الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ما أُوتِيَهُ؛ وما سَيُؤْتاهُ؛ أعْظَمَ ما أُوتِيَهُ مَخْلُوقٌ؛ اتَّصَلَ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾؛ أيْ: مَدًّا عَظِيمًا؛ بِالتَّمَنِّي والِاشْتِهاءِ المُصَمِّمِ؛ ولِذَلِكَ ثَنّى العَيْنَ احْتِزازًا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ؛ ﴿إلى ما مَتَّعْنا﴾؛ أيْ: عَلى عَظَمَتِنا؛ ﴿بِهِ أزْواجًا﴾؛ أيْ: أصْنافًا؛ ﴿مِنهُمْ﴾؛ أيْ: أهْلِ الدُّنْيا؛ أوْ يُقالُ: إنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ إنَّما هو التَّبْلِيغُ بِدارِ الفَناءِ إلى دارِ البَقاءِ؛ المُؤَكَّدِ إتْيانُها في الآيَةِ السّابِقَةِ؛ وكانَ القُرْآنُ - كَما تَقَدَّمَ - كَفِيلًا بِذَلِكَ؛ وسَلّاهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - عَمّا يُؤْذُونَهُ مِن أقْوالِهِمْ؛ وتَبَيَّنَ مِن ذَلِكَ عُلُوُّ دَرَجَتِهِ؛ تَوَقَّعَ السّامِعُ ذِكْرَ ما (p-٨٧)أسْبَغَ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؛ فَقالَ (تَعالى) - أوْ يُقالُ: إنَّهُ لَمّا أمَرَهُ - سُبْحانَهُ - بِالصَّبْرِ عَلى أذاهُمْ؛ عَلَّلَ ذَلِكَ بِما مَعْناهُ أنَّهم خَلْقُهُ؛ وأنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالخَلْقِ؛ وهو بَلِيغُ العِلْمِ بِأفْعالِهِمْ؛ مُرِيدٌ لَها؛ فَلَيْسَ الفِعْلُ في الحَقِيقَةِ إلّا لَهُ؛ وعَلى المُحِبِّ أنْ يَرْضى بِفِعْلِ حَبِيبِهِ؛ مِن حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُهُ؛ ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”فَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ؛ وعَلِمَ قَبْلَ خَلْقِهِمْ ما يَفْعَلُونَ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ – صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - قَوْلَهُ -: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ﴾ [الحجر: ٨٧]؛ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ كَما آتَيْنا صالِحًا ما تَقَدَّمَ؛ ﴿سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ [الحجر: ٨٧]؛ يَكُونُ كُلُّ سَبْعٍ مِنها كَفِيلًا بِإغْلاقِ بابٍ مِن أبْوابِ النِّيرانِ السَّبْعَةِ؛ وهي أُمُّ القُرْآنِ؛ الجامِعَةُ لِجَمِيعِ مَعانِي القُرْآنِ؛ الَّتِي أُمِرْنا بِإعادَتِها في كُلِّ رَكْعَةٍ؛ زِيادَةً في حِفْظِها؛ وتَبَرُّكًا بِلَفْظِها؛ وتَذَكُّرًا لِمَعانِيها؛ تَخْصِيصًا لَها عَنْ بَقِيَّةِ الذِّكْرِ؛ الَّذِي تَكَفَّلْنا بِحِفْظِهِ؛ ”و“؛ آتَيْناكَ ”القُرْآنَ العَظِيمَ“؛ الجامِعَ لِجَمِيعِ مَعانِي الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ؛ المُتَكَفِّلَةِ بِخَيْرَيِ الدّارَيْنِ؛ مَعَ زِياداتٍ لا تُحْصى؛ المُشارَ إلى عَظَمَتِهِ أوَّلَ السُّورَةِ بِالتَّنْوِينِ؛ ووَصْفِهِ بِأنَّهُ مُبِينٌ لِلْبَراهِينِ السّاطِعَةِ عَلى نَبُوَّتِكَ؛ والأدِلَّةِ القاطِعَةِ عَلى رِسالَتِكَ؛ الدّالَّةِ عَلى اللَّهِ؛ المُوَصِّلَةِ إلَيْهِ؛ والآيَةُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى العِلْمِ المُخْتَتَمِ بِهِ ما قَبْلَها؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا أعْمَلُ؟ (p-٨٨)فَقِيلَ - في مَعْنى ”ذَرْهم يَأْكُلُوا“ -: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهُمْ﴾؛ اكْتِفاءً بِهَذا البَلاغِ العَظِيمِ؛ الَّذِي مَن تَحَلّى بِهِ وأُشْرِبَهُ قَلْبُهُ أراهُ مَعايِبَ هَذِهِ الدّارِ؛ فَبَغَّضَهُ فِيها؛ وأشْرَفَ بِهِ عَلى ما أمامَهُ؛ ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ فَيُخَلِّصُوا أنْفُسَهم مِنَ النّارِ؛ ويَقْوى بِهِمْ جانِبُ الإسْلامِ؛ وكَأنَّ هَذا هو الصَّفْحُ المَأْمُورُ بِهِ؛ وهو الإعْراضُ عَنْهم أصْلًا ورَأْسًا؛ إلّا في أمْرِ البَلاغِ. ولَمّا أمَرَهُ في عِشْرَتِهِمْ بِما أمَرَ؛ أتْبَعَهُ أمْرَهُ بِعِشْرَةِ أصْحابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بِالرِّفْقِ؛ واللِّينِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿واخْفِضْ﴾؛ أيْ: طَأْطِئْ؛ ﴿جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أيْ: العَرِيقِينَ في هَذا الوَصْفِ؛ واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَهُمْ؛ واكْتَفِ بِهِمْ؛ فَإنَّ اللَّهَ جاعِلٌ فِيهِمُ البَرَكَةَ؛ وناصِرُكَ؛ ومُعِزُّ دِينِكَ بِهِمْ؛ وغَيْرُ مُحْوِجِكَ إلى غَيْرِهِمْ؛ فَمَن أرادَ شِقْوَتَهُ فَلا تَلْتَفِتْ إلَيْهِمْ؛ وهَذا كِنايَةٌ عَنِ اللِّينِ؛ وأصْلُهُ أنَّ الطّائِرَ إذا ضَمَّ الفَرْخَ إلَيْهِ بَسَطَ جَناحَهُ؛ ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَيْهِ؛ قالَهُ أبُو حَيّانَ؛ وفي الجُزْءِ العاشِرِ؛ مِنَ الثَّقَفِيّاتِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى (p-٨٩)آلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: ”المُؤْمِنُ لَيِّنٌ؛ حَتّى تَخالَهُ مِنَ اللِّينِ أحْمَقَ“».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب