الباحث القرآني

ولَمّا كانَ جَمْعُ الرُّسُلِ مُفْهِمًا لِتَوْزِيعِهِمْ عَلى الأُمَمِ؛ كانَ مَوْضِعَ تَوَقُّعِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ؛ فَقالَ - دافِعًا لِكَرْبِ هَذا الِاسْتِشْرافِ؛ نافِيًا لِطُرُوقِ احْتِمالٍ؛ دالًّا عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ السّابِقَ مُنْصَبٌّ إنْكارُهُ بِالذّاتِ إلى اعْتِراضِهِمْ عَلى الإرْسالِ؛ ومُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؛ وحاثًّا لَهم عَلى الِاعْتِبارِ؛ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: ”فَلَقَدْ بَعَثْناكَ في أُمَّتِكَ هَذِهِ؛ لِأنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ؛ ويَجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ؛ فَمِنهم مَن هَدَيْنا؛ ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ؛ فَكانَ - مِن غَيْرِ شَكٍّ - بَعْضُهم مُرْضِيًا لِلَّهِ؛ وبَعْضُهم مُغْضِبًا لَهُ؛ فَإنَّهُ لا يَكُونُ حُكْمُ المُتَنافِيَيْنِ واحِدًا أبَدًا“ -: ﴿ولَقَدْ﴾؛ أيْ: واللَّهِ؛ لَقَدْ ﴿بَعَثْنا﴾؛ أيْ: عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ الَّتِي مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْها أُخِذَ؛ ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾؛ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ؛ ﴿رَسُولا﴾؛ فَما بَقِيَ في الأرْضِ أحَدٌ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؛ ولِأجْلِ أنَّ (p-١٥٧)الرُّسُلَ قَدْ تَكُونُ مِن غَيْرِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ؛ كَلُوطٍ؛ وشُعَيْبٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ في أصْحابِ الأيْكَةِ؛ وسُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في غَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ؛ مِن سائِرِ مَن وصَلَ إلَيْهِ حُكْمُهُ مِن أهْلِ الأرْضِ؛ لَمْ يُقَيِّدْ بِـ ”مِنهُمْ“؛ ولَمّا كانَ البَعْثُ مُتَضَمِّنًا مَعْنى القَوْلِ؛ كانَ المَعْنى: فَذَهَبُوا إلَيْهِمْ قائِلِينَ: ﴿أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ الأعْلى؛ وحْدَهُ؛ ﴿واجْتَنِبُوا﴾؛ أيْ: بِكُلِّ جُهْدِكُمْ؛ ﴿الطّاغُوتَ﴾؛ كَما أمَرَكم رَسُولُنا؛ ﴿فَمِنهُمْ﴾؛ أيْ: فَتَسَبَّبَ عَنْ إرْسالِ الرُّسُلِ أنْ كانَتِ الأُمَمُ قِسْمَيْنِ: مِنهم ﴿مَن هَدى اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ؛ لِلْحَقِّ؛ فَحَقَّتْ لَهُ الهِدايَةُ؛ فَأبْصَرَ الحَقَّ؛ وعَمِلَ بِهِ بِاتِّباعِ الدُّعاةِ الهُداةِ؛ فِيما أمَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ؛ فَحَقَّتْ لَهُ الجَنَّةُ؛ ﴿ومِنهم مَن حَقَّتْ﴾؛ أيْ: ثَبَتَتْ غايَةَ الثَّباتِ؛ ﴿عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾؛ بِأنْ أضَلَّهُ اللَّهُ؛ فَنابَذَ الأمْرَ؛ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ وعَمِلَ بِمُقْتَضى الإرادَةِ؛ فَإنَّ الأمْرَ قَدْ لا يَكُونُ ما تَعَلَّقَ بِهِ؛ والإرادَةَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ ما تَعَلَّقَتْ بِهِ؛ وقَدْ يَكُونُ مُوافِقُها عامِلًا بِالضَّلالَةِ؛ فَحَقَّ عَلَيْهِ عَذابُها؛ فَحَقَّتْ لَهُ النّارُ؛ فَهَلَكَ؛ لِأنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ يَدْفَعُ بِها عَنْ نَفْسِهِ؛ فَلَوْ كانَ كُلُّ ما شاءَهُ (p-١٥٨)حَقًّا كانَ الفَرِيقانِ مُحِقَّيْنِ؛ فَلَمْ يُعَذَّبْ أحَدُهُما؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ عَذَّبَ العاصِيَ؛ ونَجّى الطّائِعَ في كُلِّ أُمَّةٍ؛ عَلى حَسَبِ ما قالَ الرُّسُلُ؛ وهَذا هو مَعْنى رِضا اللَّهِ؛ إطْلاقًا لِاسْمِ المَلْزُومِ عَلى اللّازِمِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ قَطْعًا عَلى صِدْقِ الرُّسُلِ؛ وكَذِبِ مُخالِفِيهِمْ؛ فالآيَةُ مِنَ الاحْتِباكِ: ذَكَرَ فِعْلَ الهِدايَةِ أوَّلًا؛ دَلِيلًا عَلى فِعْلِ الضَّلالِ ثانِيًا؛ وحُقُوقَ الضَّلالَةِ ثانِيًا؛ دَلِيلًا عَلى حُقُوقِ الهِدايَةِ أوَّلًا. ثُمَّ التَفَتَ إلى مُخاطَبَتِهِمْ؛ إشارَةً إلى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ؛ بَعْدَ هَذا الدَّلِيلِ القَطْعِيِّ؛ في نَظَرِ البَصِيرَةِ؛ إلّا الدَّلِيلُ المَحْسُوسُ لِلْبَصَرِ؛ فَقالَ: ﴿فَسِيرُوا﴾؛ أيْ: فَإنْ كُنْتُمْ أيُّها المُخاطَبُونَ في شَكٍّ مِن إخْبارِ الرُّسُلِ؛ فَسِيرُوا ﴿فِي الأرْضِ﴾؛ أيْ: جِنْسِها؛ ﴿فانْظُرُوا﴾؛ أيْ: إذا سِرْتُمْ؛ ومَرَرْتُمْ بِدِيارِ المُكَذِّبِينَ؛ وآثارِهِمْ؛ وعَبَّرَ هُنا بِالفاءِ المُشِيرَةِ إلى التَّعَقُّبِ؛ دُونَ تَراخٍ؛ لِأنَّ المَقامَ لِلِاسْتِدْلالِ المُنْقِذِ مِنَ الضَّلالِ؛ الَّذِي تَجِبُ المُبادَرَةُ إلى الإقْلاعِ عَنْهُ؛ بِخِلافِ ”ثُمَّ انْظُرُوا“؛ في ”الأنْعامِ“؛ لِما تَقَدَّمَ؛ وأشارَ بِالِاسْتِفْهامِ إلى أنَّ أحْوالَهم مِمّا يَجِبُ أنْ يُسْألَ عَنْهُ؛ لِلِاتِّعاظِ بِهِ؛ فَقالَ: ﴿كَيْفَ كانَ﴾؛ أيْ: كَوْنًا لا قُدْرَةَ عَلى الخَلاصِ مِنهُ؛ ﴿عاقِبَةُ﴾؛ أيْ (p-١٥٩)آخِرُ أمْرِ ﴿المُكَذِّبِينَ﴾؛ أيْ: مِن عادٍ؛ ومَن بَعْدَهُمُ؛ الَّذِينَ تَلَقَّيْتُمْ أخْبارَهم عَمَّنْ قَلَّدْتُمُوهم في الكُفْرِ مِن أسْلافِكُمْ؛ فَإنَّهم كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِيما أمَرْتُهم بِإبْلاغِهِ؛ مُخالَفَةً لِأمْرِي؛ وعَمَلًا بِمَشِيئَتِي؛ فَأوْقَعْتُ بِهِمْ؛ لِأنَّهم خالَفُوا أمْرِي بِاخْتِيارِهِمْ؛ مَعَ جَهْلِهِمْ بِإرادَتِي؛ فَقامَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ؛ عَلى ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ بَيْنَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب