الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ قادِرٌ عَلى إذْلالِ العَزِيزِ بَعْدَ ضَخامَةِ عِزِّهِ؛ بَيَّنَ أنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلى إدالَتِهِ عَلى مَن قَهَرَهُ بَعْدَ طُولِ ذُلِّهِ؛ إذا نَقّاهُ مِن دَرَنِهِ؛ وهَذَّبَهُ مِن ذُنُوبِهِ؛ فَقالَ (تَعالى) - مُشِيرًا بِأداةِ التَّراخِي إلى عَظَمَةِ هَذِهِ الإدالَةِ؛ بِخَرْقِها لِلْعَوائِدِ -: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا﴾؛ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ وعَجَّلَ لَهُمُ البُشْرى؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لَكُمُ﴾؛ أيْ: خاصَّةً؛ ﴿الكَرَّةَ﴾؛ أيْ: العَوْدَةَ؛ والعَظَمَةَ؛ وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ مَعَ السَّطْوَةِ؛ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: في زَمانِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿وأمْدَدْناكُمْ﴾؛ أيْ: أعَنّاكُمْ؛ (p-٣١١)بِعَظْمَتِنا؛ ﴿بِأمْوالٍ﴾؛ تَسْتَعِينُونَ بِها عَلى قِتالِ أعْدائِكُمْ؛ ﴿وبَنِينَ﴾؛ أيْ: تُقَوَّوْنَ بِهِمْ؛ ﴿وجَعَلْناكُمْ﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا؛ ﴿أكْثَرَ﴾؛ أيْ: مِن عَدُوِّكُمْ؛ ﴿نَفِيرًا﴾؛ أيْ: ناسًا يَنْفِرُونَ مَعَكُمْ؛ إذا اسْتَنْفَرْتُمُوهم لِلْقِتالِ؛ ونَحْوِهِ مِنَ المُهِمّاتِ؛ والظّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِهَذِهِ المَرَّةِ ما كانَ عَلى يَدَيْ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ - في هَذِهِ المَرَّةِ الثّانِيَةِ -: ﴿ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٧] وداوُدُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أسَّسَ المَسْجِدَ ولَمْ يُكْمِلْهُ؛ إنَّما أكْمَلَهُ ابْنُهُ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - مِن بَعْدِهِ؛ والَّذِي غَرَّ مَن قالَ ذَلِكَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا قُهِرُوا قَبْلَ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ الفِلَسْطِينِيِّينَ؛ وغَيْرِهِمْ؛ ثُمَّ كانَ خَلاصُهم عَلى يَدِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَما مَضَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“؛ قالَ - في ”الزَّبُورِ“؛ في المَزْمُورِ الثّالِثَ عَشَرَ -: (مَن يُعْطِي صِهْيُونَ الخَلاصَ لِإسْرائِيلَ؟ إذا رَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ شَعْبِهِ يَتَهَلَّلُ يَعْقُوبُ؛ ويَفْرَحُ إسْرائِيلُ)؛ وفي الثّالِثِ والأرْبَعِينَ: (اللَّهُمَّ؛ إنّا قَدْ سَمِعْنا بِآذانِنا؛ (p-٣١٢)وأخْبَرَنا آباؤُنا بِالأعْمالِ الَّتِي صَنَعْتَ في أيّامِهِمُ الأُولى؛ فَلْنُسَبِّحْكَ يا إلَهَنا كُلَّ يَوْمٍ؛ ونَشْكُرِ اسْمَكَ إلى الدَّهْرِ؛ الآنَ أضْعَفْتَنا؛ وأقْصَيْتَنا؛ ولَمْ تَكُنْ يا رَبُّ تَصْحَبُ جُيُوشَنا؛ لَكِنْ رَدَدْتَنا عَلى أعْقابِنا عَنْ أعْدائِنا؛ واخْتَطَفَنا مُبْغِضُونا؛ جَعَلْتَنا مَأْكَلَةً كالغَنَمِ؛ مَدَدْتَنا بَيْنَ الشُّعُوبِ؛ بِعْتَ شَعْبَكَ بِلا ثَمَنٍ؛ أقْلَلْتَ كَثْرَةَ عَدَدِهِمْ؛ صَيَّرْتَنا عارًا في جِيرَتِنا؛ هَزْءًا وطَنْزًا لِمَن حَوْلَنا؛ صِرْنا مَثَلًا في الشُّعُوبِ؛ وهَزًّا لِلرُّؤُوسِ في الأُمَمِ؛ حُزْنِي بَيْنَ يَدَيَّ النَّهارَ كُلَّهُ؛ الخِزْيُ غَطّى وجْهِي؛ مِن صَوْتِ المُعَيِّرِ؛ اللَّهُمَّ؛ إنَّ هَذا كُلَّهُ قَدْ نالَنا ولَمْ نَنْسَ اسْمَكَ؛ ولا نَكَثْنا عَهْدَكَ؛ ولا صَرَفْنا قُلُوبَنا عَنْكَ؛ عَدَلْتَ بِقَصْدِنا عَنْ سُبُلِكَ؛ أنْزَلْتَنا مَحالَّ وعِرَةً؛ غَشَّيْتَنا بِظِلالِ المَوْتِ؛ ولَمْ نَنْسَكَ يا رَبُّ)؛ وقالَ - في المَزْمُورِ الثّامِنِ والسَّبْعِينَ؛ والَّذِي بَعْدَهُ -: (اللَّهُمَّ؛ إنَّ الأُمَمَ دَخَلَتْ مِيراثَكَ ونَجَّسَتْ هَيْكَلَ قُدْسِكَ؛ جَعَلُوا أُورْشَلِيمَ خَرابًا كالمَحْرَسِ؛ وصَيَّرُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ (p-٣١٣)طَعامًا لِطَيْرِ السَّماءِ؛ ولُحُومَ أصْفِيائِكَ لِوُحُوشِ الأرْضِ؛ سَفَكُوا دِماءَهم كالماءِ حَوْلَ أُورْشَلِيمَ؛ ولَيْسَ لَهم دافِنٌ؛ صِرْنا عارًا في جِيرانِنا؛ هَزْءًا وطَنْزًا لِمَن حَوْلَنا؛ حَتّى مَتى تَسْخَطُ يا رَبُّ؛ دائِمًا يَشْتَعِلُ مِثْلَ النّارِ غَضَبُكَ؛ أفِضْ رِجْزَكَ عَلى الأُمَمِ الَّذِينَ لا يَعْرِفُونَكَ؛ وعَلى المُلُوكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُوا اسْمَكَ؛ فَإنَّهم أكَلُوا يَعْقُوبَ وأخْرَبُوا دِيارَهُ؛ لا تَذْكُرْ خَطايانا الأُولى؛ بَلْ تَغَشّانا رَأْفَتَكَ سَرِيعًا؛ لِأنّا قَدْ تَمَسَّكْنا جِدًّا؛ فَكُنْ لَنا مُعِينًا يا إلَهَنا ومُخَلِّصَنا؛ ونُمَجِّدُ اسْمَكَ يا رَبُّ؛ نَجِّنا واغْفِرْ لَنا خَطايانا؛ لِأجْلِ اسْمِكَ الكَرِيمِ؛ لِئَلّا تَقُولَ الأُمَمُ: أيْنَ إلَهُهُمْ؟ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْلَمُ الشُّعُوبُ وتَنْظُرُ عُيُونُنا انْتِقامَ دِماءِ عَبِيدِكَ المَسْفُوكَةِ؛ ولْيَدْخُلْ إلَيْكَ تَنَهُّدُ الأُسارى؛ وكَمِثْلِ عَظَمَةِ ذِراعِكَ أنْقِذْ بَنِيَّ المَقْتُولِينَ؛ جازِ جِيرانَنا في حَضْنِهِمْ لِلْواحِدِ سَبْعَةً؛ بِالعارِ الَّذِي عَيَّرُوكَ يا رَبُّ! نَحْنُ شَعْبُكَ؛ وغَنَمُ رَعِيَّتِكَ؛ نَشْكُرُكَ إلى الأبَدِ؛ ونُخْبِرُ بِتَسابِيحِكَ مِن جِيلٍ إلى جِيلٍ؛ أنْصِتْ يا راعِيَ (p-٣١٤)إسْرائِيلَ الَّذِي هَدى يُوسُفَ كالخَرُوفِ؛ انْظُرْ أيُّها الجالِسُ عَلى الكَرُوبَيْنِ؛ اسْتَعْلِنْ قُدّامَ إفْرامَ وبِنْيامِينَ؛ ومَنَشّا؛ وأظْهِرْ جَبَرُوتَكَ؛ وتَعالَ لِخَلاصِنا؛ اللَّهُمَّ؛ أقْبِلْ وأشْرِقْ وجْهَكَ عَلَيْنا؛ وخَلِّصْنا؛ اللَّهُمَّ رَبَّنا القَوِيَّ؛ حَتّى مَتى تَسْخَطُ عَلى صَلاةِ عَبِيدِكَ؛ وتُطْعِمُهُمُ الخُبْزَ بِدُمُوعِهِمْ؛ وتَسْقِيهِمُ الدُّمُوعَ بِالكَيْلِ؛ جَعَلْتَنا عارًا لِجِيرانِنا؛ واسْتَهْزَأ بِنا أعْداؤُنا؛ اللَّهُمَّ رَبَّ القُوّاتِ؛ أقْبِلْ بِنا وأشْرِقْ وجْهَكَ عَلَيْنا وخَلِّصْنا؛ أنْتَ نَقَلْتَ الكَرْمَةَ مِن مِصْرَ؛ طَرَدْتَ الشُّعُوبَ؛ وغَرَسْتَها؛ سَهَّلْتَ طَرِيقًا أمامَها؛ مَكَّنْتَ أُصُولَها؛ امْتَلَأتِ الأرْضُ مِنها؛ ظَلَّلَ الجِبالَ ظِلُّها وأغْصانُها عَلى أرْزِ اللَّهِ؛ كَذَلِكَ امْتَدَّتْ عُرُوقُها إلى البَحْرِ؛ وإلى الأنْهارِ فَرُوعُها؛ ثُمَّ إنَّكَ هَدَمْتَ سِياجَها؛ وقَطَعَها كُلُّ عابِرِي السَّبِيلِ؛ خِنْزِيرُ الغابِ أفْسَدَها؛ وحَيَوانُ الوَحْشِ رَعَتْها؛ اللَّهُمَّ رَبَّ القُوّاتِ؛ اعْطِفْ عَلَيْنا؛ واطَّلِعْ مِنَ السَّماءِ؛ وانْظُرْ وتَعاهَدْ هَذِهِ الكَرْمَةَ؛ وأصْلِحِ الغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ وابْنُ الإنْسانِ الَّذِي قَوَّيْتَهُ؛ ولْتُهْلِكِ الَّذِينَ أحْرَقُوها بِالنّارِ بِرِجْزِكَ؛ ولْتَكُنْ يَدُكَ عَلى رَجُلِ يَمِينِكَ وابْنِ الإنْسانِ؛ الَّذِي (p-٣١٥)اصْطَفَيْتَهُ لَكَ؛ لا تُبْعِدْنا مِنكَ؛ وأنْقِذْنا لِنُمَجِّدَ اسْمَكَ؛ اللَّهُمَّ رَبَّ القُوّاتِ؛ اعْطِفْ عَلَيْنا وأشْرِقْ وجْهَكَ عَلَيْنا؛ وخَلِّصْنا)؛ وفي الرّابِعِ والثَّمانِينَ: (رَضِيتَ يا رَبِّ عَنْ أرْضِكَ؛ ورَدَدْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ؛ غَفَرْتَ ذُنُوبَ شَعْبِكَ؛ سَتَرْتَ جَمِيعَ خَطاياهُمْ؛ سَكَّنْتَ كُلَّ رِجْزِكَ؛ ورَدَدْتَ شِدَّةَ غَضَبِكَ)؛ وفي الثّامِنِ والثَّمانِينَ: (قُدُّوسَ إسْرائِيلَ؛ مَلِكَنا بِالوَحْيِ؛ كَلَّمْتَ نَبِيَّكَ؛ وقُلْتَ: إنِّي جَعَلْتُ عَوْنًا لِلْقَوِيِّ؛ رَفَعْتُ مُخْتارًا مِن شَعْبِي؛ ووَجَدْتُ داوُدَ عَبْدِي؛ مَسَحْتُهُ بِدُهْنِ قُدْسِي؛ يَدِي أعانَتْهُ؛ وذِراعِي قَوَّتْهُ؛ عَدُوُّهُ لا يَضُرُّهُ؛ وابْنُ الخَطِيئَةِ لا يُذِلُّهُ؛ وقَطَّعْتُ أعْداءَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ؛ ولِمُغْضِبِيهِ قَهَرْتُ؛ أمانَتِي ورَحْمَتِي مَعَهُ؛ وبِاسْمِي يَرْتَفِعُ قَرْنُهُ؛ جَعَلْتُ في البِحارِ طَرِيقَهُ؛ وفي الأنْهارِ يَمِينَهُ؛ هو يَدْعُونِي: أنْتَ أبِي وإلَهِي؛ ناصِرِي؛ وخَلاصِي؛ وأنا أجْعَلُهُ بِكْرًا رَفِيعًا عَلى جَمِيعِ مُلُوكِ الأرْضِ؛ وأحْفَظُ عَلَيْهِ رَحْمَتِي إلى الأبَدِ)؛ ثُمَّ قالَ: (وأنْتَ رَفَضْتَ وأقْصَيْتَ (p-٣١٦)مَسِيحَكَ؛ ونَقَضْتَ عَهْدَ عَبْدِكَ في الأرْضِ؛ ودَنَّسْتَ قُدْسَهُ؛ وهَدَمْتَ جَمِيعَ سِياجِهِ؛ وكُلَّ حُصُونِهِ أخْفَتَّ؛ اخْتَطَفَهُ عابِرُو السَّبِيلِ؛ صارَ عارًا في جِيرَتِهِ؛ رَفَعْتَ يَمِينَ أعْدائِهِ؛ فَرَّحْتَ جَمِيعَ مُبْغِضِيهِ؛ رَدَدْتَ نُصْرَةَ سَيْفِهِ؛ لَمْ تُعِنْهُ في الحَرْبِ؛ أبْطَلْتَ شَجاعَتَهُ؛ طَرَحْتَ في الأرْضِ كُرْسِيَّهُ؛ صَغَّرْتَ أيّامَ سِنِيِّهِ؛ صَبَبْتَ حُزْنًا عَلَيْهِ؛ فَحَتّى مَتى تَسْخَطُ يا رَبُّ؟ إلى الأبَدِ يَتَّقِدُ مِثْلَ النّارِ رِجْزُكَ؛ اذْكُرْ خَلْقَكَ لِي؛ فَإنَّكَ لَمْ تَخْلُقِ الإنْسانَ باطِلًا؛ مَن هو الإنْسانُ الَّذِي يَعِيشُ ولا يُعايِنُ المَوْتَ؛ أوْ يُنْجِي نَفْسَهُ مِنَ الجَحِيمِ؟ اللَّهُمَّ؛ أيْنَ رَحْمَتُكَ القَدِيمَةُ الَّتِي حَلَفْتَ بِحَقِّكَ لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؟ اللَّهُمَّ أعْداؤُكَ عَيَّرُوا آثارَ مَسِيحِكَ؛ تَبارَكَ الرَّبُّ إلى الأبَدِ؛ يَكُونُ يَكُونُ)؛ وفي الخامِسِ بَعْدَ المِائَةِ: (خَلِّصْنا يا إلَهَنا واجْمَعْنا مِنَ الأُمَمِ؛ لِنَشْكُرَ اسْمَكَ القُدُّوسَ؛ ونَفْتَخِرَ بِتَسْبِيحِكَ؛ تَبارَكَ (p-٣١٧)الرَّبُّ إلَهُ إسْرائِيلَ؛ مِنَ الآنَ وإلى الأبَدِ؛ يَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: يَكُونُ)؛ وفي الخامِسِ والعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَةِ: (إذا رَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ صِهْيُونَ صِرْنا كالمُتَغَرِّبِينَ؛ حِينَئِذٍ تَمْتَلِئُ أفْواهُنا فَرَحًا؛ وألْسِنَتُنا تَهْلِيلًا؛ هُناكَ يُقالُ في الأُمَمِ: قَدْ أكْثَرَ الرَّبُّ الصَّنِيعَ إلى هَؤُلاءِ؛ أكْثَرَ الرَّبُّ الصَّنِيعَ إلَيْنا؛ فَصِرْنا فَرِحِينَ؛ يا رَبُّ ارْدُدْ سَبْيَنا كَأوْدِيَةِ اليَمَنِ؛ الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ؛ ويَحْصُدُونَ بِالفَرَحِ؛ كانُوا يَنْطَلِقُونَ يَبْذُرُونَ زَرْعَهم باكِينَ؛ ويَأْتُونَ مُقْبِلِينَ بِالتَّهْلِيلِ؛ حامِلِينَ غَلّاتِهِمْ)؛ وفي السّادِسِ والثَّلاثِينَ بَعْدَ المِائَةِ: عَلى أنْهارِ بابِلَ جَلَسْنا هُناكَ؛ وبَكَيْنا حِينَ ذَكَرْنا صِهْيُونَ؛ وعَلَّقْنا قِيتاراتِنا عَلى الصَّفْصافِ الَّذِي في وسَطِها؛ لِأنَّ الَّذِينَ سَبَوْنا سَألُونا هُناكَ قَوْلَ التَّمْجِيدِ؛ والَّذِينَ انْطَلَقُوا قالُوا: سَبِّحُوا لَنا في تَسابِيحِ صِهْيُونَ؛ كَيْفَ نُسَبِّحُ لَكم تَسابِيحَ الرَّبِّ في أرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ إنْ نَسِيتُكِ يا يَرُوشَلِيمُ فَتَنْسانِي يَمِينِي؛ ويُلْصَقُ لِسانِي بِحَنَكِي إنْ لَمْ أذْكُرْكِ وإنْ لَمْ أسْبِقْ وأصْعَدْ إلى يَرُوشَلِيمَ في ابْتِداءِ فَرَحِي؛ اذْكُرْ يا رَبُّ بَنِي أدُومَ (p-٣١٨)فِي يَوْمِ أُورْشَلِيمَ؛ القائِلِينَ: اهْدِمُوا إلى الأساسِ؛ يا ابْنَةَ بابِلَ الشَّقِيَّةَ؛ طُوبى لِمَن يُجازِيكِ جَزاءَ صَنِيعِكِ بِنا؛ طُوبى لِمَن أخَذَ أطْفالَكِ وضَرَبَ بِهِمُ الصَّخْرَةَ). وهَذا الَّذِي في هَذا المَزْمُورِ إيذانٌ بِما يَحِلُّ بِهِمْ مِن بُخْتَنَصَّرَ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أنَّ ما كانَ فِيما يُنْقَلُ مِن هَذِهِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ مِن لَفْظَةٍ تُوهِمُ نَقْصًا كَـ ”الأبُ“؛ ونَحْوِهِ فَإنَّها عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِها عَنْهم لا يَجُوزُ إطْلاقُها في شَرْعِنا؛ والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الأدِلَّةَ المَذْكُورَةَ في القُرْآنِ في هَذِهِ الكَرَّةِ هي الَّتِي كانَتْ في أيّامِ عُزَيْرٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى يَدِ كُورَشَ مِلْكِ الفُرْسِ - كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ (تَعالى) -؛ وأنَّ الَّذِينَ كانُوا قَهَرُوهم أوَّلًا هم أجْنادُ بُخْتَنَصَّرَ - كَما تَقَدَّمَ -؛ فَفي سِفْرِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ كانُوا بَعْدَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) أوْحى إلى إرْمِيا بْنِ حَلْقِيّا؛ (p-٣١٩)مِنَ الأحْبارِ الَّذِينَ كانُوا في عَناثُوثَ في أرْضِ بِنْيامِينَ عَلى عَهْدِ يُوشِيّا مَلِكِ يَهُوذا في السَّنَةِ الثّالِثَةَ عَشَرَةَ مِن مُلْكِهِ يَتَوَعَّدُهم بِأنَّهم إنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمّا أحْدَثُوا مِنَ الضَّلالاتِ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكَ بابِلَ؛ ولَمْ يَزَلْ يُحَذِّرُهم مِثْلَ ذَلِكَ؛ ويُخْبِرُهم بِما يَحْصُلُ لَهم مِنَ الشَّرِّ بِذُنُوبِهِمْ إلى أنْ تَمَّتْ أيّامُ يَواكِيمَ بْنِ يُوشِيّا؛ وفي إحْدى عَشْرَةَ سَنَةً لِصِدِيقِيا بْنِ يُوشِيّا إلى يَوْمِ سُبِيَتْ أُورْشَلِيمُ في الشَّهْرِ الخامِسِ؛ وهو شَهْرُ آبَ؛ وكانَ يُخْبِرُهم بِأنَّ مَلِكَ بابِلَ يَأْسِرُ صِدِيقِيا مِلِكَ اليَهُودِ؛ ويَسُوقُهُ مَعَ الأسْرى إلى بابِلَ؛ ويَسْتَمِرُّونَ في أسْرِهِمْ سَبْعِينَ سَنَةً؛ ثُمَّ يَرُدُّهُمُ اللَّهُ (تَعالى) إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. قالَ إرْمِيا - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”إنَّ اللَّهَ (تَعالى) قالَ لِي: (مِن قَبْلِ أنْ أُصَوِّرَكَ في البَطْنِ عَرَفْتُكَ؛ وخَصَصْتُكَ لِي نَبِيًّا مِن قَبْلِ أنْ تَخْرُجَ مِنَ الرَّحِمِ؛ وجَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ)؛ فَقُلْتُ: أطْلُبُ إلَيْكَ يا رَبِّ؛ وإلَهِي؛ أنْ تُعْفِيَنِي؛ لِأنِّي لَسْتُ أعْلَمُ أنْ أنْطِقَ؛ لِأنِّي حَدَثٌ؛ فَقالَ لِيَ الرَّبُّ: (لا تَقُلْ: إنِّي حَدَثٌ؛ لِأنَّكَ تَتَوَجَّهُ إلى كُلِّ ما أُرْسِلُكَ فِيهِ؛ وتَجْمَعُ ما آمُرُكَ بِهِ (p-٣٢٠)مِنَ القَوْلِ؛ فَأدِّهِ؛ ولا تَخَفْ؛ لِأنِّي مَعَكَ؛ أُنْقِذُكَ مِن كُلِّ آفَةٍ)؛ وإنَّ الرَّبَّ مَدَّ يَدَهُ وقَرَّبَها إلى فِيَّ؛ وقالَ لِيَ الرَّبُّ: (قَدْ صَيَّرْتُ أقْوالِي في فِيكَ؛ فاعْلَمْ أنِّي قَدْ سَلَّطْتُكَ اليَوْمَ عَلى جَمِيعِ مَمْلَكاتِ الأُمَمِ؛ لِتَهْدِمَ؛ وتَنْقُضَ؛ وتُهْلِكَ؛ وتَسْتَأْصِلَ؛ وتُبَكِّتَ؛ وتَتَنَبَّأ؛ وتُقَدِّسَنِي)؛ ثُمَّ أوْحى إلَيَّ الرَّبُّ وقالَ: (ما الَّذِي رَأيْتَ يا إرْمِيا؟)؛ فَقُلْتُ: رَأيْتُ غُصْنًا مِن شَجَرِ اللَّوْزِ؛ فَقالَ لِيَ الرَّبُّ: (ما أحْسَنَ ما رَأيْتَ! لِأنِّي مُعَجِّلٌ فَصْلَ أقْوالِي)؛ ثُمَّ أوْحى إلَيَّ الرَّبُّ ثانِيَةً: (ما الَّذِي رَأيْتَ؟)؛ فَقُلْتُ مِنجَلًا مَنصُوبًا؛ ووَجْهُهُ إلى ناحِيَةِ الجِرْبِياءِ - أيْ: الشِّمالِ -؛ فَقالَ لِيَ الرَّبُّ: (مِن ناحِيَةِ الجِرْبِياءِ يَنْفَتِحُ الشَّرُّ ويَنْزِلُ في جَمِيعِ الأرْضِ الَّتِي لِيَهُوذا؛ ها أنا مُرْسِلُكَ أنْ تَدْعُوَ جَمِيعَ عَشائِرِ مَمْلَكاتِ الجِرْبِياءِ)؛ يَقُولُ الرَّبُّ: (فَيَأْتُونَ ويُلْقِي كُلُّ رَجُلٍ مِنهم كُرْسِيَّهُ في مَدْخَلِ أبْوابِ أُورْشَلِيمَ؛ ويُحَوِّطُونَ بِسُورِها؛ كَما (p-٣٢١)يَدُورُ؛ وبِجَمِيعِ قُرى يَهُوذا؛ وأنْتَقِمُ مِنهم بِأحْكامِي وقَضائِي؛ مِن أجْلِ جَمِيعِ سُرُورِهِمْ؛ وبِسُوءِ أعْمالِهِمْ؛ لِأنَّهُمُ اجْتَنَبُونِي؛ وبَخَّرُوا لِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ بِالبَخُورِ؛ وسَجَدُوا لِصَنْعَةِ أيْدِيهِمْ؛ فَأمّا أنْتَ فَشُدَّ عَلى ظَهْرِكَ؛ وقُمْ فَقُلْ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الأقْوالِ الَّتِي آمُرُكَ بِها؛ ولا تَخَفْهُمْ؛ ولا تُحابِهِمْ؛ لِئَلّا أكْسِرَكَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ وأُذِلَّكَ؛ وقَدْ جَعَلْتُكَ اليَوْمَ كالقَرْيَةِ العَزِيزَةِ المُمْتَنِعَةِ؛ ومِثْلَ قَضِيبٍ مِن حَدِيدٍ؛ وصَيَّرْتُكَ مِثْلَ سُورٍ مِن نُحاسٍ عَلى الأرْضِ كُلِّها؛ وعَلى جَمِيعِ مُلُوكِ يَهُوذا؛ وعَلى عُظَمائِهِمْ؛ وعَلى أحْبارِهِمْ؛ وآبائِهِمْ؛ وعَلى جَمِيعِ شَعْبِ الأرْضِ؛ فَإنْ جاهَدُوكَ لَمْ يَقْهَرُوكَ لِأنِّي مَعَكَ؛ وأنا مُنْقِذُكَ مِنهُمْ)“. ولَمْ يَزَلْ يَقُومُ فِيهِمْ بِمِثْلِ هَذا مِن كَلامٍ في غايَةِ البَلاغَةِ والرِّقَّةِ؛ بِحَيْثُ يُفَتِّتُ الأكْبادَ؛ ويُصَدِّعُ القُلُوبَ؛ ويُفِيضُ العُيُونَ؛ نَحْوَ أرْبَعِ كَرارِيسَ؛ لَوْلا خَوْفُ المَلالَةِ وكَراهَةُ الإطالَةِ لَأتَيْتُ بِكَثِيرٍ مِنهُ؛ وكانَ المُتَنَبِّئُونَ الكَذَبَةُ يَقُومُونَ فِيهِمْ بِخِلافِ ذَلِكَ؛ مِمّا يُؤَمِّنُهُمْ؛ إلى أنْ (p-٣٢٢)ضَرَبُوا إرْمِيا لِيَتْرُكَ عَنْهم مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ؛ وقالَ لِشَخْصٍ مِنَ المُتَنَبِّئِينَ اسْمُهُ حَنِينا: إنَّ الرَّبَّ لَمْ يُرْسِلْكَ؛ أنْتَ وكَّلْتَ هَذا الشَّعْبَ عَلى الزُّورِ؛ ومِن أجْلِ هَذا يَقُولُ الرَّبُّ: هو ذا أطْرَحُكَ عَنْ وجْهِ الأرْضِ؛ وفي هَذِهِ السَّنَةِ تَمُوتُ؛ لِأنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِالإثْمِ قُدّامَ الرَّبِّ؛ فَماتَ حَنِينا النَّبِيُّ الكَذّابُ في تِلْكَ السَّنَةِ؛ في الشَّهْرِ السّابِعِ؛ ثُمَّ زادَ تَحْذِيرُ إرْمِيا لَهُمْ؛ إلى أنْ حَبَسُوهُ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ (تَعالى) أمَرَهُ أنْ يَكْتُبَ لَهم ما يُوحِيهِ إلَيْهِ في صَحِيفَةٍ؛ ويُرْسِلَها إلَيْهِمْ؛ فَدَعا بارُوخَ بْنَ نارِيّا الكاتِبَ وأمَرَهُ بِكِتابَةِ ما أنْطَقَهُ بِهِ الرَّبُّ؛ وقالَ لَهُ: ها أنا مَحْبُوسٌ؛ ولَسْتُ أسْتَطِيعُ أنْ أدْخُلَ بَيْتَ الرَّبِّ؛ فَخُذْ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ وادْخُلْ أنْتَ إلى بَيْتِ الرَّبِّ في يَوْمِ الصَّوْمِ؛ واقْرَأْها عَلَيْهِمْ؛ فَإنَّها كَلامُ الرَّبِّ؛ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ عَنْ طَرِيقَةِ السُّوءِ؛ ويَكُفُّ الرَّبُّ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي قالَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهُ عَظِيمٌ الرِّجْزُ والغَضَبُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَلى هَذا الشَّعْبِ؛ فَفَعَلَ بارُوخُ ذَلِكَ؛ فَأخَذُوا الصَّحِيفَةَ مِن يَدِهِ وأوْصَلُوها (p-٣٢٣)إلى المَلِكِ يَواقِيمَ بْنِ يُوشِيّا؛ فَشَقَّقَها؛ وأحْرَقَها بِالنّارِ؛ فَأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ صَحِيفَةً أُخْرى مِثْلَها؛ ويَزِيدَ ما يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِهِ؛ ومِنهُ أنَّ يَواقِيمَ مَلِكَ يَهُوذا لا يَكُونُ لَهُ مَن يَجْلِسُ عَلى كُرْسِيِّ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وجِيفَتُهُ تَكُونُ مَطْرُوحَةً في السَّمُومِ بِالنَّهارِ؛ وفي الجَلِيدِ بِاللَّيْلِ؛ وآمُرُ بِهِ وبِذُرِّيَّتِهِ؛ وبِعَبِيدِهِ؛ وآتِي عَلى أُورْشَلِيمَ؛ وعَلى سُكّانِها؛ وعَلى بَيْتِ يَهُوذا؛ بِكُلِّ الشَّرِّ الَّذِي قُلْتُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتِي. ولَمّا مَلَكَ صادِيقِيا عَلى اليَهُودِ؛ وكانَتِ السَّنَةُ العاشِرَةُ مِن مُلْكِهِ؛ وهي الثّامِنَةَ عَشَرَةَ لِبُخْتَنَصَّرَ مَلِكِ بابِلَ؛ أحاطَتْ جُيُوشُ مَلِكِ بابِلَ بِأُورْشَلِيمَ؛ وكانَ إرْمِيا النَّبِيُّ مَحْبُوسًا في دارِ حَرَسِ المَلِكِ؛ حَبَسَهُ فِيها صادِيقِيا مَلِكُ يَهُوذا؛ وقالَ لَهُ: ما لَكَ تَتَنَبَّأُ وتَقُولُ: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ: هو ذا أدْفَعُ هَذِهِ القَرْيَةَ وصَدِيقِيا مَلِكَ يَهُوذا في يَدَيْ مَلِكِ بابِلَ ويَضْبُطُها؛ ولا يَنْجُو مِن أيْدِي الكَلْدانِيِّينَ؛ لِأنَّ الرَّبَّ دَفّاعٌ؛ يَدْفَعُهُ في يَدَيْ مَلِكِ بابِلَ؛ (p-٣٢٤)ويُكَلِّمُهُ فَمُهُ لِفَمِهِ؛ وعَيْناهُ إلى عَيْنَيْهِ؛ ويَنْطَلِقُ بِهِ إلى بابِلَ؟ فَأوْحى اللَّهُ إلى إرْمِيا؛ وهو مَحْبُوسٌ؛ فَقالَ: يَقُولُ الرَّبُّ: هو ذا أدْفَعُ هَذِهِ القَرْيَةَ إلى مَلِكِ بابِلَ فَيَحْرِقُها بِالنّارِ؛ وأنْتَ فَلا تُفْلِتُ مِن يَدَيْهِ؛ ولَكِنَّكَ أخْذًا تُؤْخَذُ؛ وتُدْفَعُ إلَيْهِ؛ وعَيْناكَ إلى عَيْنَيْهِ تَنْظُرُ؛ وفَمُكَ إلى فَمِهِ يُكَلِّمُ؛ وإلى بابِلَ تَذْهَبُ؛ ولَكِنِ اسْمَعْ يا صَدِيقِيا مَلِكَ يَهُوذا قَوْلَ الرَّبِّ؛ هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ عَلَيْكَ: إنَّكَ لَسْتَ تَمُوتُ بِالحَرْبِ؛ ولَكِنَّكَ مَوْتَ سَلامَةٍ تَمُوتُ؛ وكالَّذِي ناحُوا عَلى آبائِكَ المُلُوكِ الأوَّلِينَ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَكَ؛ يَنُوحُونَ عَلَيْكَ؛ ويَقُولُونَ: واسَيِّداهُ! لِأنَّ هَذا القَوْلَ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ قالَهُ الرَّبُّ؛ هَذا كُلُّهُ؛ وأجْنادُ مَلِكِ بابِلَ تُحاصِرُ أُورْشَلِيمَ وتُقاتِلُها. ثُمَّ إنَّ صَدِيقِيا أرْسَلَ إلى فِرْعَوْنَ بِمِصْرَ لِيَسْتَنْجِدَ بِهِ؛ فَخَرَجَ جُنْدُهُ؛ فَلَمّا سَمِعَ بِهِمُ الكَلْدانِيُّونَ انْصَرَفُوا عَنْ أُورْشَلِيمَ؛ وحَلَّ قَوْلُ الرَّبِّ عَلى (p-٣٢٥)إرْمِيا أنْ هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ؛ إلَهُ إسْرائِيلَ لِمَلِكِ يَهُوذا الَّذِي بَعَثَ إلى جُنْدِ فِرْعَوْنَ لِيُعِينُوهُ: هو ذا الآنَ جُنْدُ فِرْعَوْنَ يَرْجِعُونَ إلى أرْضِ مِصْرَ؛ ويَرْجِعُ الكَلْدانِيُّونَ؛ ويُقاتِلُونَ هَذِهِ القَرْيَةَ؛ ويَحْتَوُونَ عَلَيْها؛ ويَحْرِقُونَها بِالنّارِ؛ هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ؛ لا تَظُنُّوا في أنْفُسِكم أنَّ الكَلْدانِيِّينَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا عَنْكم لَيْسَ يَرْجِعُونَ؛ بَلْ إنَّهم يَرْجِعُونَ؛ ويَحْرِقُونَ القَرْيَةَ بِالنّارِ؛ ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ اتَّهَمُوا إرْمِيا بِأنَّهُ يُرِيدُ أنْ يَفِرَّ إلى الكَلْدانِيِّينَ؛ فَجَلَدُوهُ وطَرَحُوهُ في السِّجْنِ؛ فَأخْرَجَهُ المَلِكُ صَدِيقِيا وسَألَهُ في البَيْتِ سِرًّا عَنْ قَوْلِ الرَّبِّ؛ فَقالَ لَهُ: في يَدِ مَلِكِ بابِلَ تُدْفَعُ؛ وقالَ لَهُ: ماذا أخْطَأْتُ إلَيْكَ؛ وإلى عَبِيدِكَ؛ وإلى هَذا الشَّعْبِ؛ إذْ طَرَحْتُمُونِي في السِّجْنِ؟ وأيْنَ الَّذِينَ كانُوا يَتَنَبَّؤُونَ لَكم أنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكم مَلِكُ بابِلَ ولا عَلى هَذِهِ الأرْضِ؟ فَرَدَّهُ إلى السِّجْنِ؛ ولَمْ يُنْزِلْهُ إلى الجُبِّ؛ لِأنَّهُ كانَ لا يَقْدِرُ عَلى مُخالَفَةِ أشْرافِ مَمْلَكَتِهِ. ثُمَّ قالَ إرْمِيا: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ: مَن يَسْكُنُ هَذِهِ القَرْيَةَ بِالحَرْبِ (p-٣٢٦)فَبِالجُوعِ والمَوْتانِ يَذْهَبُ؛ فَأمّا مَن يَخْرُجُ إلى الكَلْدانِيِّينَ فَإنَّهُ يُحْيِي نَفْسَهُ ويَعِيشُ؛ هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ؛ فَقالَ الأشْرافُ: يُقْتَلُ هَذا الرَّجُلُ؛ لِأنَّهُ يُسْقِطُ أيادِي المُقاتِلَةِ الَّذِينَ بَقُوا في القَرْيَةِ؛ وأيادِي الشَّعْبِ؛ إذا قالَ هَذا الكَلامَ؛ فَقالَ المَلِكُ صَدِيقِيا: هو ذا مُنْذُ وقَعَ في أيْدِيكم لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُغَيِّرَ هَذا الكَلامَ؛ ولَمْ يَكُنِ المَلِكُ يَقْدِرُ يَقُولُ لَهم شَيْئًا؛ فَأخَذُوا إرْمِيا وطَرَحُوهُ في جُبِّ إمِيلْخِيا بْنِ المَلِكِ؛ في دارِ السِّجْنِ؛ والجُبُّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ماءٌ؛ ولَكِنْ حَمَأةٌ؛ فَغَرَقَ إرْمِيا في الحَمَأةِ؛ وسَمِعَ عَبْدٌ لِلْمَلِكِ حَبَشِيٌّ؛ وكانَ رَجُلًا مُؤْمِنًا؛ فَقالَ لِلْمَلِكِ: يا سَيِّدِي؛ بِئْسَ ما صَنَعَ هَؤُلاءِ القَوْمُ بِالنَّبِيِّ؛ إذْ طَرَحُوهُ في جُبٍّ؛ وهو ذا يَمُوتُ؛ فَقالَ المَلِكُ: خُذْ مَعَكَ مِن هُنا ثَلاثِينَ رَجُلًا؛ وانْطَلِقُوا أصْعِدُوا إرْمِيا مِنَ الجُبِّ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ؛ وإنَّ عَبْدَ المَلِكِ أخَذَ رِجالًا ودَخَلَ إلى الخِزانَةِ الَّتِي أسْفَلَ بَيْتِ المَلِكِ؛ وأخَذَ مِن ثَمَّ خُلْقانًا فَسَبْسَبَها إلى إرْمِيا بِالحَبْلِ؛ وقالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الخُلُقانَ؛ واجْعَلْها تَحْتَ إبِطَيْكَ؛ لِئَلّا (p-٣٢٧)يَعْقِرَكَ الحَبْلُ؛ فَفَعَلَ إرْمِيا كَذَلِكَ؛ وأصْعَدُوهُ مِنَ الجُبِّ؛ وأجْلَسُوهُ في دارِ السِّجْنِ؛ وأرْسَلَ المَلِكُ فَأُدْخِلَ إرْمِيا إلَيْهِ؛ وجَعَلَهُ في داخِلِ ثَلاثَةِ أبْياتٍ؛ مَخْدَعٍ داخِلَ مَخْدَعٍ؛ وقالَ لَهُ: إنِّي أسْألُكَ ألّا تَكْتُمَنِي شَيْئًا؛ قالَ إرْمِيا لِصَدِيقِيا: إنِّي أخافُ أنْ تَقْتُلَنِي؛ وإنْ أنا أشَرْتُ عَلَيْكَ لَمْ تُطِعْنِي؛ فَقالَ صَدِيقِيا: حَيٌّ هو الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَنِي؛ إنِّي لا أقْتُلُكَ؛ ولا أدْفَعُكَ إلى النّاسِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ نَفْسَكَ؛ فَقالَ إرْمِيا: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ إلَهُ إسْرائِيلَ: لَئِنْ خَرَجْتَ إلى أشْرافِ مَلِكِ بابِلَ لَتُحْيِيَنَّ نَفْسَكَ؛ وهَذِهِ القَرْيَةُ تَسْلَمُ؛ ولا تُحْرَقُ بِالنّارِ؛ وتَعِيشُ أنْتَ وبُنُوكَ؛ وإنْ أنْتَ لَمْ تَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَسَتُدْفَعُ هَذِهِ القَرْيَةُ إلى الكَلْدانِيِّينَ؛ ويَحْرِقُونَها بِالنّارِ؛ وأنْتَ فَلا تَنْجُو مِن أيْدِيهِمْ؛ فَقالَ المَلِكُ لِإرْمِيا: إنِّي أخْشى مِنَ اليَهُودِ أنْ أخْرُجَ إلى الكَلْدانِيِّينَ؛ فَلَعَلَّهم يَدْفَعُونَنِي في أيْدِيهِمْ ويَهْزَؤُونَ بِي؛ قالَ إرْمِيا: إنَّهم لَيْسَ يَدْفَعُونَكَ في أيْدِيهِمُ؛ اسْمَعْ إلى كَلِمَةِ الرَّبِّ لِمَنفَعَتِكَ لِتُحْيِيَ نَفْسَكَ. وحَلَّ عَلى إرْمِيا قَوْلُ الرَّبِّ؛ إذْ كانَ مَحْبُوسًا في دارِ الحَرَسِ: انْطَلِقْ فَقُلْ لِلْعَبْدِ الحَبَشِيِّ الَّذِي لِلْمَلِكِ: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ القَوِيُّ؛ إلَهُ (p-٣٢٨)إسْرائِيلَ: هو ذا آتِي عَلى هَذِهِ القَرْيَةِ بِالشَّرِّ؛ ويَكُونُونَ قُدّامَكَ في ذَلِكَ اليَوْمِ؛ وأُنْجِيكَ؛ قالَ الرَّبُّ: ولا تُدْفَعُ في يَدِ القَوْمِ الَّذِينَ لا يَخْشَوْنَ اللَّهَ؛ ولا تَسْقُطُ في الحَرْبِ؛ ولَكِنَّكَ تَنْجُو بِنَفْسِكَ لِأنَّكَ تَوَكَّلْتَ عَلى ما قالَ لَكَ الرَّبُّ. وجَلَسَ إرْمِيا في دارِ السِّجْنِ حَتّى اليَوْمِ الَّذِي أخَذَ فِيهِ الكَلْدانِيُّونَ أُورْشَلِيمَ؛ في السَّنَةِ التّاسِعَةِ لِصَدِيقِيا مَلِكِ يَهُوذا؛ في الشَّهْرِ العاشِرِ؛ وفي تِسْعَةٍ مِنَ الشَّهْرِ أتى بُخْتَنَصَّرُ مَلِكُ بابِلَ في كُلِّ أجْنادِهِ إلى أُورْشَلِيمَ؛ وحَلُّوا عَلَيْها؛ وفي إحْدى عَشْرَةَ سَنَةً لِصَدِيقِيا في الشَّهْرِ الخامِسِ انْثَلَمَتِ القَرْيَةُ؛ فَأتى كُلُّ أشْرافِ مَلِكِ بابِلَ إلى البابِ الأوْسَطِ؛ فَلَمّا رَأى صَدِيقِيا أنَّهم قَدْ جَلَسُوا في البابِ الأوْسَطِ؛ وقَدْ هَرَبَ المُقاتِلَةُ؛ وخَرَجُوا بِاللَّيْلِ؛ خَرَجَ المَلِكُ أيْضًا مِنَ البابِ الَّذِي بَيْنَ السُّورَيْنِ في طَرِيقِ نِيسانَ؛ فَلَمّا صارَ إلى الصَّحْراءِ طَلَبَهُ جُنْدُ الكَلْدانِيِّينَ عَلى الأثَرِ؛ فَأدْرَكُوهُ في صَحْراءِ أرِيحا؛ وافْتَرَقَ عَنْهُ أجْنادُهُ؛ فَساقُوهُ حَتّى أصْعَدُوهُ إلى بُخْتَنَصَّرَ مَلِكِ بابِلَ؛ في دِيلابَ؛ مِن أرْضِ حَماةَ؛ وذَبَحَ (p-٣٢٩)مَلِكُ بابِلَ بَنِي صَدِيقِيا وكُلَّ أشْرافِ يَهُوذا؛ وأعْمى عَيْنَيْ صَدِيقِيا وأوْثَقَهُ في السَّلاسِلِ لِكَيْ يَذْهَبَ بِهِ إلى بابِلَ؛ وأُحْرِقَ بَيْتُ المَلِكِ؛ وبُيُوتُ الشَّعْبِ بِالنّارِ؛ واسْتَأْصَلَ السُّورَ المُحِيطَ بِأُورْشَلِيمَ؛ وكَذا بَقِيَّةَ الشَّعْبِ؛ الَّذِينَ بَقُوا في القَرْيَةِ؛ والَّذِينَ هَرَبُوا إلَيْهِ سَباهُمْ؛ ودَفَعَهم إلى وازِرْدانَ صاحِبِ شُرْطَتِهِ؛ فانْطَلَقَ بِهِمْ إلى بابِلَ؛ ومَساكِينُ الشَّعْبِ - الَّذِينَ لَيْسَ لَهم شَيْءٌ - تَرَكَهم في أرْضِ يَهُوذا؛ واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أخِيقامَ بْنَ شافانَ؛ وأمَرَ بُخْتَنَصَّرُ صاحِبَ شُرْطَتِهِ أنْ يَأْخُذَ إرْمِيا؛ وقالَ: لِتَكُنْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ؛ ولا تَفْعَلْ بِهِ بَأْسًا؛ وما قالَ لَكَ مِن شَيْءٍ فافْعَلْهُ؛ فَأرْسَلَ إلى إرْمِيا فَأخَذَهُ مِن دارِ الحَبْسِ؛ ودَفَعَهُ إلى أجْدَلِيّا بْنِ أخِيقامَ بْنِ شافانَ لِيَرُدَّهُ إلى بَيْتِهِ؛ وقالَ وازِرْدانُ صاحِبُ الشُّرْطَةِ لِإرْمِيا: إلَهُكَ الَّذِي قالَ هَذا الشَّرَّ عَلى هَذِهِ البَلْدَةِ؛ وفَعَلَ كالَّذِي قالَ؛ لِأنَّكم أخْطَأْتُمْ لِلرَّبِّ؛ ولَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ؛ فَأنْزَلَ بِكم هَذا الأمْرَ؛ وأمّا أنْتَ فَهَأنَذا قَدْ أحْلَلْتُكَ مِنَ السَّلاسِلِ الَّتِي كانَتْ في يَدَيْكَ؛ فَإنْ شِئْتَ أنْ تَأْتِيَ مَعِي إلى بابِلَ فَتَعالَ؛ وإنْ شِئْتَ فَأقِمْ؛ فَهَذِهِ الأرْضُ (p-٣٣٠)فِي يَدَيْكَ كُلُّها؛ فَحَيْثُما كانَ خَيْرًا لَكَ؛ وحَيْثُ يَحْسُنُ في عَيْنَيْكَ فانْطَلِقْ إلَيْهِ؛ وإلّا فاجْلِسْ عِنْدَ أجْدَلِيّا بْنِ أخِيقامَ بْنِ شافانَ الَّذِي سَلَّطَهُ بُخْتَنَصَّرُ في يَهُوذا؛ وأعْطاهُ صاحِبُ الشُّرْطَةِ مَواهِبَ في الطَّرِيقِ؛ وسَرَّحَهُ بِسَلامٍ؛ فَأتى إرْمِيا إلى أجْدَلِيّا بْنِ أخِيقامَ إلى مَسْفِيّا؛ وجَلَسَ عِنْدَهُ مَعَ الشَّعْبِ الَّذِينَ خَلَّفَهم مَلِكُ بابِلَ في الأرْضِ. هَذا ما دَلَّ عَلى أُولِي البَأْسِ الشَّدِيدِ الَّذِينَ سَلَّطَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ وأمّا ما دَلَّ عَلى رَحْمَةِ اللَّهِ لَهُمْ؛ فَفي تَأْرِيخِ يُوسُفَ بْنِ كَرْيُونَ أنَّ الرُّومَ لَمّا بَلَغَهم أنَّ بُخْتَنَصَّرَ مَلِكَ بابِلَ فَتَحَ مَدِينَةَ المَقْدِسِ؛ ازْدادَ خَوْفُهم مِنَ الكَسْدانِيِّينَ؛ فَأرْسَلُوا إلى بُخْتَنَصَّرَ رُسُلًا وهَدايا؛ وطَلَبُوا مِنهُ الأمانَ والمُسالَمَةَ؛ فَآمَنَهُمْ؛ وعاهَدَهم عَلى طاعَتِهِ؛ ومُوالاتِهِ؛ فاطْمَأنُّوا؛ وآمَنُوا؛ وانْقَطَعَتْ عَنْهم تِلْكَ الحُرُوبُ إلى زَمانِ دارا المَلِكِ؛ وكانَ (p-٣٣١)سَبَبُ الحُرُوبِ بَيْنَ الرُّومِ؛ وبَيْنَ الكَسْدانِيِّينَ؛ أنَّ الكَسْدانِيِّينَ كانُوا يُعادُونَ اليُونانِيِّينَ؛ فَأعانَ الرُّومُ اليُونانِيِّينَ؛ فَغَضِبَ الكَسْدانِيُّونَ مِن ذَلِكَ؛ فَحارَبُوا أهْلَ رُومِيَّةَ؛ واتَّصَلَتِ الحُرُوبُ بَيْنَهم إلى هَذا الحَدِّ؛ فَلَمّا انْتَقَدَ اللَّهُ العَزِيزَ عَلى الكَسْدانِيِّينَ طُولَ تَجَبُّرِهِمْ؛ وحَكَمَ بِزَوالِ مُلْكِهِمْ؛ وانْقِضاءِ دَوْلَتِهِمْ كَما أخْبَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ أثارَ عَلَيْهِمْ مِن مُلُوكِ الأُمَمِ مَلِكَيْنِ عَظِيمَيْنِ؛ أحَدُهُما ”دارا“؛ مَلِكُ مادايَ؛ والآخَرُ كُورَشُ؛ مَلِكُ الفُرْسِ؛ فَتَزَوَّجَ كُورَشُ مَلِكُ الفُرْسِ بِنْتَ دارا؛ واتَّفَقا عَلى مَعْصِيَةِ الكَسْدانِيِّينَ؛ وأظْهَرَ الخِلافَ عَلى بَلْتَشَصَّرَ بْنِ بُخْتَنَصَّرَ مَلِكِهِمْ؛ ثُمَّ سارَ إلى بابِلَ في عَساكِرَ قَوِيَّةٍ؛ فَأرْسَلَ إلَيْهِمْ بَلْتَشَصَّرُ عَسْكَرًا كَبِيرًا؛ فَجَرَتْ بَيْنَهم حَرْبٌ عَظِيمَةٌ؛ قُتِلَ فِيها مِنَ الفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ ثُمَّ انْهَزَمَ عَسْكَرُ بَلْتَشَصَّرَ وهَرَبُوا؛ فَتَبِعَهم (p-٣٣٢)كُورَشُ ودارا إلى مَسِيرَةِ يَوْمٍ عَنْ بابِلَ؛ وقَتَلا كَثِيرًا مِنهُمْ؛ وأقامَ دارا وكُورَشُ في ذَلِكَ المَوْضِعِ؛ ثُمَّ إنَّ بَلْتَشَصَّرَ بَعَثَ إلَيْهِما بِألْفِ قائِدٍ مِن قُوّادِهِ؛ ومَعَهم جَمِيعُ خاصَّتِهِ؛ وجَبابِرَتِهِ؛ فَخَرَجُوا مِن بابِلَ آخِرَ النَّهارِ؛ وسارُوا لَيْلَتَهُمْ؛ فانْتَهَوْا إلى عَسْكَرِ دارا وكُورَشَ عِنْدَ الصَّباحِ؛ فَكَبَسُوهُمْ؛ وقَتَلُوا مِنهم مَقْتَلَةً عَظِيمَةً؛ فانْهَزَمَ دارا؛ وثَبَتَ كُورَشُ فَقاتَلَ الكَسْدانِيِّينَ؛ ومَنَعَهم أنْ يَتْبَعُوا عَسْكَرَ دارا؛ وقامَتِ الحَرْبُ بَيْنَهم طُولَ النَّهارِ؛ ثُمَّ اسْتَظْهَرَ الكَسْدانِيُّونَ عَلى الفُرْسِ؛ وقَتَلُوا جَماعَةً مِنهُمْ؛ فانْهَزَمَ الفُرْسُ؛ وعادَ قُوّادُ بَلْتَشَصَّرَ إلَيْهِ ظافِرِينَ غانِمِينَ؛ فَعَظُمَ سُرُورُ بَلْتَشَصَّرَ بِذَلِكَ؛ وصَنَعَ لِقُوّادِهِ صَنِيعًا عَظِيمًا؛ أحْفَلَ فِيهِ؛ وأحْضَرَ الآلاتِ الحَسَنَةَ مِنَ الفِضَّةِ؛ والذَّهَبِ؛ وبالَغَ في إكْرامِهِمْ؛ وحَضَرَ مَعَهم مَجْلِسَ الشَّرابِ؛ فَأكَلَ وشَرِبَ؛ وعَظُمَ سُرُورُهُمْ؛ وسُرُورُهُ؛ فَلَمّا أخَذَ الشَّرابُ مِنهُ أرادَ أنْ يَزِيدَ في إكْرامِ أصْحابِهِ وسُرُورِهِمْ؛ فَأمَرَ بِإحْضارِ آلاتِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ الَّتِي كانَ جَدُّهُ بُخْتَنَصَّرُ المَلِكُ قَدْ أخَذَها مِن هَيْكَلِ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ ونَقَلَها مَعَ جالِيَةِ بَنِي إسْرائِيلَ إلى بابِلَ؛ فَأُحْضِرَتْ تِلْكَ الآلاتُ بِحَضْرَةِ بَلْتَشَصَّرَ؛ فَشَرِبَ فِيها الخَمْرَ؛ وسَقى فِيها قُوّادَهُ؛ ونِساءَهُ؛ وجَوارِيَهُ؛ وأقْبَلُوا يُسَبِّحُونَ لِأصْنامِهِمْ؛ ويَحْمَدُونَها؛ قالَ: فَسَخِطَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - مِن ذَلِكَ؛ وكَرِهَ ما فَعَلَهُ بَلْتَشَصَّرُ؛ مِنَ ابْتِذالِ آلاتِ القُدْسِ؛ (p-٣٣٣)ولَمْ يَخَفْ مِنَ اللَّهِ؛ ولَمْ يَشْكُرْهُ عَلى ما ظَفَّرَهُ بِأعْدائِهِ؛ فَأرْسَلَ مَلاكًا؛ وأمَرَهُ أنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ بَلْتَشَصَّرَ ألْفاظًا بِأحْمَرَ؛ تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ ما حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ؛ وعَلى مَمْلَكَتِهِ؛ فَحَلَّ المَلاكُ بِأمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - وكَتَبَ الألْفاظَ عَلى حائِطِ المَجْلِسِ؛ مُقابِلَ المَنارَةِ؛ وكانَ يَرى أصابِعَ المَلاكِ وهي تَكْتُبُ؛ وما رَأى بَقِيَّةَ شَخْصِهِ؛ وكانَتْ تِلْكَ الأصابِعُ شَدِيدَةَ البَهارِ والنُّورِ؛ فَلَمّا رَآها ذُهِلَ؛ ولَحِقَهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ؛ وفَزَعٌ؛ وارْتَعَدَ جَمِيعُ جِسْمِهِ رِعْدَةً شَدِيدَةً؛ ورُعِبَ جَمِيعُ جُنْدِهِ؛ ولَمْ يَفْهَمْ تِلْكَ الكِتابَةَ؛ ولا وجَدَ في أصْحابِهِ مَن يَقْرَأُها؛ لِأنَّ الخَطَّ كانَ كَسْدانِيًّا؛ وكانَ اللَّفْظُ عِبْرانِيًّا. فَأمَرَ بِإحْضارِ دانْيالَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقَرَأها؛ وفَسَّرَها؛ وقالَ: ”أيُّها المَلِكُ؛ قَدْ أخْطَأْتَ خَطَأً عَظِيمًا بِابْتِذالِكَ آلاتِ قُدْسِ اللَّهِ بِأيْدِي جُنْدِكَ؛ وجَوارِيكَ؛ فَنَجَّسُوها؛ ولِذَلِكَ سَخِطَ اللَّهُ؛ وأرْسَلَ مَلاكَهُ؛ حَتّى كَتَبَ هَذِهِ الألْفاظَ؛ لِيُعْلِمَكَ ما يُرِيدُ أنْ يَفْعَلَهُ؛ فَأمّا هَذِهِ الألْفاظُ المَكْتُوبَةُ فَهِيَ: (حَسَبَ ووَزَنَ ونَقَلَ)؛ وتَفْسِيرُها أنَّ اللَّهَ حَسَبَ مُدَّةَ دَوْلَتِكُمُ الَّتِي قَدْ جَعَلَها لَكم فَوَجَدَها قَدِ انْقَضَتْ؛ (p-٣٣٤)وانْتَهَتْ؛ ولَمْ يَبْقَ مِنها شَيْءٌ؛ ووَزَنَكَ في المِيزانِ فَوَجَدَكَ ناقِصًا؛ يُرِيدُ أنَّهُ جَرَّبَكَ بِالإحْسانِ إلَيْكَ؛ والظَّفَرِ بِأعْدائِكَ؛ فَوَجَدَكَ غَيْرَ شاكِرٍ لِإحْسانِهِ؛ ولَمْ تَحْمَدْهُ؛ بَلْ سَبَّحْتَ الأصْنامَ؛ وأمّا تَفْسِيرُ (نَقَلَ)؛ فَإنَّ اللَّهَ قَدْ قَضى وحَكَمَ بِزَوالِ المُلْكِ عَنْكَ؛ ونَقْلِهِ إلى كُورَشَ ودارا“؛ قالَ: فَلَمّا سَمِعَ بَلْتَشَصَّرُ ما قالَ دانْيالُ ازْدادَ خَوْفُهُ؛ وفَزَعُهُ؛ واضْطَرَبَ قُوّادُهُ أيْضًا؛ وفَزِعُوا فَزَعًا شَدِيدًا؛ وانْصَرَفُوا إلى مَنازِلِهِمْ وهم خائِفُونَ؛ فَلَمّا نامَ بَلْتَشَصَّرُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ جاءَ إلَيْهِ خادِمٌ مِن خَدَمِهِ فَقَتَلَهُ عَلى فِراشِهِ؛ وأخَذَ رَأْسَهُ ومَضى إلى دارا وكُورَشَ؛ وأخْبَرَهُما بِخَبَرِ بَلْتَشَصَّرَ؛ وما فَعَلَ مِنَ ابْتِذالِ آنِيَةِ القُدْسِ؛ وخَبَرِ الكِتابَةِ الَّتِي كَتَبَها المَلاكُ قُدّامَهُ؛ وتَفْسِيرِ دانْيالَ لَها؛ وما أخْبَرَهُ بِهِ مِنَ انْقِضاءِ مُلْكِهِ؛ وانْتِقالِ دَوْلَتِهِ إلى مُلُوكِ مادايَ؛ وفارِسٍ؛ بِسَبَبِ ابْتِذالِهِ آنِيَةِ القُدْسِ؛ فَلَمّا سَمِعَ دارا وكُورَشُ ما أخْبَرَهُما بِهِ؛ ونَظَرا رَأْسَ بَلْتَشَصَّرَ شَكَرا اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ -؛ واعْتَرَفا بِقُدْرَتِهِ؛ وأكْثَرا تَسْبِيحَهُ؛ وتَمْجِيدَهُ؛ ونَذَرَ كُورَشُ أنَّهُ يَبْنِي بَيْتَ اللَّهِ بِأُورْشَلِيمَ؛ ويَرُدُّ تِلْكَ الآنِيَةَ؛ ويُطْلِقُ جالِيَةَ اليَهُودِ أنْ يَرْجِعُوا إلى بِلادِهِمْ؛ ثُمَّ سارَ كُورَشُ ودارا مِن مَواضِعِهِما؛ ودَخَلا بابِلَ؛ وقَتَلا جَمِيعَ أهْلِها؛ بِأشَدِّ (p-٣٣٥)القَتْلِ؛ وأعْظَمِ العَذابِ؛ فَتَمَّ عِنْدَ ذَلِكَ ما أخْبَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِنَ انْتِقامِ اللَّهِ (تَعالى) مِنَ الكَسْدانِيِّينَ؛ وأهْلِ بابِلَ؛ ومُجازاتِهِمْ بِما فَعَلُوهُ بِآنِيَةِ قُدْسِهِ؛ ثُمَّ اقْتَسَمَ دارا وكُورَشُ مَمْلَكَةَ الكَسْدانِيِّينَ؛ فَأخَذَ دارا مَدِينَةَ بابِلَ وأعْمالَها؛ وتَسَلَّمَ قَصْرَ بَلْتَشَصَّرَ؛ وجَلَسَ عَلى سَرِيرِهِ؛ وأخَذَ كُورَشُ جَمِيعَ مَمْلَكَةِ الكَسْدانِيِّينَ الَّتِي هي غَيْرُ بابِلَ؛ وأعْمالَها؛ واسْتَقَرَّ الأمْرُ بَيْنَهُما عَلى ذَلِكَ؛ وكانَ دارا في ذَلِكَ الوَقْتِ شَيْخًا؛ فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ؛ فَلَمّا ماتَ اتَّفَقَ عُظَماءُ مادايَ وفارِسٍ عَلى أنْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ كُورَشَ؛ ومُنْذُ ذَلِكَ الوَقْتِ صارَ مَلِكُ مادايَ وفارِسٍ واحِدًا؛ وبَقِيَ الأمْرُ عَلى ذَلِكَ؛ ولَمْ يَتَغَيَّرْ؛ ولَمّا تَسَلَّمَ كُورَشُ مَمْلَكَةَ الكَسْدانِيِّينَ؛ وجَلَسَ عَلى كُرْسِيِّ بابِلَ؛ ومُلِّكَ عَلى مادايَ وفارِسٍ؛ حَرَّكَهُ اللَّهُ (تَعالى) في السَّنَةِ الأُولى مِن مُلْكِهِ؛ فَذَكَرَ نَذْرَهُ الَّذِي كانَ قَدْ نَذَرَ أنَّهُ يُطْلِقُ لِجالِيَةِ بَنِي إسْرائِيلَ الرُّجُوعَ إلى بَلَدِهِمْ؛ وأنَّهُ يَبْنِي قُدْسَ اللَّهِ؛ ويَرُدُّ آلاتِهِ إلَيْهِ؛ فَأمَرَ بِإحْضارِ شُيُوخِ الجالِيَةِ وكُبَرائِهِمْ؛ فَأخْبَرَهم بِما قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ مِن بِناءِ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ وإطْلاقِهِمْ؛ وقالَ لَهُمْ: مَنِ اخْتارَ مِن (p-٣٣٦)جالِيَةِ اليَهُودِ أنْ يَمْضِيَ إلى مَدِينَةِ القُدْسِ لِبِناءِ الهَيْكَلِ الَّذِي أخْرَبَهُ بُخْتَنَصَّرُ؛ فَلْيَمْضِ؛ ويَسْتَعِنْ بِاللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَإنَّهُ يُعِينُهُ؛ وأنا كُورَشُ عَبْدُ الإلَهِ العَظِيمِ أُطْلِقُ مِن خَزائِنِي جَمِيعَ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ المالِ؛ والعُدَدِ؛ لِعِمارَةِ بَيْتِ الرَّبِّ؛ الَّذِي ظَفَّرَنِي بِالكَسْدانِيِّينَ؛ وأعْطانِي مُلْكَهُمْ؛ قالَ: فَلَمّا سَمِعَ شُيُوخُ الجالِيَةِ مَقالَةَ كُورَشَ عَظُمَ سُرُورُهم بِذَلِكَ؛ وشَكَرُوا اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - عَلى إحْسانِهِ؛ وطَلَعُوا إلى مَدِينَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ ومَعَهم جَماعَةٌ كَثِيرَةٌ؛ ومَعَهم عَزْرا الكاهِنُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ونَحَمْيا؛ ومُرْدَخايُ؛ ويَشُوعُ؛ وسائِرُ رُؤَساءِ الجالِيَةِ؛ ومُقَدِّمِيهِمْ؛ فَبَنَوْا بَيْتَ اللَّهِ عَلى المِقْدارِ الَّذِي رَسَمَ لَهم كُورَشُ؛ وبَنَوُا المَذْبَحَ عَلى واجِبِهِ وحُدُودِهِ؛ وقَرَّبُوا القَرابِينَ عَلى واجِبِها؛ وكانَ كُورَشُ يُطْلِقُ لَهم كُلَّ سَنَةٍ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ؛ مِنَ المالِ؛ والحِنْطَةِ؛ والزَّيْتِ؛ والخَمْرِ؛ والغَنَمِ؛ والبَقَرِ؛ وأطْلَقَ لَهم مالًا كَثِيرًا؛ ولَمْ يَزَلِ الأمْرُ يَجْرِي عَلى ذَلِكَ طُولَ مَمْلَكَةِ الفُرْسِ؛ قالَ: ثُمَّ عَظُمَ أمْرُ كُورَشَ؛ وبَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ عَلى جَمِيعِ الأُمَمِ والمَمالِكِ؛ وفَتَحَ لَهُ الحُصُونَ المَنِيعَةَ؛ وأعْطاهُ كُنُوزَ الأرْضِ؛ (p-٣٣٧)وذَخائِرَها؛ ولَمْ يَزَلْ مُقْبِلًا مُظَفَّرًا حَيْثُما تَوَجَّهَ؛ كَما أخْبَرَ اللَّهُ (تَعالى) عَلى يَدِ أشْعَيا النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُورَشَ؛ مِن أجْلِ إحْسانِهِ إلى بَنِي إسْرائِيلَ. قالَ - في سِفْرِ الأنْبِياءِ؛ في نُبُوَّةِ أشْعِيا بْنِ آمُوصَ -: (هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ: أنا الَّذِي أبْطَلَ آياتِ العَرّافِينَ؛ وأُصَيِّرُ كُلَّ تَعْرِيفِهِمْ جَهْلًا؛ وأرُدُّ الحُكَماءَ إلى خَلْفِهِمْ؛ وأُعَرِّفُ أعْمالَهم لِلنّاسِ؛ وأُثْبِتُ كَلِمَةَ عَبِيدِي؛ وأُتَمِّمُ قَوْلَ رُسُلِي؛ لِأنَّهُ قالَ لِأُورْشَلِيمَ: إنَّها تُعَمَّرُ؛ ولِقُرى يَهُوذا: إنَّها تُبْنى وتُعَمَّرُ خَراباتُها؛ ويَقُولُ لِلْغَوْرِ أنْ يُخَرَّبَ؛ وتَيْبَسَ أنْهارُهُ؛ ويَقُولُ لِكُورَشَ: ارْعَ لِتَتِمَّ جَمِيعُ إرادَتِي؛ وتَأْمُرَ بِبِناءِ أُورْشَلِيمَ؛ وتُقِيمَ هَياكِلَها؛ هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ؛ وكُورَشَ الَّذِي آخِذٌ بِيَمِينِهِ؛ لِتَخْضَعَ لَهُ الشُّعُوبُ؛ ويَظْهَرَ عَلى المُلُوكِ أبَدًا؛ أفْتَحُ الأبْوابَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ ولا تُغْلَقُ الأبْوابَ أمامَهُ؛ أنا أسِيرُ قُدّامَهُ؛ وأُسَهِّلُ لَهُ العُسْرَ؛ أكْسِرُ أبْوابَ النُّحاسِ؛ وأُحَطِّمُ أمْخالَ الحَدِيدِ؛ وأُعْطِيهِ الذَّخائِرَ (p-٣٣٨)الَّتِي في الظُّلُماتِ؛ والأشْياءَ المَطْمُورَةَ المَسْتُورَةَ؛ لِيَعْلَمَ أنِّي أنا الرَّبُّ الَّذِي دَعَوْتُهُ قَبْلَ مَوْلِدِهِ؛ إلَهُ إسْرائِيلَ؛ مِن أجْلِ عَبْدِي يَعْقُوبَ وإسْرائِيلَ صَفِيِّي؛ دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ؛ وكَنَّيْتُكَ مِن قَبْلِ أنْ تَعْرِفَنِي؛ أنا الرَّبُّ؛ ولا إلَهَ غَيْرِي)؛ انْتَهى ما في سِفْرِ الأنْبِياءِ. ولَمْ يَزَلْ كُورَشُ يُحْسِنُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ حَتّى ماتَ؛ ومَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَمْكِيشَةَ؛ فَأنْفَذَ ما كانَ صَنَعَهُ أبُوهُ مِنَ البِرِّ إلى اليَهُودِ؛ وإطْلاقِ الأمْوالِ الكَثِيرَةِ لَهُمْ؛ تَعْظِيمًا لِبَيْتِ اللَّهِ؛ وكانَ مَن بَعْدَهُ مِن مُلُوكِ الفُرْسِ عَلى ذَلِكَ؛ ويُطْلِقُونَ ما كانَ كُورَشُ يُطْلِقُهُ لِلْقَرابِينِ وغَيْرِها؛ ويُجِلُّونَ بَيْتَ اللَّهِ؛ ويُعَظِّمُونَهُ؛ ويَتَبَرَّكُونَ بِهِ؛ حَتّى كانَ أحْشَوِيرَشُ - وهو أرْدَشِيرُ المَلِكُ - فَتَغَيَّرَتْ حالُ اليَهُودِ في زَمانِهِ؛ بِسَبَبِ وزِيرٍ اسْتَوْزَرَهُ مِنَ العَمالِيقِ؛ يُسَمّى هامانَ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ (تَعالى) عَطَّفَهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ زَوْجَةٍ لَهُ مِنَ اليَهُودِ؛ ولَمْ يَزَلْ أمْرُهم مُسْتَقِيمًا وهم تَحْتَ طاعَةِ الفُرْسُ؛ إلى أنْ مَلَكَ الإسْكَنْدَرُ الثّانِي؛ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ؛ في سُورَةِ الكَهْفِ: وهو الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ مِن مَمْلَكَةِ الرُّومِ؛ وقَدْ كانَ قَبْلَ المَسِيحِ بِنَحْوٍ مِن ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ؛ انْتَهى. وهو (p-٣٣٩)الماقِيدُونِي اليُونانِيُّ الرُّومِيُّ؛ مَلَكَ بَعْدَ قَتْلِ أبِيهِ فَلِيفُوسَ؛ وكانَ عُمْرُهُ حِينَ مَلَكَ عِشْرِينَ سَنَةً؛ وكانَ حَكِيمًا عارِفًا بِسائِرِ العُلُومِ؛ وكانَ الَّذِي عَلَّمَهُ الحِكْمَةَ أرِسْطاطالِيسُ الحَكِيمُ؛ وكانَ الإسْكَنْدَرُ يُشاوِرُهُ في أُمُورِهِ؛ ويَرْجِعُ إلى رَأْيِهِ؛ ويَتَدَبَّرُ بِتَدْبِيرِهِ؛ ولَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ أباهُ؛ ولا أُمَّهُ؛ وكانَ وجْهُهُ كَوَجْهِ الأسَدِ؛ وعَيْناهُ مُخْتَلِفَتَيْنِ؛ اليُمْنى سَوْداءُ تَنْظُرُ إلى أسْفَلَ؛ واليُسْرى صافِيَةُ اللَّوْنِ؛ كَعَيْنِ السِّنَّوْرِ؛ تَنْظُرُ إلى فَوْقَ؛ وأسْنانُهُ دَقِيقَةٌ حادَّةٌ؛ كَأسْنانِ الكَلْبِ؛ وكانَ شُجاعًا؛ جَرِيئًا؛ مِقْدامًا؛ مِن صِباهُ؛ فَلَمّا فَتَحَ بِلادَ المَغْرِبِ؛ ورَجَعَ مِنها؛ قَصَدَ بِلادَ الشّامِ؛ وتَوَجَّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ فَلَقِيَهُ مَلاكُ الرَّبِّ؛ فَأمَرَهُ أنْ يُعَظِّمَ القُدْسَ وأهْلَها؛ فَفَعَلَ؛ ثُمَّ قَصَدَ دارا الثّانِي؛ مَلِكَ الفُرْسِ؛ فَلَمّا حاذى نابُلْسَ خَرَجَ إلَيْهِ سُنْبَلاطُ السّامِرِيُّ صاحِبُها؛ وحَمَلَ إلَيْهِ أمْوالًا كَثِيرَةً؛ وهَدايا؛ ثُمَّ سارَ إلى دارا؛ فَقَتَلَهُ؛ ثُمَّ إلى مَلِكِ الهِنْدِ فَكَذَلِكَ؛ ثُمَّ إلى مَطْلِعَ الشَّمْسِ؛ ثُمَّ أحَبَّ أنْ يَرى أطْرافَ الأرْضِ؛ فَضَرَبَ فِيها؛ ورَأى مِنَ الأُمَمِ والعَجائِبِ ما هو مَذْكُورٌ في سِيَرِهِ؛ ورَجَعَ فَماتَ بِبابِلَ؛ ثُمَّ كانَ أمْرُ اليَهُودِ تارَةً؛ وتارَةً؛ وهم تَحْتَ حُكْمِ اليُونانِ؛ الَّذِينَ مَلَكُوا بَعْدَ الإسْكَنْدَرِ؛ ثُمَّ غُلِبَ الرُّومُ؛ فَكانَ اليَهُودُ تَحْتَ أيْدِيهِمْ؛ وكانُوا يَقُومُونَ ويَقْعُدُونَ تارَةً؛ وتارَةً؛ إلى أنْ كَثُرَتْ فِيهِمُ الأحْداثُ؛ وعَظُمَتِ المَصائِبُ والفِتَنُ؛ وعَمَّ الفَسادُ؛ (p-٣٤٠)وكَثُرَتْ فِيهِمُ الخَوارِجُ؛ واتَّصَلَ القَتْلُ والغَدْرُ والنَّهْبُ والغاراتُ؛ وقَتَلُوا زَكَرِيّا؛ ويَحْيى؛ ابْنَهُ - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ وأطْبَقُوا عَلى إرادَةِ قَتْلِ المَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ فَرَفَعَهُ اللَّهُ (تَعالى) إلَيْهِ؛ ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ طِيطُوسَ؛ قَيْصَرَ فَأهْلَكَهُمْ؛ وأخْرَبَ البَيْتَ الخَرابَ الثّانِيَ - كَما سَيَأْتِي؛ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ لِلْيَهُودِ أمْرٌ إلى الآنَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب