الباحث القرآني

وأجابَ - سُبْحانَهُ - عَنِ الأوَّلِ بِقَوْلِهِ - مُؤَكِّدًا لِتَكْذِيبِهِمْ -: ﴿إنّا نَحْنُ﴾؛ أيْ: عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ (p-٢١)لا غَيْرُنا مِن جِنٍّ؛ ولا إنْسٍ؛ ﴿نَـزَّلْنا﴾؛ أيْ: بِالتَّدْرِيجِ؛ عَلى لِسانِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ﴿الذِّكْرَ﴾؛ أيْ: المَوْعِظَةَ؛ والشَّرَفَ؛ ﴿وإنّا لَهُ﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا؛ وإنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الحاسِدِينَ؛ ﴿لَحافِظُونَ﴾؛ أيْ: دائِمًا؛ بِقُدْرَتِنا؛ وعِلْمِنا؛ لِما في سُورَةِ ”هُودٍ“؛ مِن أنَّ ذَلِكَ لازِمٌ لِلْحِفْظِ؛ فانْتَفى حِينَئِذٍ جَوازُ أنْ يُنَزَّلَ عَلى مَجْنُونٍ؛ مُخَلِّطٍ؛ لا سِيَّما وهو عَلى هَذِهِ الأسالِيبِ البَدِيعَةِ؛ والمَناهِجِ الرَّفِيعَةِ؛ فَكَأنَّ المَعْنى: أرْسَلْناكَ بِهِ حالَ كَوْنِكَ بَشَرًا؛ لا مَلَكًا؛ قَوِيًّا سَوِيًّا؛ يَعْلَمُونَ أنَّكَ أكْمَلُهم عَقْلًا؛ وأعْلاهم هِمَّةً؛ وأيْقَنُهم فِكْرًا؛ وأتْقَنُهم أمْرًا وأوْثَقُهم رَأْيًا؛ وأصْلَبُهم عَزِيمَةً؛ رَوى البُخارِيُّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ والفِتَنِ؛ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: أرْسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَقْتَلَ أهْلِ اليَمامَةِ؛ وعِنْدَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ عُمَرَ أتانِي فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمامَةِ بِالنّاسِ - وفي رِوايَةٍ: بِقُرّاءِ القُرْآنِ - وإنِّي أخْشى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرّاءِ في المَواطِنِ؛ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ؛ إلّا أنْ (p-٢٢)تَجْمَعُوهُ؛ وإنِّي لَأرى أنْ تَجْمَعَ القُرْآنَ؛ قالَ أبُو بَكْرٍ: فَقُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؟ فَقالَ عُمَرُ: هو واللَّهِ خَيْرٌ؛ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُراجِعُنِي فِيهِ حَتّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي؛ ورَأيْتُ الَّذِي رَأى عُمَرُ؛ قالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: وعُمَرُ جالِسٌ عِنْدَهُ لا يَتَكَلَّمُ؛ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّكَ رَجُلٌ شابٌّ؛ عاقِلٌ؛ ولا نَتَّهِمُكَ؛ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؛ فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فاجْمَعْهُ؛ فَواللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبالِ؛ ما كانَ أثْقَلَ عَلَيَّ مِمّا أمَرَنِي بِهِ مِن جَمْعِ القُرْآنِ؛ قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؟ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: هو واللَّهِ خَيْرٌ؛ فَلَمْ أزَلْ أُراجِعُهُ حَتّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ؛ وعُمَرَ؛ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ الرِّقاعِ؛ والأكْتافِ؛ والعَسْبِ؛ وصُدُورِ الرِّجالِ؛ حَتّى وجَدْتُ مِن سُورَةِ ”التَّوْبَةِ“ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ - أوْ أبِي خُزَيْمَةَ - الأنْصارِيِّ؛ لَمْ أجِدْهُما -؛ أيْ: مَكْتُوبَتَيْنِ - عِنْدَ أحَدٍ غَيْرِهِ؛ ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]؛ إلى آخِرِها؛ (p-٢٣)وكانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيها القُرْآنُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ حَتّى تَوَفّاهُ اللَّهُ (تَعالى)؛ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتّى تَوَفّاهُ اللَّهُ؛ ثُمَّ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وساقَ هَذا الأثَرَ أيْضًا في فَضائِلِ القُرْآنِ؛ ورُوِيَ بَعْدَهُ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدِمَ عَلى عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وكانَ يُغازِي أهْلَ الشّامِ في فَتْحِ أرْمِينِيَّةَ؛ وآذَرْبِيجانَ؛ مَعَ أهْلِ العِراقِ؛ فَأفْزَعَ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتِلافُهم في القِراءَةِ؛ فَقالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ أدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أنْ يَخْتَلِفُوا في الكِتابِ اخْتِلافَ اليَهُودِ والنَّصارى؛ فَأرْسَلَ عُثْمانُ إلى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنْ أرْسِلِي إلَيْنا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْها في المَصاحِفِ؛ ثُمَّ نَرُدَّها إلَيْكِ؛ فَأرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إلى عُثْمانَ؛ فَأمَرَ زَيْدَ بْنَ ثابِتٍ؛ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ؛ وسَعِيدَ بْنَ العاصِ؛ وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحارِثِ بْنِ هِشامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -؛ فَنَسَخُوها في المَصاحِفِ؛ وقالَ عُثْمانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إذا اخْتَلَفْتُمْ أنْتُمْ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ في شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فاكْتُبُوهُ بِلِسانِ قُرَيْشٍ؛ فَإنَّما نَزَلَ بِلِسانِهِمْ؛ فَفَعَلُوا؛ حَتّى إذا (p-٢٤)نَسَخُوا الصُّحُفَ في المَصاحِفِ؛ رَدَّ عُثْمانُ الصُّحُفَ إلى حَفْصَةَ؛ وأرْسَلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمّا نَسَخُوا؛ وأمَرَ بِما سِواهُ مِنَ القُرْآنِ في كُلِّ صَحِيفَةٍ؛ أوْ مُصْحَفٍ؛ أنْ يُحْرَقَ؛ ولَهُ عَنْ خارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: لَمّا نَسَخْنا الصُّحُفَ في المَصاحِفِ فُقِدَتْ آيَةٌ مِن سُورَةِ ”الأحْزابِ“؛ كُنْتُ كَثِيرًا أسْمَعُ الرَّسُولَ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - يَقْرَأُها؛ لَمْ أجِدْها مَعَ أحَدٍ؛ إلّا مَعَ خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ - وفي رِوايَةٍ: فالتَمَسْناها؛ فَوَجَدْناها مَعَ خُزَيْمَةَ - الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ شَهادَتَهُ شَهادَةَ رَجُلَيْنِ؛ ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣]؛ فَألْحَقْناها في سُورَتِها في المُصْحَفِ؛ وفي الأثَرِ الأوَّلِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ كانَ - لَمّا أمَرَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يَكْتُبُ شَيْئًا إلّا إذا وجَدَ ما كانَ قَدْ كُتِبَ مِنهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - وأمْرِهِ؛ وقابَلَهُ مَعَ ذَلِكَ عَلى المَحْفُوظِ في صُدُورِ الرِّجالِ؛ وفي الأخِيرِ دَلِيلٌ مِن قَوْلِهِ: نَسَخْنا المُصْحَفَ في المَصاحِفِ؛ إلى آخِرِهِ؛ أنَّهُ أعادَ التَّتَبُّعَ كَما فَعَلَ أوَّلًا؛ لِيَصِحَّ (p-٢٥)قَوْلُهُ: فُقِدَتْ آيَةٌ مِن سُورَةِ ”الأحْزابِ“. لِأنَّ افْتِقادَها فَرْعُ العِلْمِ بِها؛ ومِن أبْعَدِ البَعِيدِ أنْ يَكُونَ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - كَثِيرًا يَقْرَأُها؛ ولا يَحْفَظُها؛ ولا سِيَّما وهو مَذْكُورٌ فِيمَن جَمَعَ القُرْآنَ في حَياةِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - كَما رَواهُ البُخارِيُّ مِن غَيْرِ وجْهٍ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ والظّاهِرُ مِن مِثْلِ هَذا التَّتَبُّعِ الَّذِي لا يُجَوِّزُ لِمَن مارَسَ أمْثالَ هَذِهِ الهِمَمِ أنْ يَفْهَمَ غَيْرُهُ أنْ يَكُونَ لا يَنْقُلُ آيَةً إلّا إذا وجَدَ مِن حُفّاظِها عَلى حَسَبِ ما هي مَكْتُوبَةٌ عَدَدَ التَّواتُرِ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب