الباحث القرآني

ولَمّا قَرَعَ الأسْماعَ بِهَذا النَّهْيِ المُحَتِّمِ لِتَوْحِيدِهِ؛ أتْبَعَهُ الإخْبارَ بِالأمْرِ بِذَلِكَ؛ جَمْعًا في ذَلِكَ بَيْنَ صَرِيحَيِ الأمْرِ؛ والنَّهْيِ؛ تَصْرِيحًا؛ بَعْدَ التَّنْزِيهِ لَهُ عَنِ الشَّرِيكِ؛ بِالإفْرادِ لَهُ في العِبادَةِ؛ في أُسْلُوبِ الخَبَرِ؛ إعْلامًا بِعِظَمِ المَقامِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿وقَضى﴾؛ أيْ: نَهاكَ عَنْ ذَلِكَ؛ وأمَرَ؛ ﴿رَبُّكَ﴾؛ أيْ: المُحْسِنُ إلَيْكَ؛ أمْرًا حَتْمًا؛ مَقْطُوعًا بِهِ؛ ماضِيًا؛ لا يَحْتَمِلُ النِّزاعَ؛ ثُمَّ فَسَّرَ هَذا الأمْرَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ألا تَعْبُدُوا﴾؛ أيْ: أنْتَ وجَمِيعُ أهْلِ دَعْوَتِكَ؛ وهم جَمِيعُ الخَلْقِ؛ ﴿إلا إيّاهُ﴾؛ فَإنَّ ذَلِكَ هو الإحْسانُ. ولَمّا أمَرَ بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ لِلْمُحْسِنِ المُطْلَقِ؛ مُنَبِّهًا عَلى وُجُوبِ ذَلِكَ بِاسْمِ الرَّبِّ؛ أتْبَعَهُ الأمْرَ بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ لِأوَّلِ المُرَبِّينَ مِنَ الخَلْقِ؛ فَقالَ: (p-٤٠١)﴿وبِالوالِدَيْنِ﴾؛ أيْ: وأحْسِنُوا؛ أيْ: أوْقِعُوا الإحْسانَ بِهِما؛ ﴿إحْسانًا﴾؛ بِالِاتِّباعِ في الحَقِّ؛ إنْ كانا حَنِيفَيْنِ؛ شاكِرَيْنِ لِأنْعُمِهِ؛ كَإبْراهِيمَ؛ ونُوحٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ فَإنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ في حَسَناتِهِما؛ وبِالبَراءَةِ مِنهُما في الباطِلِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مِن وِزْرِهِما؛ واللُّطْفِ بِهِما ما لَمْ يَجُرَّ إلى فَسادٍ؛ لِيَكُونَ اللَّهُ مَعَكُمْ؛ فَإنَّهُ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا؛ والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ. ولَمّا كانَ - سُبْحانَهُ - عَلِيمًا بِما في الطِّباعِ مِن مَلالِ الوَلَدِ لَهُما عِنْدَ أخْذِهِما في السِّنِّ؛ قالَ (تَعالى): ﴿إمّا﴾؛ مُؤَكِّدًا بِإدْخالِ ”ما“؛ عَلى الشَّرْطِيَّةِ؛ لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ لِلْمَعْنى؛ اهْتِمامًا بِشَأْنِ الأبَوَيْنِ؛ ﴿يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ﴾؛ أيْ: بِأنْ يُضْطَرّا إلَيْكَ؛ فَلا يَكُونَ لَهُما كافِلٌ غَيْرُكَ؛ ﴿الكِبَرَ﴾؛ ونَفى كُلَّ احْتِمالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ المُتَعَنِّتُ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أحَدُهُما أوْ كِلاهُما﴾؛ فَيَعْجِزا؛ بِحَيْثُ يَكُونانِ في كَفالَتِكَ؛ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾؛ أيْ: لا تَتَضَجَّرْ مِنهُما؛ وفي سُورَةِ ”الأحْقافِ“؛ ما يَنْفَعُ كَثِيرًا هُنا؛ ثُمَّ صَرَّحَ بِما يَنْهى عَنْهُ الكَلامُ مِن بابِ الأوْلى؛ تَعْظِيمًا لِلْمَقامِ؛ فَقالَ: ﴿ولا تَنْهَرْهُما﴾؛ فِيما لا تَرْضاهُ؛ و”النَّهْرُ“: زَجْرٌ بِإغْلاظٍ وصِياحٍ؛ وقالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كِتابِهِ؛ في أُصُولِ الفِقْهِ: وقَدْ أُولِعَ الأُصُولِيُّونَ بِأنْ يَذْكُرُوا (p-٤٠٢)فِي جُمْلَةِ هَذا البابِ - أيْ: بابِ الِاسْتِدْلالِ بِالمَلْزُومِ عَلى اللّازِمِ؛ والأدْنى عَلى الأعْلى - قَوْلَهُ (تَعالى): ”ولا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ“؛ بِناءً عَلى أنَّ التَّأْفِيفَ عِنْدَهم أقَلُّ شَيْءٍ يُعَقُّ بِهِ الأبُ؛ وذَلِكَ حائِدٌ عَنْ سَنَنِ البَيانِ؛ ووَجْهِ الحِكْمَةِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في العُقُوقِ شَيْءٌ أشَدُّ مِنَ التَّأْفِيفِ؛ لِأنَّهُ إنَّما يُقالُ لِلْمُسْتَقْذَرِ المُسْتَرْذَلِ؛ ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ ”ولا تَنْهَرْهُما“؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنهُ لُزُومُ سَواءٍ؛ ولا لُزُومُ أحْرى؛ ولا يَصْلُحُ فِيما يَقَعُ أدْنى أنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ ما يَلْزَمُهُ سَواءٌ أوْ أحْرى؛ كَما لَوْ قالَ قائِلٌ: ”مَن يَعْمَلْ ذَرَّةً خَيْرًا يَرَهُ؛ ومَن يَعْمَلْ قِيراطًا يَرَهُ“؛ لَمْ يَصْلُحْ عَطْفُهُ عَلَيْهِ؛ لِإفادَةِ الأوَّلِ إيّاهُ؛ ولَعَلَّ ذَلِكَ شَيْءٌ وهَلَ فِيهِ واهِلٌ؛ فَسُلِكَ إثْرَهُ مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ لِقَوْلِهِ؛ انْتَهى. ولَمّا نَهاهُ عَنْ عُقُوقِهِما؛ تَقْدِيمًا لِما تُدْرَأُ بِهِ المَفْسَدَةُ؛ أمَرَهُ بِبِرِّهِما؛ جَلْبًا لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿وقُلْ لَهُما﴾؛ أيْ: بَدَلَ النَّهْرِ وغَيْرِهِ؛ ﴿قَوْلا كَرِيمًا﴾؛ أيْ: حَسَنًا جَمِيلًا؛ يَرْضاهُ اللَّهُ؛ ورَسُولُهُ؛ مَعَ ما يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ اللِّينِ؛ والرِّقَّةِ؛ والشَّفَقَةِ؛ وجَبْرِ الخاطِرِ؛ وبَسْطِ النَّفْسِ؛ كَما يَقْتَضِيهِ حُسْنُ الأدَبِ؛ وجَمِيلُ المُرُوءَةِ؛ (p-٤٠٣)ومِن ذَلِكَ أنَّكَ لا تَدْعُوهُما بِأسْمائِهِما؛ بَلْ بِـ ”يا أبَتاهُ“؛ و”يا أُمَّتاهُ“؛ ونَحْوِ هَذا؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب