّتَها عَلى مَن أخْلَدَ إلى العادَةِ لِغَلَبَةِ القُوَّةِ الحَيَوانِيَّةِ البَهِيمِيَّةِ ولَمْ يَتَمَرَّنْ في الِانْقِيادِ لِلْأوامِرِ الإلَهِيَّةِ عَلى خَلْعِ الإلْفِ وذُلِّ (p-٢١٤)النَّفْسِ فَقالَ: ﴿وإنْ كانَتْ﴾ أيِ: الجَعْلَةُ ﴿لَكَبِيرَةً﴾ أيْ: ثَقِيلَةً شاقَّةً جِدًّا لِأنَّ مُفارَقَةَ الألِفِ بَعْدَ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ إلَيْهِ أمْرٌ شاقٌّ جِدًّا، ثُمَّ اسْتَثْنى مَن أيَّدَهُ سُبْحانَهُ بِرُوحٍ مِنهُ وسَكِينَةٍ فَقالَ: ﴿إلا عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ أيْ: خَلَقَ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ الهِدايَةَ في قُلُوبِهِمْ فانْقادُوا لِما هَداهم إلَيْهِ بِنَصِيبِ الأدِلَّةِ.
ولَمّا كانَ قَبُولُهم لِهَذا الأمْرِ وثَباتُهم عِنْدَ تَغَيُّرِ الأحْكامِ إنَّما كانَ عَنْ إيمانٍ وعِلْمٍ مُحِيطٍ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أعْمالَهم وتَوَجُّهَهم لِلْقِبْلَةِ الأُولى مِنَ الإيمانِ فَقالَ: ﴿وما كانَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ الكَمالُ المُطْلَقُ ﴿لِيُضِيعَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِمّا مِنهُ الضَّياعُ والضَّيْعَةُ وهو التَّفْرِيطُ فِيما لَهُ غَناءٌ وثَمَرَةٌ إلى أنْ لا يَكُونَ لَهُ غَناءٌ ولا ثَمَرَةٌ ﴿إيمانَكُمْ﴾ أيِ: المُصَرَّحَ بِهِ في قَوْلِكم: ﴿آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٦] المُشارِ إلى صِدْقِ الدَّعْوى فِيهِ بِقَوْلِكم: ﴿ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ [البقرة: ١٣٩] في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ لا في صَلاتِكم إلى القِبْلَةِ الأُولى، ولا في تَمْيِيزِ الصّادِقِ مِنكم مِنَ المُنافِقِ بِالِامْتِحانِ بِتَغْيِيرِ الأحْكامِ مِنَ القِبْلَةِ وغَيْرِها ولا في اخْتِصاصِكم بِهِ سُبْحانَهُ دُونَ أهْلِ (p-٢١٥)الكِتابِ الجاحِدِينَ لِآياتِهِ النّاكِبِينَ عَنْ مَرْضاتِهِ النّاكِثِينَ لِعُهُودِهِ.
ولَمّا نَزَّهَ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الإضاعَةِ عَلَّلَ ذَلِكَ بِما هو أعَمُّ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ: المُحِيطَ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ ﴿بِالنّاسِ﴾ أيِ: الَّذِينَ هم أعَمُّ مِنَ المُؤْمِنِينَ وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَنُوسُونَ بَيْنَ حالِ الهُدى والفِتْنَةِ ﴿لَرَءُوفٌ﴾ أيْ: فَيَرْحَمُ مَن يَشاءُ مِمَّنْ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِعَمَلٍ صالِحٍ رَأْفَةً مِنهُ بِهِ، فَإنَّ الرَّأْفَةَ كَما قالَ الحَرالِّيُّ في التَّفْسِيرِ عَطْفُ العاطِفِ عَلى مَن [لَمْ ] يَجِدْ عِنْدَهُ مِنهُ وُصْلَةً، فَهي رَحْمَةُ ذِي الصِّلَةِ بِالرّاحِمِ، قالَ: والرَّحْمَةُ تَعُمُّ مَن لا صِلَةَ لَهُ بِالرّاحِمِ، وقالَ في شَرْحِ الأسْماءِ: إنَّ المَرْؤُوفَ بِهِ تُقِيمُهُ عِنايَةُ الرَّأْفَةِ حَتّى تَحْفَظَ بِمَسْراها في سِرِّهِ ظُهُورَ ما يُسْتَدْعى العَفْوُ لِأجْلِهِ عَلى عَلَنِهِ. انْتَهى.
وذَلِكَ مُقْتَضى لِكَوْنِها أشَدَّ الرَّحْمَةِ وأبْلَغَها وألْطَفَها كَما قالُوهُ،
﴿رَحِيمٌ﴾ لِمَن يَشاءُ (p-٢١٦)ولَوْ لَمْ يَكُنْ مِنهُ سَعْيٌ في الوُصْلَةِ فَتَقْتَلِعُهُ مِن ذُنُوبِهِ اقْتِلاعًا أشَدَّ ما كانَ بِها اعْتِلاقًا فَتُقِيمُهُ فِيما تَرْضاهُ الإلَهِيَّةُ وذَلِكَ مَعَ مُوافَقَتِهِ لِما قالَهُ العُلَماءُ تَرَقَّ مِنَ العالِي إلى الأعْلى، فَإنَّ رَحْمَةَ مَن لا سَبَبَ مِنهُ تَقْتَضِي العَطْفَ عَلَيْهِ أبْلَغَ في نَوْعِها مِن حَيْثُ كَوْنُها ابْتِداءً والأُولى أبْلَغُ في نَفْسِها لِما اقْتَضاها مِنَ السَّبَبِ، فَإنْ كانَ المُرادُ بِالنّاسِ العَرَبَ فَهو بِشارَةٌ لَهُ ﷺ بِأنَّهُ يَقَرُّ عَيْنُهُ بِجَعْلِهِمْ مِن حِزْبِهِ بِالتَّثْبِيتِ لِمَن كانَ إذْ ذاكَ مُقْبِلًا والإقْبالُ لِمَن كانَ مُدْبِرًا، وإنْ كانَ المُرادُ أعَمَّ مِنهم فَهو بِشارَةٌ بِاتِّباعِ أكْثَرِ الخَلائِقِ لَهُ ﷺ، فَإذا نَزَلَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وقَعَ العُمُومُ الحَقِيقِيُّ في الطَّرِيقِ المُحَمَّدِيِّ بِاتِّباعِ الكُلِّ لَهُ ﷺ واللَّهُ أعْلَمُ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْكَلامِ مِن أوَّلِهِ فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ صِفَتَيْ رَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ مُقْتَضِيَتانِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وغَيْرِهِمْ لِلْعَدْلِ بَيْنَ النّاسِ، لِأنَّ تَسْوِيَةَ المُصْلِحِ بِالمُفْسِدِ يُؤْلِمُ المُصْلِحَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في آخِرِ بَراءَةٍ ما يَنْفَعُ اسْتِحْضارُهُ هُنا.
{"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِی كُنتَ عَلَیۡهَاۤ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِیرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِینَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُضِیعَ إِیمَـٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











