الباحث القرآني

وأتْبَعَهُ حالًا أُخْرى لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَيِّمًا﴾ تَصْرِيحًا بِاللّازِمِ تَأْكِيدًا لَهُ، ومُقَيِّدًا أنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الكُتُبِ مُقَيِّمٌ لِغَيْرِهِ، وقَدْ مَضى في الفاتِحَةِ ثُمَّ في الأنْعامِ عَنِ الإمامِ سَعْدِ الدِّينِ التَّفْتازانِيِّ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ كُلَّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ [بِالحَمْدِ-٤] فَلِلْإشارَةِ إلى نِعْمَةٍ مِن أُمَّهاتِ النِّعَمِ الَّتِي هي إيجادٌ وإبْقاءٌ أوَّلًا، وإيجادٌ وإبْقاءٌ ثانِيًا، وأنَّهُ أُشِيرَ في الفاتِحَةِ لِكَوْنِها أُمَّ الكِتابِ إلى الأرْبَعِ، وفي الأنْعامِ إلى الإيجادِ الأوَّلِ وهو ظاهِرٌ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ إلى الإبْقاءِ الأوَّلِ، فَإنَّ نِظامَ العالَمِ وبَقاءَ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ يَكُونُ بِالنَّبِيِّ والكِتابِ- انْتَهى. ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ في هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ أنَّهُ انْتُظِمَ بِأهْلِ الكَهْفِ أمْرُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِن أهْلِ زَمانِهِمْ ثُمَّ بِالخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَثِيرٌ مِنَ الأحْوالِ، ثُمَّ بِذِي القَرْنَيْنِ أمْرُ جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ بِما يُسِّرَ لَهُ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي مِنها السَّدُّ الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَ ياجُوجَ وماجُوجَ الَّذِينَ يَكُونُ بِهِمْ- إذا أخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعالى - فَسادُ الأرْضِ كُلِّها، ثُمَّ ذَكَرَ في الَّتِي تَلِيها مِن أهْلِ وُدِّهِ واصْطِفائِهِ مَنِ اتَّبَعَهم لِنِظامِ العالَمِ بِما وفَّقَهم لَهُ مِن طاعَتِهِ، وبَصَّرَهم بِهِ مِن مَعْرِفَتِهِ، واسْتَمَرَّ كَذَلِكَ في أكْثَرِ السُّوَرِ حَتّى ذَكَرَ السُّورَةَ الَّتِي أشارَ فِيها إلى الإيجادِ الثّانِي، وأتْبَعَها بِالَّتِي أشارَ فِيها إلى الإبْقاءِ الثّانِي. ولَمّا كانَ إبْقاءُ الأوَّلِ يَقْتَضِي مُهْلَةً لِبُلُوغِ حَدِّ التَّكْلِيفِ [وإجْراءِ القَلَمِ] (p-٥)ثُمَّ مُهْلَةً أُخْرى يَكُونُ فِيها العَمَلُ والِاسْتِعْدادُ لِما لِأجْلِهِ كانَ هَذا الوُجُودُ مِنَ العَرْضِ عَلى الرَّحْمَنِ، لِلْجَزاءِ بِالإساءَةِ أوِ الإحْسانِ، ومُهْلَةً أُخْرى يُحْبَسُ فِيها السّابِقُ مِنَ الخَلائِقِ إلى وُرُودِ مَشْرَعِ المَوْتِ لِانْتِظارِ اللّاحِقِ، إلى بُلُوغِ ما ضَرَبَ سُبْحانَهُ مِنَ الآجالِ، لِأزْمانِ الإمْهالِ، وقِيامِ النّاسِ أجْمَعِينَ، لِرَبِّ العالَمِينَ، وهو البَرْزَخُ وكانَ ما قَبْلَ التَّكْلِيفِ شَبِيهًا بِالعَدَمِ إلّا في تَعَلُّمِ /الكِتابِ والتَّوْحِيدِ والِاجْتِماعِ عَلى أهْلِ الدِّينِ والوَفاءِ بِما تَقَدَّمُوا فِيهِ بِالعَهْدِ [مِنَ الأحْكامِ]، ودُرِّبُوا عَلَيْهِ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، أُشِيرَ إلَيْهِ بِما بَيْنَ الفاتِحَةِ والأنْعامِ الَّتِي هي سُورَةُ الإيجادِ الأوَّلِ مِنَ السُّوَرِ الأرْبَعِ، وكَأنَّ سِنَّ الِاحْتِلامِ كانَ أوَّلَ الإيجادِ مِنَ الإعْدامِ، وأُشِيرَ إلى بَقِيَّةِ العُمْرِ -وهُوَ زَمانُ التَّكْلِيفِ- بِما بَيْنَ الأنْعامِ وهَذِهِ السُّورَةِ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَ فِيها مَصارِعُ الأوَّلِينَ وأخْبارُ الماضِينَ تَحْذِيرًا مِن مِثْلِ أحْوالِهِمْ، لِمَن نَسَجَ عَلى مِنوالِهِمْ، وخُتِمَتْ بِالتَّحْمِيدِ مُقْتَرِنًا بِالتَّوْحِيدِ [إشارَةً] إلى أنَّهُ يَجِبُ الِاجْتِهادُ في أنْ يُخْتَمَ الأجَلُ في أعْلى ما يَكُونُ مِن خِصالِ [الدِّينِ]، وأُشِيرَ إلى مُهْلَةِ البَرْزَخِ بِما بَيْنَ هَذِهِ وسُورَةِ الإيجادِ الثّانِي مِنَ السُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَ في غالِبِها مِثْلَ ذَلِكَ، وأكْثَرَ فِيها [كُلِّها مِن] ذِكْرِ المَوْتِ وما بَعْدَهُ مِنَ البَرْزَخِ الَّذِي يَكُونُ لِانْقِطاعِ [العَلائِقِ] بِاجْتِماعِ الخَلائِقِ، لِأجْلِ التَّجَلِّي في رَدِّ العَظَمَةِ، والكَشْفِ البَلِيغِ عَنْ نُفُوذِ الكَلِمَةِ، (p-٦)والتَّحَلِّي بِالحُكْمِ بِاسْتِقْرارِ الفَرِيقَيْنِ في دارِ النَّعِيمِ أوْ غارِ الجَحِيمِ، وأكْثَرَ فِيما بَيْنَ هَذِهِ وبَيْنَ سَبَأٍ مِن أمْرِ البَعْثِ كَثْرَةً لَيْسَتْ فِيما مَضى حَتّى صَدَّرَ بَعْضَها بِهِ، وبَناها عَلَيْهِ كَسُورَتَيِ الأنْبِياءِ ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] والحَجِّ ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] ولَمّا [لَمْ] يَكُنْ بَيْنَ البَعْثِ وما بَعْدَهُ مُهْلَةٌ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، عَقَّبَ سُورَةَ الإيجادِ الثّانِي بِسُورَةِ الإبْقاءِ الثّانِي مِن غَيْرِ فاصِلٍ ولا حاجِزٍ ولا حائِلٍ - واللَّهُ أعْلَمُ. ولَمّا وصَفَ الكِتابَ بِما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ في جَمِيعِ ما مَضى مِن أوْصافِهِ مِنَ الحِكْمَةِ والإحْكامِ، والتَّفْصِيلِ والبَيانِ، والحَقِّيَّةِ، والإخْراجِ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، والجَمْعِ لِكُلِّ مَعْنىً والتِّبْيانِ لِكُلِّ شَيْءٍ، أتْبَعَهُ ذِكْرَ فائِدَتِهِ مُقَدِّمًا ما هو الأهَمُّ مِن دَرْءِ المَفْسَدَةِ بِالإنْذارِ، لِأنَّهُ مَقامُهُ كَما هو ظاهِرٌ مِن ”سُبْحانَ“ فَقالَ: ﴿لِيُنْذِرَ﴾ وقَصَرَهُ عَلى المَفْعُولِ الأوَّلِ لِيَعُمَّ كُلَّ مَن يَصِحُّ قَبُولُهُ الإنْذارَ ولَوْ تَقْدِيرًا، ولِيُفِيدَ أنَّ الغَرَضَ بَيانُ المُنْذَرِ بِهِ لا المُنْذِرِ ﴿بَأْسًا شَدِيدًا﴾ كائِنًا ﴿مِن لَدُنْهُ﴾ أيْ أغْرَبِ ما عِنْدَهُ مِنَ الخَوارِقِ بِما في هَذا الكِتابِ مِنَ الإعْجازِ لِمَن خالَفَ أمْرَهُ مِن عَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وغَيْرِها المُفِيدِ لِإدْخالِ الإسْلامِ (p-٧)عَلَيْهِمْ وهم كارِهُونَ، بَعْدَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ القُوَّةِ وهو مِنَ الضَّعْفِ ﴿ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيِ الرّاسِخِينَ في هَذا الوَصْفِ ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ﴾ وهو ما أمَرَ بِهِ خالِصًا [لَهُ]، وذَلِكَ مِن أسْنانِ مِفْتاحِ الإيمانِ ﴿أنَّ لَهُمْ﴾ أيْ مِن حَيْثُ هم عامِلُونَ ﴿أجْرًا حَسَنًا﴾ وهو النَّعِيمُ، حالَ كَوْنِهِمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب