الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أكْثَرُ المُثِيرِينَ لِهَذِهِ الشُّكُوكِ في صُوَرِ أهْلِ الإسْلامِ، قالَ تَعالى مُخاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ وهم في غِمارِهِمْ تَنْفِيرًا لَهم عَنِ الضَّلالِ الَّذِي هو في نَفْسِهِ أهْلٌ لِأنَّ يُنْفَرُ عَنْهُ فَكَيْفَ وهو شَماتَةُ العَدُوِّ وبِتَخْيِيلِهِ ووِدادَتِهِ تَحْذِيرًا لَهم مِن مُخالَطَتِهِمْ: ﴿ودَّ كَثِيرٌ﴾، وهو تَعْلِيلٌ لِمَعْنى الكَلامِ وهو: فَلا تَتَبَدَّلُوا الكُفْرَ بِالإيمانِ، بَعْدَ تَعْلِيلِهِ بِالضَّلالِ؛ وذَلِكَ كَما مَضى في: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ١٠٥] سَواءٌ. ولَمّا كانَ المُشْرِكُونَ عَرَبًا عالِمِينَ بِأنَّ طَبْعَ العَرَبِ الثَّباتُ لَمْ يُدْخِلْهم مَعَهم في هَذا الوِدِّ، وقالَ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ فَأنْبَأ أنَّ المُصافِيَ مِنهم قَلِيلٌ وبَشَّرَ سُبْحانَهُ بِأنَّ ما يَوَدُّونَهُ مِن قِسْمِ المُحالِ بِسَوْقِهِ سَوْقَ المُتَمَنِّي فَقالَ: ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ أيْ: بِأجْمَعِكم؛ ثُمَّ حَقَّقَ أمْرَ التَّمَنِّي في كَوْنِهِ مُحالًا مُشِيرًا بِإثْباتِ الجارِّ إلى قَناعَتِهِمْ بِهِ ولَوْ في زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَقالَ: ﴿مِن بَعْدِ إيمانِكُمْ﴾ أيِ: الرّاسِخِ، ﴿كُفّارًا﴾ أيْ: لِتَكُونُوا مِثْلَهم فَتُخَلَّدُوا مَعَهم في النّارِ، ﴿حَسَدًا﴾ عَلى ما آتاكُمُ اللَّهُ مِنَ الخَيْرِ الهادِي إلى الجَنَّةِ، والحَسَدُ: قَلَقُ النَّفْسِ مِن رُؤْيَةِ النِّعْمَةِ عَلى الغَيْرِ، وعَبَّرَ عَنْ بُلُوغِ الحَسَدِ (p-١٠٥)إلى غايَةٍ لا حِيلَةَ مَعَها في تَرْكِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ أيْ: أنَّهُ راسِخٌ في طَبائِعِهِمْ فَلا تَطْمَعُوا في صَرْفِهِ بِشَيْءٍ، فَإنَّ أنْفُسَهم غالِبَةٌ عَلى عُقُولِهِمْ، ثُمَّ زادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ مُشِيرًا بِإثْباتِ الجارِّ إلى ذَمِّهِمْ بِأنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلى الضَّلالِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ لا يَطْلُبُونَ الحَقَّ مَعَ القُدْرَةِ عَلى تَعَرُّفِهِ، حَتّى هَجَمَ عَلَيْهِمْ بَيانُهُ وقَهَرَهم عِرْفانُهُ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ؛ وما كَفاهم ضَلالُهم في أنْفُسِهِمْ حَتّى تَمَنَّوْا إضْلالَ غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ﴾ أيْ: بَيانًا عَظِيمًا بِوُضُوحِهِ في نَفْسِهِ، ﴿لَهُمُ الحَقُّ﴾ أيْ: مِن صِحَّةِ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وأنَّهُ خاتَمُ النَّبِيِّينَ المُرْسَلُ إلى النّاسِ (p-١٠٦)كافَّةً بِشَهادَةِ ما طابَقَهُ مِنَ التَّوْراةِ، ومِن أنَّهم خالِدُونَ في النّارِ، لِأنَّهم مِمَّنْ أحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بِما دَلَّ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ في جَمِيعِ هَذِهِ الآياتِ إبْطالًا لِدَعْواهم في مَسِّ النّارِ لَهم أيّامًا مَعْدُودَةً. ثُمَّ أرْشَدَ إلى الدَّواءِ بِقَوْلِهِ مُسَبِّبًا عَنِ الإخْبارِ بِأنَّ وِدَّهم مُحالٌ وبِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ: ﴿فاعْفُوا﴾ أيْ: عامِلُوهم مُعامَلَةَ العافِي بِأنْ لا تَذْكُرُوا لَهم شَيْئًا مِمّا تُظْهِرُهُ تِلْكَ الوِدادَةُ النّاشِئَةُ عَنْ هَذا الحَسَدِ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ ولا تَأْخُذُوا في مُؤاخَذَتِهِمْ بِهِ، فَإنَّهم لا يَضُرُّونَكم ولا يَرْجِعُونَ إلَيْكم، ﴿واصْفَحُوا﴾ أيْ: أظْهِرُوا لَهم أنَّكم لَمْ تَطَّلِعُوا عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وأصْلُ مَعْناهُ مِنَ الإعْراضِ بِصَفْحَةِ العُنُقِ عَنِ الشَّيْءِ كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وأمَرَهم بِمُطْلَقِ الصَّفْحِ ولَمْ يُقَيِّدْهُ بِالجَمِيلِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ خِطابَ نَبِيِّهِمْ ﷺ في قَوْلِهِ: ﴿فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ﴾ [الحجر: ٨٥] لِتَنَزُّلِ الخِطابِ عَلى مَراتِبِهِ ومُسْتَحَقِّ مَواقِعِهِ، وحَثَّهم عَلى أنْ يَكُونَ فِعْلُهم ذَلِكَ اعْتِمادًا عَلى تَفْرِيجِهِ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ ﴿بِأمْرِهِ﴾ فَبَشَّرَهم (p-١٠٧)بِذَلِكَ بِظُهُورِهِمْ عَلى مَن أُمِرُوا بِالصَّفْحِ والعَفْوِ عَنْهم، وقَدْ كانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ ويَتِمُّ في زَمَنِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ولَمّا كانَ النَّصْرُ وهم في القِلَّةِ والضَّعْفِ بِحالٍ عَظِيمٍ وقُوَّةُ عَدُوِّهِمْ وكَثْرَتُهم أعْظَمُ مُسْتَبْعَدًا قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ وأظْهَرَ مَوْضِعَ الإضْمارِ تَحْقِيقًا لِلْبُشْرى بِالإيماءِ إلى اسْتِحْضارِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذا الِاسْمُ الأعْظَمُ مِن صِفاتِ الجَلالِ والإكْرامِ، ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَفي هَذا الخَتْمِ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَقْدِيرِهِمْ كَما أنَّ في الخَتْمِ بِالعِلْمِ بُشْرى بِتَعْلِيمِهِمْ، وفي إفْهامِهِ نِذارَةٌ لِلْكافِرِينَ بِمُقابِلِ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب