الباحث القرآني

فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَ حِينَ أفْرَغَهُ؟ قِيلَ: ﴿قالَ هَذا﴾ أيِ السَّدُّ ﴿رَحْمَةٌ مِن رَبِّي﴾ المُحْسِنِ إلَيَّ بِإقْدارِي عَلَيْهِ ومَنعِ الفَسادِ بِهِ ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي﴾ بِقُرْبِ قِيامِ السّاعَةِ ﴿جَعَلَهُ دَكّاءَ﴾ بِإقْدارِهِمْ عَلى نَقْبِهِ وهَدْمِهِ وتَسْهِيلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، والتَّعْبِيرُ بِالمَصْدَرِ المُنَوَّنِ في قِراءَةِ الجَماعَةِ لِلْمُبالَغَةِ في دَكِّهِ هو الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ قِراءَةُ الكُوفِيِّينَ بِالمَدِّ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ. ولَمّا كانَ هَذا أمْرًا مُسْتَعْظَمًا خارِقًا لِلْعادَةِ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وكانَ وعْدُ رَبِّي﴾ الَّذِي وعَدَ بِهِ في خُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ واخْتِراقِهِمُ الأرْضَ وإفْسادِهِمْ لَها ثُمَّ قِيامِ السّاعَةِ ﴿حَقًّا﴾ كائِنًا لا مَحالَةَ، فَلِذَلِكَ أعانَ عَلى هَدْمِهِ، وعَنْ قَتادَةَ قالَ: «"ذُكِرَ لَنا أنَّ (p-١٤١)رَجُلًا - وفي رِوايَةٍ: عَنْ رَجُلٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ رَأيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، قالَ انْعَتْهُ لِي، قالَ: كالبُرْدِ المُحَبَّرِ: طَرِيقَةٌ سَوْداءُ وطَرِيقَةٌ حَمْراءُ، وفي رِوايَةٍ: طَرِيقَةٌ حَمْراءُ مِن حَدِيدٍ وطَرِيقَةٌ سَوْداءُ مِن نُحاسٍ، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ قالَ: انْتَهَيْتُ إلى أرْضٍ لَيْسَ لَهم إلّا الحَدِيدُ يَعْمَلُونَهُ -» رَواهُ الطَّبَرِيُّ وابْنُ أبِي عُمَرَ والطَّبَرانِيُّ في مُسْنَدِ الشّامِيِّينَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ والبَزّارُ مِن وجْهٍ آخَرَ مِن طَرِيقِ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُنا ابْنُ حَجَرٍ في تَخْرِيجِ أحادِيثِ الكَشّافِ، وفي حَدِيثِ فَتْحِ البابِ مِن سِيرَةِ الحافِظِ أبِي الرَّبِيعِ بْنِ سالِمٍ الكَلاعِيِّ وشَيْخِهِ ابْنِ حُبَيْشٍ - وكانَ أمِيرَ تِلْكَ الجُيُوشِ الَّتِي بِها عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ في أيّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما نَصُّهُ: وحَدَّثَ مَطَرُ بْنُ ثَلْجٍ التَّمِيمِيُّ قالَ: دَخَلْتُ عَلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ بِالبابِ وشَهْرَبَرازُ عِنْدَهُ - يَعْنِي: وكانَ مَلِكَ البابِ مِن جِهَةِ آلِ كِسْرى فَأقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ شُحُوبَةٌ حَتّى جَلَسَ إلى شَهْرَبَرازَ فَتَساءَلا، ثُمَّ إنَّ شَهْرَبَرازَ قالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أيُّها الأمِيرُ! أتَدْرِي مِن أيْنَ جاءَ هَذا الرَّجُلُ؟ إنِّي بَعَثْتُهُ مُنْذُ سِنِينَ نَحْوَ السَّدِّ لِيَنْظُرَ لِي ما حالُهُ ومَن دُونَهُ، (p-١٤٢)وزَوَّدْتُهُ مالًا عَظِيمًا، وكَتَبْتُ لَهُ إلى مَن يَلِينِي وأهْدَيْتُ لَهُ وسَألْتُهُ أنْ يَكْتُبَ إلى مَن وراءَهُ، وزَوَّدْتُهُ لِكُلِّ مَلِكٍ هَدِيَّةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِكُلِّ مَلِكٍ بَيْنِي وبَيْنَهُ حَتّى انْتَهى إلى المَلِكِ الَّذِي السَّدُّ في ظَهْرِ أرْضِهِ، فَكَتَبَ لَهُ إلى عامِلِهِ عَلى ذَلِكَ البَلَدِ، فَأتاهُ فَبَعَثَ مَعَهُ بازْيارَهُ ومَعَهُ عُقابُهُ، فَذَكَرَ أنَّهُ أحْسَنَ إلى البازْيارِ، قالَ: فَتَشَكَّرَ لِيَ البازْيارُ فَلَمّا انْتَهَيْنا إذا جَبَلانِ بَيْنَهُما سَدٌّ مَسْدُودٌ حَتّى ارْتَفَعَ عَلى الجَبَلَيْنِ بَعْدَ ما اسْتَوى بِهِما، وإذا دُونَ السَّدِّ خَنْدَقٌ أشَدُّ سَوادًا مِنَ اللَّيْلِ لِبُعْدِهِ، فَنَظَرْتُ إلى ذَلِكَ وتَفَرَّسْتُ فِيهِ، ثُمَّ ذَهَبْتُ لِأنْصَرِفَ فَقالَ لِيَ البازْيارُ: عَلى رِسْلِكَ! أكافِيكَ أنَّهُ لا يَلِي مَلِكٌ بَعْدَ مَلِكٍ إلّا تَقَرَّبَ إلى اللَّهِ تَعالى بِأفْضَلِ ما عِنْدَهُ مِنَ الدُّنْيا فَيَرْمِي بِهِ في هَذا اللِّهْبِ، فَشَرَحَ بَضْعَةَ [لَحْمٍ -] مَعَهُ فَألْقاها في ذَلِكَ الهَواءِ وانْقَضَّتْ عَلَيْها العُقابُ وقالَ: إنْ أدْرَكَتْها قَبْلَ أنْ تَقَعَ فَلا شَيْءَ، وإنْ لَمْ تُدْرِكْها حَتّى تَقَعَ فَذَلِكَ شَيْءٌ، فَخَرَجَتْ عَلَيْنا بِاللَّحْمِ في مَخالِبِها وإذا فِيهِ ياقُوتَةٌ فَأعْطانِيها، وهي هَذِهِ، فَتَناوَلَها مِنهُ شَهْرَ بَرازُ وهي حَمْراءُ فَناوَلَها عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَنَظَرَ إلَيْها ثُمَّ رَدَّها إلَيْهِ فَقالَ شَهْرَ بَرازُ: هَذِهِ خَيْرٌ مِن هَذِهِ البَلْدَةِ - يَعْنِي البابَ - وايْمِ اللَّهِ! لَأنْتُمْ أحَبُّ إلَيَّ مَلَكَةً مِن آلِ كِسْرى، ولَوْ كُنْتُ في سُلْطانِهِمْ ثُمَّ بَلَغَهم خَبَرُها (p-١٤٣)لانْتَزَعُوها مِنِّي، وايْمِ اللَّهِ! لا يَقُومُ لَكم شَيْءٌ ما وفَيْتُمْ أوْ وفى مَلِكُكُمُ الأكْبَرُ، فَأقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلى الرَّسُولِ وقالَ: ما حالُ الرَّدْمِ وما شَبَهُهُ؟ فَقالَ: هَذا الثَّوْبُ الَّذِي عَلى هَذا الرَّجُلِ، وأشارَ إلى مَطَرِ بْنِ ثَلْجٍ وكانَ عَلَيْهِ قَباءٌ بَرُودٌ يَمَنِيَّةٌ أرْضُهُ حَمْراءُ ووَشْيُهُ أسْوَدُ، أوْ وشْيُهُ أحْمَرُ وأرْضُهُ سَوْداءُ، فَقالَ مَطَرٌ: صَدَقَ واللَّهِ الرَّجُلُ! لَقَدْ نَفَّذَ ورَأى، قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أجَلْ! ووَصَفَ صِفَةَ الحَدِيدِ والصُّفْرِ وقَرَأ ﴿آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ﴾ [الكهف: ٩٦] إلى آخِرِ الآيَةِ، وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِشَهْرَ بَرازَ: كَمْ كانَتْ هَدِيَّتُكَ؟ قالَ: قِيمَةَ مِائَةِ ألْفٍ في بِلادِي هَذِهِ، وثَلاثَةِ آلافِ [ألْفٍ -] أوْ أكْثَرَ في تِلْكَ البُلْدانِ - انْتَهى. وقَدْ ظَهَرَ أنَّ [ما -] تَعَنَّتُوا بِهِ مِن قِصَّتَيْ أصْحابِ الكَهْفِ وذِي القَرْنَيْنِ وما أُدْرِجَ بَيْنَهُما تَبْكِيتًا لِلْيَهُودِ الآمِرِينَ بِذَلِكَ - دالٌّ [مِن قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ -]عَلى قِيامِ السّاعَةِ فَصارَ كُلُّهُ أعْظَمَ مُلْزِمٍ لَهم إنْ قَبِلُوهُ، وأوْضَحَ فاضِحٍ لِعِنادِهِمْ إنْ تَرَكُوهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب