الباحث القرآني

(p-٥٣٦)ولَمّا كانَ إيمانُ أهْلِ العِلْمِ الأُوَلِ بِهِ؛ وإذْعانُهم لَهُ؛ وتَرْكُهم لِأدْيانِهِمُ؛ الَّتِي أخَذُوها عَنِ الأنْبِياءِ الآتِينَ إلَيْهِمْ بِالكُتُبِ لِأجْلِهِ؛ بَعْدَ إقامَةِ الدَّلِيلِ القاطِعِ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ مُوجِبًا لِكُلِّ مَن لَهُ أدْنى إنْسانِيَّةٍ أنْ يُؤْمِنَ بِهِ؛ ويُقْبِلَ عَلَيْهِ؛ ويَدْعُوَ مَن أنْزَلَهُ؛ دُونَ غَيْرِهِ؛ دائِمًا؛ لا في أوْقاتِ الشِّدَّةِ فَقَطْ؛ ”وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ“؛ وكانَتْ أوْقاتُ الإجابَةِ أوْلى بِالدُّعاءِ مِن غَيْرِها؛ وكانَتْ حالَةُ السُّجُودِ؛ لا سِيَّما مَعَ البُكاءِ؛ والخُشُوعِ؛ أوْلاها: ”أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ“؛ كانَ المُعانِدُونَ مِنَ العَرَبِ كَأنَّهم قالُوا - لِأنَّ ذَلِكَ مِن شَأْنِهِمْ؛ ومِن حَقِّهِمْ؛ بَعْدَ ما قامَ مِنَ الأدِلَّةِ -: آمَنّا؛ فَعَلِّمْنا كَيْفَ نَدْعُو؛ وبِأيِّ اسْمٍ نَهْتِفُ؛ ولَمّا كانَ الجَلالَةُ هو الِاسْمَ الجامِعَ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ الحُسْنى؛ وكانَ قَدْ ورَدَ في ”النَّحْلِ“؛ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ ما لَمْ يَرِدْ في غَيْرِها؛ لِما تَقَدَّمَ مِنَ الأسْرارِ؛ مَعَ أنَّهُ عَدَّ فِيها مِنَ النِّعَمِ ما لَمْ يَعُدَّ في غَيْرِها؛ ومِنها تَعْلِيمُ الإنْسانِ البَيانَ؛ وذَلِكَ ألْيَقُ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ: ”الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ“؛ الآياتِ؛ وكانَتِ الرَّحْمَةُ - دُنْيَوِيَّةً؛ وأُخْرَوِيَّةً - مِنَ الخالِقِ؛ ومِنَ الخَلائِقِ؛ قَدْ كُرِّرَتْ في هَذِهِ السُّورَةِ ثَمانِيَ مَرّاتٍ: ”عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكُمْ“؛ ”جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ“؛ (p-٥٣٧)”وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما“؛ ”ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِن رَبِّكَ“؛ ”رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمُكُمْ“؛ ”إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيمًا“؛ ”إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ“؛ ”خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي“؛ وكانَ ذَلِكَ ظاهِرًا في إرادَةِ عُمُومِها؛ فَكانَ اسْمُ الرَّحْمَنِ بِهِ ألْيَقَ؛ وقَعَ الجَوابُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ الأعْظَمَ؛ ذا الجَلالِ والإكْرامِ؛ في ذاتِ إحاطَتِهِ؛ ﴿أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾؛ في مَعْنى اسْتِغْراقِهِ بِالرَّحْمَةِ؛ أيْ: سَمُّوا - أيْ: أوْقِعُوا الدُّعاءَ مُسَمِّينَ في حالِ دُعائِكم - رَبَّكُمُ الَّذِي سَبَّحْتُمُوهُ في السُّجُودِ؛ بِأيِّ اسْمٍ أرَدْتُمْ؛ مِمّا أذِنَ فِيهِ؛ فاهْتِفُوا بِهَذا الِاسْمِ الدّالِّ عَلى الجَلالِ؛ واسْتِحْقاقِ مُسَمّاهُ الدُّعاءَ لِذاتِهِ؛ أوْ بِهَذا الِاسْمِ الدّالِّ عَلى الجَمالِ؛ واسْتِحْقاقِهِ الدُّعاءَ لِإنْعامِهِ مُطْلَقًا؛ وفي حالَةِ السُّجُودِ؛ ﴿أيًّا ما تَدْعُوا﴾؛ أيْ: بِهِ مِن أسْمائِهِ؛ فَقَدْ حَصُلْتُمْ بِهِ عَلى القَصْدِ؛ فَإنَّ المُسَمّى واحِدٌ؛ وإنْ تَعَدَّدَتْ أسْماؤُهُ الدّالَّةُ عَلى الشَّرَفِ؛ ولَمّا كانَ في الرَّحْمَنِ جَمالٌ ظاهِرٌ؛ في باطِنِهِ جَلالٌ؛ لِأنَّ عُمُومَ الرَّحْمَةِ لِبَعْضِ نِعْمَةٍ؛ ولِبَعْضِ اسْتِدْراجٍ ونِقْمَةٍ؛ فَكانَ لِذَلِكَ جامِعًا لِجَمِيعِ الأسْماءِ الحُسْنى؛ والصِّفاتِ العُلا؛ سَبَّبَ عَنْ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ الاسْمَيْنِ العِلْمَ الجامِعَ؛ والوَصْفَ الواقِعَ مَوْقِعَهُ؛ قَوْلَهُ: ﴿فَلَهُ﴾؛ أيْ: المُسَمّى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وحْدَهُ؛ وهو الواحِدُ الأحَدُ؛ ﴿الأسْماءُ الحُسْنى﴾؛ هَذانِ الِاسْمانِ (p-٥٣٨)وغَيْرُهُما؛ مِمّا ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؛ وهو دالٌّ عَلى التَّحْمِيدِ؛ والتَّمْجِيدِ؛ والتَّقْدِيسِ؛ والتَّعْظِيمِ؛ فَهَذا الضَّمِيرُ اسْتِخْدامٌ؛ وقَدْ تَضَمَّنَ هَذا القَوْلُ أنَّ مَعْنى اسْمِ الرَّحْمَنِ أشْمَلُ مِنَ اسْمِ الرَّحِيمِ؛ وإنْ كانَ بِناءُ كُلٍّ مِنهُما لِلْمُبالَغَةِ؛ قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شَرْحِهِ لِلْأسْماءِ الحُسْنى -: الرَّحْمانِيَّةُ اسْتِغْراقُ الخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ في إنْشائِهِمْ؛ والرَّحِيمِيَّةُ إجْراءُ الخَلْقِ عَلى ما يُوافِقُ حِسَّهُمْ؛ ويُلائِمُ خَلْقَهُمْ؛ وخُلُقَهُمْ؛ ومَقْصِدَ أفْئِدَتِهِمْ؛ فَإذا اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالبَعْضِ كانَ رَحِيمِيَّةً؛ وإذا اسْتَغْرَقَ كانَ رَحْمانِيَّةً؛ ولِاسْتِغْراقِ مَعْنى اسْمِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَكُنْ لِتَمامِ مَعْناهُ وُجُودُ الخَلْقِ؛ فَلَمْ يَجُرْ بِحَقٍّ عَلى أحَدٍ مِنهُمْ؛ وإنَّما يُوجَدُ فِيهِمْ حَظٌّ خاصٌّ مِن مَعْناهُ؛ يَجْرِي عَلَيْهِمْ بِهِ اسْمُ الرَّحِيمِ؛ لا اسْمُ الرَّحْمَنِ؛ فَلِذَلِكَ لَحِقَ اسْمُ الرَّحْمَنِ في مَعْنى اسْتِغْراقِهِ بِاسْمِ اللَّهِ في ذاتِ إحاطَتِهِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾؛ فَإذا تَحَقَّقَ القَلْبُ اخْتِصاصَهُ بِاللَّهِ عِلْمًا؛ كانَ أصْلًا لِلَّفْظِ بِهِ قَوْلًا؛ فَعَلِمْتَ أنَّهُ لا رَحْمَنَ إلّا اللَّهُ؛ كَما أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ؛ ولَحِقَ باسِمِ الإلَهِ؛ فَقَدْ عُلِمَ فَقْدُ التَّمامِ لِمَعْناهُ في الخَلْقِ؛ كَما قَدْ فُقِدَ أصْلُ عِلْمِ الِاعْتِبارِ مِن مَعْناهُ في اسْمِ ”إلَهٌ“؛ والتَّوْحِيدُ في اسْمِ الرَّحْمَنِ واجِبٌ؛ لاحِقٌ بِالفَرْضِ في تَوْحِيدِ الإلَهِ؛ ولِذَلِكَ ولِيَ اسْمَ اللَّهِ في مَوارِدِهِ في الكُتُبِ؛ وفي هَذا التَّعْدِيدِ؛ أيْ: الوارِدِ في (p-٥٣٩)حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ؛ والبَزّارِ؛ وغَيْرِهِما؛ مِن أسْماءِ اللَّهِ الحُسْنى؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ انْتَهى. وقَدْ مَرَّ في آخِرِ ”الحِجْرِ“؛ ما يَنْفَعُ هُنا. ولَمّا ذَكَرَ السُّجُودَ وعَقَّبَهُ بِالدُّعاءِ؛ أشارَ إلى أنَّهُ في كُلِّ حالَةٍ حَسَنٌ؛ وفي الصَّلاةِ أوْلى وأحْسَنُ؛ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ قَرِيبًا الصَّلَواتِ الخَمْسَ؛ وكانَ رُبَّما فُهِمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿”إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا“؛﴾ [الإسراء: ٧٨] ومِن قَوْلِهِ: ﴿”إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ“؛﴾ [الإسراء: ١٠٧] قُوَّةُ الجَهْرِ بِهِ؛ قالَ (تَعالى): ﴿ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾؛ أيْ: بِقِراءَتِكَ فِيها؛ أوْ سَمّى القِراءَةَ صَلاةً لِأنَّها شَرْطٌ فِيها؛ جَهْرًا قَوِيًّا حَتّى يَسْمَعَهُ المُشْرِكُونَ؛ فَإنَّ المُخالِفِينَ قَدْ عُرِفَ عِنادُهُمْ؛ فَلا يُؤْمَنُ سَبُّهم لِلْقُرْآنِ؛ ولِمَن أنْزَلَهُ؛ ولِمَن جاءَ بِهِ؛ بَلْ كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ويَلْغَوْنَ؛ ورُبَّما صَفَّقُوا؛ وصَفَّرُوا؛ لِيُغَلِّطُوا النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؛ ويَخْلِطُوا عَلَيْهِ قِراءَتَهُ؛ ﴿ولا تُخافِتْ﴾؛ أيْ: تُسِرَّ؛ ﴿بِها﴾؛ إسْرارًا بَلِيغًا؛ كَأنَّكَ تُناظِرُ فِيهِ آخَرَ؛ بِحَيْثُ لا تُسْمِعُ مَن وراءَكَ؛ لِيَأْخُذُوهُ عَنْكَ؛ ﴿وابْتَغِ﴾؛ أيْ: اطْلُبْ بِغايَةِ جُهْدِكَ؛ ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾؛ أيْ: الجَهْرِ؛ والمُخافَتَةِ؛ اللَّتَيْنِ أفْهَمَتْ أداةُ البُعْدِ عَظَمَةَ شَأْنِهِما؛ ﴿سَبِيلا﴾؛ أيْ: طَرِيقًا وسَطًا؛ رَوى البُخارِيُّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: «”نَزَلَتْ ورَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ؛ كانَ إذا صَلّى بِأصْحابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ؛ (p-٥٤٠)فَإذا سَمِعَهُ المُشْرِكُونَ سَبُّوا القُرْآنَ؛ ومَن أنْزَلَهُ؛ ومَن جاءَ بِهِ؛ فَقالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - لِنَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - ﴿ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾؛ أيْ: بِقِراءَتِكَ؛ فَيَسْمَعَ المُشْرِكُونَ؛ فَيَسُبُّوا القُرْآنَ؛ ﴿ولا تُخافِتْ بِها﴾؛ عَنْ أصْحابِكَ؛ فَلا تُسْمِعَهُمْ“؛» انْتَهى. أطْلَقَ هُنا اسْمَ الكُلِّ عَلى الجُزْءِ؛ إشارَةً إلى أنَّ المَقْصُودَ الصَّلاةُ؛ وفِيما تَقَدَّمَ اسْمُ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ الأعْظَمَ هُناكَ القِراءَةُ في الفَجْرِ؛ ورَوى البُخارِيُّ؛ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الدُّعاءِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ أنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أسْبابٌ كَثِيرَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب