الباحث القرآني

ولَمّا حَكى عَنْهم هَذا الجِدالَ، والِاسْتِهْزاءَ والضَّلالَ، وصَفَهم بِما يُوجِبُ الخِزْيَ فَقالَ - عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَكانُوا بِذَلِكَ أظْلَمَ الظّالِمِينَ: ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ مِنهُمُ - اسْتِفْهامًا عَلى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، ولَكِنَّهُ أظْهَرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى الوَصْفِ المُوجِبِ لِلْإنْكارِ عَلى مَن شَكَّ في أنَّهم أظْلَمُ. فَقالَ تَعالى: ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ﴾ أيْ مِن أيِّ مُذَكِّرٍ كانَ ”بِآياتِ“ أيْ عَلاماتِ ﴿رَبِّهِ﴾ المُحْسِنِ إلَيْهِ بِها؛ قالَ الأصْبَهانِيُّ: وهَذا مِن أفْصَحِ (p-٩٢)التَّقْرِيرِ أنْ يُوقَفَ الرَّجُلُ عَلى ما لا جَوابَ فِيهِ إلّا الَّذِي يُرِيدُ خَصْمُهُ. ولَمّا كانَ التَّذْكِيرُ سَبَبًا لِلْإقْبالِ فَعَكَسُوا فِيهِ قالَ تَعالى: ﴿فَأعْرَضَ عَنْها﴾ تارِكًا لِما يَعْرِفُ مِن تِلْكَ العَلاماتِ العَجِيبَةِ وما يُوجِبُهُ ذَلِكَ [الإحْسانُ -] مِنَ الشُّكْرِ ﴿ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ مِنَ الفَسادِ الَّذِي هو عارِفٌ - لَوْ صَرَفَ عَقْلَهُ إلى الفِكْرِ فِيما يَنْفَعُهُ - أنَّ الحِكْمَةَ تَقْتَضِي جَزاءَهُ عَلَيْهِ، وأفْرَدَ الضَّمِيرَ في جَمِيعِ هَذا عَلى لَفْظِ ”مِن“ إشارَةً إلى أنَّ مَن فَعَلَ مِثْلَ هَذا - ولَوْ أنَّهُ واحِدٌ - كانَ هَكَذا، والأحْسَنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لَمّا كانُوا قَدْ سَألُوا اليَهُودَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ عِنْدَ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: ٨٥] فَأمَرُوهم بِسُؤالِهِ عَمّا جَعَلُوهُ أمارَةً عَلى صِدْقِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِمْ، واسْتَمَرُّوا بَعْدَ إخْبارِهِ بِالحَقِّ عَلى التَّكْذِيبِ، شَرَحَ حالَهم بِالتَّعْقِيبِ بِالفاءِ، فَكانَ المَعْنى: مَن أظْلَمُ مِنهُمْ، لِأنَّهم ذُكِّرُوا فَأعْرَضُوا ونَسُوا ما اعْتَقَدُوا أنَّهُ دَلِيلُ الصِّدْقِ، وأنَّهُ لا جِدالَ بَعْدَهُ، وسَيَأْتِي لِمَوْقِعِ الفاءِ في آخِرِ السَّجْدَةِ مَزِيدُ بَيانٍ، وإسْنادُ الفِعْلِ في الإعْراضِ وما بَعْدَهُ إلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ مِمّا لَهم مِنَ [الكَسْبِ كَما أنَّ إسْنادَ الجَعْلِ وما بَعْدَهُ إلى اللَّهِ حَقِيقَةٌ بِما لَهُ مِنَ -]الخَلْقِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما لَهم فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أيَجْهَلُ قُبْحَ هَذا أحَدٌ؟ قِيلَ: (p-٩٣)﴿إنّا جَعَلْنا﴾ بِما لَنا مِنَ القُدْرَةِ عَلى إعْماءِ البَصائِرِ والأبْصارِ ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ فَجَمَعَ رُجُوعًا إلى أُسْلُوبِ ﴿واتَّخَذُوا آياتِي﴾ [الكهف: ٥٦] لِأنَّهُ أنَصُّ عَلى ذَمِّ كُلِّ واحِدٍ ”أكِنَّةً“ أيْ أغْطِيَةً مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْها اسْتِعْلاءً يَدُلُّ سِياقُ العَظَمَةِ عَلى أنَّهُ لا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الخَيْرِ يَصِلُ إلَيْها، فَهي لا تَعِي شَيْئًا مِن آياتِنا، ودَلَّ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالآياتِ القُرْآنُ فَقالَ تَعالى: ﴿أنْ﴾ أيْ كَراهَةَ أنْ ﴿يَفْقَهُوهُ﴾ أيْ يَفْهَمُوهُ ﴿وفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ أيْ ثِقَلًا فَهم لا يَسْمَعُونَ حَقَّ السَّمْعِ، ولا يَعُونَ حَقَّ الوَعْيِ ﴿وإنْ تَدْعُهُمْ﴾ أيْ تُكَرِّرْ دُعاءَهم كُلَّ وقْتٍ ﴿إلى الهُدى﴾ لِتُنْجِيَهم بِما عِنْدَكَ مِنَ الحِرْصِ عَلى ذَلِكَ والجِدِّ ﴿فَلَنْ يَهْتَدُوا﴾ أيْ كُلُّهم بِسَبَبِ دُعائِكَ ﴿إذًا﴾ أيْ إذا دَعَوْتَهم ”أبَدًا“ لِأنَّ مَن لَهُ العَظَمَةُ التّامَّةُ - وهو الَّذِي إذا عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِنُونِها كانَتْ عَلى حَقِيقَتِها - حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلالِ، أيْ أنَّهُ لا يَكُونُ الدُّعاءُ وحْدَهُ هادِيًا لِأكْثَرِهِمْ، بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِنَ السَّيْفِ كَما سَنَأْمُرُكَ بِهِ فَتَقْطَعَ الرُّؤُوسَ فَيَذِلَّ غَيْرُهُمْ، وقَدْ يَكُونُ المُرادُ أنَّ مَن كانَ هَكَذا مُعانِدًا عَلى هَذا الوَجْهِ مُؤَبَّدُ الشَّقاءِ، وقَدْ نَفى (p-٩٤)آخِرَ هَذِهِ الآيَةِ الفِعْلَ عَنِ العِبادِ وأثْبَتَهُ لَهم أوَّلَها، وقَلَّما نَجِدُ في القُرْآنِ آيَةً تُسْنِدُ الفِعْلَ إلَيْهِمْ إلّا قارَنَتْها أُخْرى تُثْبِتُهُ لِلَّهِ وتَنْفِيهِ عَنْهُمُ، ابْتِلاءً مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الرّاسِخُ - الَّذِي يَنْسُبُ لِلْمُكَلَّفِينَ الكَسْبَ المُفِيدَ لِأثَرِ التَّكْلِيفِ، ولِلَّهِ الخَلْقُ المُفِيدُ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا شَرِيكَ لَهُ في خَلْقٍ ولا غَيْرِهِ - مِنَ الطّائِشِ الَّذِي يَقُولُ بِالجَبْرِ أوِ التَّفْوِيضِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب