الباحث القرآني

ولَمّا كانَ التَّوْحِيدُ أعْظَمَ المَأْمُوراتِ؛ وكانَ العِصْيانُ فِيهِ أعْظَمَ العِصْيانِ؛ وكانَ - سُبْحانَهُ - قَدْ أكْثَرَ التَّخْوِيفَ مِن عِصْيانِهِ؛ أبْلَغَ الأمْرَ إلى نِهايَتِهِ؛ بِالإخْبارِ بِأنَّ المَلائِكَةَ تَخافُهُ؛ وكانَ المَلائِكَةُ مِن أعْظَمِ المُوَحِّدِينَ؛ كَما كانُوا مِن أعْظَمِ السّاجِدِينَ؛ مِن أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِينَ؛ وكانَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن أعْظَمِ أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ؛ أتْبَعَها - عَطْفًا عَلى ”وأنْزَلَ إلَيْكَ الذِّكْرَ“؛ لِيَتَضافَرَ عَلى ذَلِكَ أدِلَّةُ العَقْلِ؛ والنَّقْلِ؛ وتَسْلِيكًا بِأحْوالِ المَلائِكَةِ - قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وقالَ اللَّهُ﴾؛ فَعَبَّرَ لِأجْلِ تَعْظِيمِ المَقامِ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ؛ الخاصِّ؛ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ: ﴿لا تَتَّخِذُوا﴾؛ أيْ: لا تُكَلِّفُوا فِطَرَكُمُ الأُولى السَّلِيمَةَ المَجْبُولَةَ عَلى مَعْرِفَةِ أنَّ الإلَهَ واحِدٌ؛ إلى أنْ تَأْخُذَ في اعْتِقادِها ﴿إلَهَيْنِ﴾؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما عُلِمَ مِنَ المُقَدِّماتِ المَذْكُورَةِ أوَّلَ السُّورَةِ؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿وما يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل: ٢١]؛ مِنَ النَّتِيجَةِ؛ وهِيَ: ﴿إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [الأنبياء: ١٠٨]؛ لِاحْتِمالِ أنْ يَقُولَ مُتَعَنِّتٌ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنا (p-١٧٦)بِذَلِكَ؛ وإنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ؛ ويَجُوزُ - وهو أقْرَبُ - أنْ يُعْطَفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [النحل: ٣٥]؛ تَبْكِيتًا لَهُمْ؛ بِأنَّهُمُ احْتَجُّوا بِحُكْمِهِ؛ ولَمْ يُبادِرُوا إلى امْتِثالِ أمْرِهِ. ولَمّا كانَ قَدْ فُهِمَ المُرادُ مِنَ التَّثْنِيَةِ؛ وكانَ رُبَّما قالَ المُتَعَنِّتُ: إنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ تَكْثِيرُ الأسْماءِ؛ قالَ - مُؤَكِّدًا؛ ومُحَقِّقًا -: ﴿اثْنَيْنِ﴾؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأُلُوهِيَّةَ؛ لِأنَّهُ مَوْضِعٌ لِإمْكانِ التَّنازُعِ المَلْزُومِ لِلْعَجْزِ؛ المُنافِي لِتِلْكَ الرُّتْبَةِ؛ مُطْلَقُ العَدَدِ يُنافِي المَنِيفَةَ الشَّمّاءَ؛ وفي ذَلِكَ أيْضًا - مَعَ كَوْنِ مَعْبُوداتِهِمْ كانَتْ كَثِيرَةً - إشارَةٌ إلى أنَّ ما يُسَمّى آلِهَةً - وإنْ زادَ عَدَدُهُ - يَرْجِعُ بِالحَقِيقَةِ إلى اثْنَيْنِ: خالِقٍ ومَخْلُوقٍ؛ ومِنَ المَعْلُومِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أنَّ المَخْلُوقَ غَيْرُ صالِحٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ؛ فانْحَصَرَ الأمْرُ في الخالِقِ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الخالِقُ كانَ مُنْقَسِمًا؛ لا مَحالَةَ؛ وأقَلُّ ما يَنْقَسِمُ إلى اثْنَيْنِ؛ وبابُ الِاتِّخاذِ إذا كانَ مَفْعُولُهُ نَكِرَةً؛ اكْتُفِيَ بِواحِدٍ؛ كَما تَقُولُ: ”اتَّخَذْتُ بَيْتًا“؛ و”اتَّخَذْتُ زَوْجَةً“؛ ونَحْوَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ النَّهْيَ بِما اقْتَضاهُ السِّياقُ مِنَ الوَحْدانِيَّةِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿إنَّما هُوَ﴾؛ أيْ: الإلَهُ المَفْهُومُ مِن لَفْظِ ”إلَهَيْنِ“؛ الَّذِي لا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ هَذا الضَّمِيرُ إلّا مَجازًا؛ لِأنَّهُ لا يُطْلَقُ إطْلاقًا حَقِيقِيًّا إلّا عَلى ما وجَدُوهُ مِن ذاتِهِ؛ ﴿إلَهٌ﴾؛ أيْ: يَسْتَحِقُّ هَذا الوَصْفَ عَلى الإطْلاقِ؛ (p-١٧٧)ولَمّا كانَ السِّياقُ مُفْهِمًا لِلْوَحْدانِيَّةِ؛ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّثْنِيَةِ؛ وكانَ رُبَّما تَعَنَّتَ مُتَعَنِّتٌ بِأنَّ المُرادَ إثْباتُ الإلَهِ؛ الدّالُّ عَلى الجِنْسِ؛ قالَ - رافِعًا لِكُلِّ شُبْهَةٍ -: ﴿واحِدٌ﴾؛ أيْ: لا يُمْكِنُ أنْ يُثَنّى بِوَجْهٍ؛ ولا أنْ يُجَزَّأ؛ لِغِناهُ المُطْلَقِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ واحْتِياجِ كُلِّ شَيْءٍ إلَيْهِ؛ فَكُونُوا مِمَّنْ يَسْجُدُ لَهُ طَوْعًا؛ ولا تَكُونُوا مِمَّنْ لا يَسْجُدُ لَهُ إلّا كَرْهًا. ولَمّا كانَ أُسْلُوبُ الغَيْبَةِ لا يُعَيِّنُ الإلَهَ في المُتَكَلِّمِ؛ التَفَتَ إلى أُسْلُوبِ التَّكَلُّمِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿فَإيّايَ﴾؛ أيْ: ذَلِكَ الواحِدُ أنا؛ وحْدِي؛ لا شَرِيكَ لِي؛ فَمَن لَمْ يُوَحِّدْنِي أوْقَعْتُ بِهِ بِقُوَّتِي ما لا يُطِيقُهُ؛ لِعَجْزِهِ؛ ولَمّا كانَتِ الوَحْدانِيَّةُ مِمّا لا يَخْفى عَلى عاقِلٍ؛ وكانَتْ مَرْكُوزَةً في كُلِّ فِطْرَةٍ؛ بِدَلِيلِ الِاضْطِرابِ عِنْدَ المِحَنِ؛ والشَّدائِدِ؛ والفِتَنِ؛ وكانَتِ الرَّهْبَةُ - كَما مَضى عَنِ الحَرالِّيِّ في ”البَقَرَةِ“ - خاصَّةً بِالخَوْفِ مِمّا خالَفَ العاصِي فِيهِ العِلْمَ؛ عَبَّرَ بِها؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿فارْهَبُونِ﴾؛ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ؛ ولا تَخافُوا شَيْئًا غَيْرِي؛ مِن صَنَمٍ؛ ولا غَيْرِهِ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ قُدْرَةٌ؛ وإنْ أوْدَعْتُهُ فَإنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إنْفاذِها؛ فالأمْرُ كُلُّهُ إلَيَّ وحْدِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب