الباحث القرآني

(p-١٠١)سُورَةُ ”النَّحْلِ“ مَقْصُودُها الدَّلالَةُ عَلى أنَّهُ (تَعالى) تامُّ القُدْرَةِ والعِلْمِ؛ فاعِلٌ بِالِاخْتِيارِ؛ مُنَزَّهٌ عَنْ شَوائِبِ النَّقْصِ؛ وأدَلُّ ما فِيها عَلى هَذا المَعْنى أمْرُ النَّحْلِ؛ لِما ذَكَرَ مِن شَأْنِها مِن دِقَّةِ الفَهْمِ في تَرْتِيبِ بُيُوتِها؛ ورَعْيِها؛ وسائِرِ أمْرِها؛ مِنَ اخْتِلافِ ألْوانِ ما يَخْرُحُ مِنها مِن أعْسالِها؛ وجَعْلِهِ شِفاءً؛ مَعَ أكْلِها مِنَ الثِّمارِ النّافِعَةِ؛ والضّارَّةِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ؛ ووَسْمُها بِالنِّعَمِ واضِحٌ في ذَلِكَ؛ واللَّهُ أعْلَمُ. ”بِسْمِ اللَّهِ“؛ المُحِيطِ بِدائِرَةِ الكَمالِ؛ فَما شاءَ فَعَلَ؛ ”الرَّحْمَنِ“؛ الَّذِي عَمَّتْ نِعْمَتُهُ جَلِيلَ خَلْقِهِ؛ وحَقِيرَهُ؛ وصَغِيرَهُ وكَبِيرَهُ؛ ”الرَّحِيمِ“؛ الَّذِي خَصَّ مَن شاءَ بِنِعْمَةِ النَّجاةِ مِمّا يُسْخِطُهُ بِما يَرْضاهُ. لَمّا خَتَمَ ”الحِجْرَ“؛ بِالإشارَةِ إلى إتْيانِ اليَقِينِ؛ وهو صالِحٌ لِمَوْتِ الكُلِّ؛ ولِكَشْفِ الغِطاءِ بِإتْيانِ ما يُوعَدُونَ مِمّا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؛ اسْتِهْزاءً مِنَ العَذابِ (p-١٠٢)فِي الآخِرَةِ؛ بَعْدَ ما يَلْقَوْنَ في الدُّنْيا؛ ابْتَدَأ هَذِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ سَواءً؛ غَيْرَ أنَّهُ خَتَمَ تِلْكَ بِاسْمِ الرَّبِّ المُفْهِمِ لِلْإحْسانِ؛ لُطْفًا بِالمُخاطَبِ؛ وافْتَتَحَ هَذِهِ بِاسْمِ الأعْظَمِ الجامِعِ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ألْيَقُ بِمَقامِ التَّهْدِيدِ؛ ولِما سَتَعْرِفُهُ مِنَ المَعانِي المُتَنَوِّعَةِ في أثْناءِ السُّورَةِ؛ وسَيُكَرَّرُ هَذا الِاسْمُ فِيها تَكْرِيرًا تُعْلَمُ مِنهُ صِحَّةُ هَذِهِ الدَّعْوى؛ وعَبَّرَ عَنِ الآتِي بِالماضِي؛ إشارَةً إلى تَحَقُّقِهِ تَحَقُّقَ ما وقَعَ ومَضى؛ وإلى أنَّ كُلَّ آتٍ ولا بُدَّ قَرِيبٌ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْظَمِ؛ الَّذِي لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى؛ والصِّفاتُ العُلا؛ بِما يُذِلُّ الأعْداءَ؛ ويُعِزُّ الأوْلِياءَ؛ ويَشْفِي صُدُورَهُمْ؛ ويُقِرُّ أعْيُنَهم. ولَمّا كانَتِ العَجَلَةُ نَقْصًا؛ قالَ - مُسَبِّبًا عَنْ هَذا الإخْبارَ -: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾؛ أيُّها الأعْداءُ اسْتِهْزاءً؛ وأيُّها الأوْلِياءُ اسْتِكْفاءً واسْتِشْفاءً؛ وذَلِكَ مِثْلُ ما أفْهَمَهُ العَطْفُ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤]؛ كَما تَقَدَّمَ؛ والضَّمِيرُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ؛ وأنْ يَكُونَ لِلْأمْرِ. ولَمّا كانَ الجَزْمُ بِالأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ لا يَلِيقُ إلّا عِنْدَ نُفُوذِ الأمْرِ؛ ولا نُفُوذَ إلّا لِمَن لا كُفُؤَ لَهُ؛ وكانَتِ العَجَلَةُ - وهي الإتْيانُ بِالشَّيْءِ (p-١٠٣)قَبْلَ حِينِهِ الأوْلى بِهِ - نَقْصًا ظاهِرًا؛ لا يُحْمَلُ عَلَيْها إلّا في ضِيقِ الفِطَنِ؛ وكانَ التَّأْخِيرُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ مُنازِعٍ مُشارِكٍ؛ نَزَّهَ نَفْسَهُ - سُبْحانَهُ - تَنْزِيهًا مُطْلَقًا؛ جامِعًا؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿سُبْحانَهُ﴾؛ أيْ: تَنَزَّهَ عَنْ الِاسْتِعْجالِ؛ وعَنْ جَمِيعِ صِفاتِ النَّقْصِ؛ ﴿وتَعالى﴾؛ أيْ: تَعالِيًا عَظِيمًا جِدًّا؛ ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أيْ: يَدَّعُونَ أنَّهُ شَرِيكٌ لَهُ؛ فَلا مانِعَ مِمّا يُرِيدُ فِعْلَهُ؛ وساقَهُ في غَيْرِ قِراءَةِ حَمْزَةَ؛ والكِسائِيِّ؛ في أُسْلُوبِ الغَيْبَةِ؛ إظْهارًا لِلْإعْراضِ الدّالِّ عَلى شِدَّةِ الغَضَبِ؛ وهي ناظِرَةٌ إلى قَوْلِهِ - آخِرَ الَّتِي قَبْلَها -: ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤]؛ وقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الحجر: ٩٦]؛ وقَدْ آلَ الأمْرُ في نَظْمِ الآيَةِ إلى أنْ صارَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ لا يَعْجَلُ؛ لِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ؛ ولا بُدَّ مِن إنْفاذِ أمْرِهِ؛ لِأنَّهُ مُتَعالٍ عَنِ الكُفُؤِ؛ أوْ يُقالُ: لا تَسْتَعْجِلُوهُ لِأنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ النَّقْصِ؛ فَلا يَعْجَلُ؛ وتَعالى عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ كُفُؤٌ يَدْفَعُ ما يُرِيدُ؛ فَلا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ؛ فَهي واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِصَدْرِ الآيَةِ؛ كَما أنَّ صَدْرَ الآيَةِ تَعْلِيلٌ لِآخِرِ سُورَةِ ”الحِجْرِ“.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب