الباحث القرآني

﴿فانْطَلَقا﴾ بَعْدَ قَتْلِهِ ﴿حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ﴾ عَبَّرَ عَنْها هُنا بِالقَرْيَةِ دُونَ المَدِينَةِ (p-١١٤)لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى الذَّمِّ، لِأنَّ مادَّةَ قَرا تَدُورُ عَلى الجَمْعِ الَّذِي يَلْزَمُهُ الإمْساكُ كَما تَقَدَّمَ في آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ ثُمَّ وصَفَها لِيُبَيِّنَ [أنَّ -] لَها مَدْخَلًا في لُؤْمِ أهْلِها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اسْتَطْعَما﴾ وأظْهَرَ ولَمْ يُضْمِرْ في قَوْلِهِ: ﴿أهْلَها﴾ لِأنَّ الِاسْتِطْعامَ لِبَعْضِ مَن أتَوْهُ، أوْ كُلٌّ مِنَ الإتْيانِ والِاسْتِطْعامِ لِبَعْضٍ ولَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّحِدٍ، وهَذا هو الظّاهِرُ، لِأنَّهُ هو المُوافِقُ لِلْعادَةِ. قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في كِتابِهِ مِفْتاحُ البابِ المُقْفَلِ لِفَهْمِ القُرْآنِ المُنْزَلِ: ولِتَكْرارِ الأسْماءِ بِالإظْهارِ والإضْمارِ بَيانُ سِنِينَ الأفْهامِ في القُرْآنِ: اعْلَمْ أنَّ لِوُقُوعِ الإظْهارِ والإضْمارِ في بَيانِ القُرْآنِ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما يَتَقَدَّمُ فِيهِ الإظْهارُ وهو خِطابُ المُؤْمِنِينَ بِآياتِ الآفاقِ وعَلى نَحْوِهِ هو خِطابُ الخَلْقِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لا يُضْمِرُونَ إلّا بَعْدَ أنْ يُظْهِرُوا، والثّانِي يَتَقَدَّمُ فِيهِ الإضْمارُ وهو خِطابُ المُوقِنِينَ بِآيَةِ الأنْفُسِ، ولَمْ يَصِلْ إلَيْهِ تَخاطُبُ الخَلْقِ. فَإذا كانَ البَيانُ عَنْ إحاطَةٍ، تَقَدَّمَ الإضْمارُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] وإذا كانَ عَنِ اخْتِصاصٍ، تَقَدَّمَ [الإظْهارُ -] ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: ٢] وإذا رَدَّ عَلَيْهِ بَيانٌ عَلى حِدَةٍ أضْمَرَ ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] -] أيْ هَذا الَّذِي عُمَّ بِأحَدِيَّتِهِ وخُصَّ بِصَمَدِيَّتِهِ، وإذا (p-١١٥)أحاطَ البَيانُ بَعْدَ اخْتِصاصٍ اسْتُؤْنِفَ لَهُ إحاطَةٌ بِاسْتِئْنافِ إظْهارٍ مُحِيطٍ أوْ بِإضْمارٍ، أوْ بِجَمْعِ المُضْمَرِ والمُظْهَرِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: ١] ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: ١٢] ﴿إنَّهُ هو يُبْدِئُ ويُعِيدُ﴾ [البروج: ١٣] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ [الحشر: ٢٢] والتَّفَطُّنُ لِما اخْتُصَّ بِهِ بَيانُ القُرْآنِ عَنْ بَيانِ الإنْسانِ مِن هَذا النَّحْوِ مِن مَفاتِيحِ أبْوابِ الفَهْمِ، ومِن نَحْوِهِ ﴿أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها﴾ اسْتَأْنَفَ لِلْمُسْتَطْعِمَيْنِ إظْهارًا غَيْرَ إظْهارِ المَأْتِيِّينَ - انْتَهى. [وجَعَلَ السُّبْكِيُّ الإتْيانَ لِلْبَعْضِ، والِاسْتِطْعامَ لِلْكُلِّ، لِأنَّهُ أشَدُّ ذَمًّا لِأهْلِ القَرْيَةِ وأدَلُّ عَلى شَرِّ طَبْعِها، ومَن قالَ بِالأوَّلِ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِ الشّافِعِيِّ في كِتابِ الرِّسالَةِ في بابِ ما نَزَلَ مِنَ الكِتابِ عامًّا يُرادُ بِهِ العامُّ ويُدْخِلُها الخُصُوصَ وهو بَعْدَ البَيانِ الخامِسِ في قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ أدَلُّ دَلالَةٍ عَلى أنَّهُ لَمْ يَسْتَطْعِما كُلَّ أهْلِ القَرْيَةِ وفِيها خُصُوصٌ - انْتَهى، وبَيانُ ذَلِكَ أنَّ نَكِرَةً إذا أُعِيدَتْ كانَتِ الثّانِيَةُ غَيْرَ الأُولى، وإذا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةٌ كانَتْ عَيْنًا في الأغْلَبِ. ولَمّا أسْنَدَ (p-١١٦)الإتْيانَ إلى أهْلِ القَرْيَةِ كانَ ظاهِرُهُ تَناوُلَ الجَمِيعِ، فَلَوْ قِيلَ: اسْتَطْعَماهم لَكانَ المُرادُ بِالضَّمِيرِ عَيْنَ المَأْتِيِّينَ، فَلَمّا عَدَلَ عَنْهُ - مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ - إلى الظّاهِرِ ولا سِيَّما إنْ جَعَلْناهُ نَكِرَةً كانَ غَيْرَ الأُولى وإلّا لَمْ يَكُنْ لِلْعُدُولِ فائِدَةٌ، وقَدْ كانَ الظّاهِرُ أنَّ الأوَّلَ لِلْجَمِيعِ فَكانَ الثّانِي لِلْبَعْضِ، وإلّا لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ ولا كانَ لِلْعُدُولِ فائِدَةٌ -]. ”فَأبَوْا“ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنِ اسْتِطْعامِهِما أنْ أبى المُسْتَطْعَمُونَ مِن أهْلِ القَرْيَةِ ﴿أنْ يُضَيِّفُوهُما﴾ أيْ يُنْزِلُوهُما ويُطْعِمُوهُما فانْصَرَفا عَنْهم ﴿فَوَجَدا فِيها﴾ أيِ القَرْيَةِ، ولَمْ يَقُلْ: فِيهِمْ، إيذانًا بِأنَّ المُرادَ وصْفُ القَرْيَةِ بِسُوءِ الطَّبْعِ ”جِدارًا“ مُشْرِفًا عَلى السُّقُوطِ، وكَذا قالَ مُسْتَعِيرًا لِما لا يَعْقِلُ صِفَةَ ما يَعْقِلُ: ﴿يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ﴾ أيْ يَسْقُطَ سَرِيعًا فَمَسَحَهُ الخَضِرُ بِيَدِهِ ”فَأقامَهُ“. ولَمّا انْقَضى وصْفُ القَرْيَةِ وما تَسَبَّبَ عَنْهُ أجابَ ”إذا“ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ﴾ أيْ لَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ﴾ لِكَوْنِنا لَمْ يَصِلْ إلَيْنا مِنهم شَيْءٌ ﴿عَلَيْهِ﴾ أيْ عَلى إقامَةِ الجِدارِ ﴿أجْرًا﴾ نَأْكُلُ بِهِ، فَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ في هَذِهِ المَرَّةِ لِعَدَمِ ما يُنْكَرُ فِيها، وإنَّما ساقَ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِن ثَمَرَتِها مَساقَ العَرْضِ والمَشُورَةِ غَيْرَ أنَّهُ يَتَضَمَّنُ السُّؤالَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب