الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ الرُّسُلُ بِما ذَكَرَهُ، تَوَقَّعَ السّامِعُ تَفْصِيلَ شَيْءٍ مِن أخْبارِهِمْ، فابْتَدَأ بِذِكْرٍ مِن كِتابِهِ أجَلُّ كِتابٍ بَعْدَ القُرْآنِ هُدًى لِلنّاسِ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ مِنَ الإضْلالِ والهِدايَةِ، وتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ، وتَثْبِيتًا وتَصْبِيرًا عَلى أذى قَوْمِهِ، وإرْشادًا إلى ما فِيهِ الصَّلاحُ في مُكالَمَتِهِمْ، فَقالَ مَصْدَرًا بِحَرْفِ التَّوَقُّعِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا﴾ أيْ بِعَظَمَتِنا ﴿مُوسى بِآياتِنا﴾ أيِ البَيِّناتِ؛ ثُمَّ فَسَّرَ الإرْسالَ بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ أيِ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةً عَلى مُغالَبَةِ الأُمُورِ (p-٣٨١)﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ أيْ أنْواعِ الجَهْلِ ﴿إلى النُّورِ﴾ بِتِلْكَ الآياتِ ﴿وذَكِّرْهُمْ﴾ أيْ تَذْكِيرًا عَظِيمًا ﴿بِأيّامِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الجَلالُ والإكْرامُ مِن وقائِعِهِ في الأُمَمِ السّالِفَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنحِ لِأوْلِيائِهِ والمِحَنِ لِأعْدائِهِ كَما أرْسَلْناكَ لِذَلِكَ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ التَّذْكِيرِ العَظِيمِ ﴿لآياتٍ﴾ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ وعَظَمَتِهِ ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ أيْ بَلِيغِ الصَّبْرِ بِبَلاءِ اللَّهِ، قالَ في العَوارِفِ: وقالَ أبُو الحَسَنِ بْنِ سالِمٍ: هم ثَلاثَةٌ: مُتَصَبِّرٌ، وصابِرٌ، [وصَبّارٌ]، فالمُتَصَبِّرُ مَن صَبَرَ في اللَّهِ، فَمَرَّةً يَصْبِرُ ومَرَّةً يَجْزَعُ، والصّابِرُ مَن يَصْبِرُ في اللَّهِ [ولِلَّهِ] ولا يَجْزَعُ ولَكِنْ يَتَوَقَّعُ مِنهُ الشَّكْوى، وقَدْ يُمَكِّنُ مِنهُ الجَزَعُ، فَأمّا الصَّبّارُ فَذَلِكَ الَّذِي صَبَّرَهُ اللَّهُ في اللَّهِ ولِلَّهِ وبِاللَّهِ، فَهَذا لَوْ وقَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ البَلايا لا يَجْزَعُ ولا يَتَغَيَّرُ مِن جِهَةِ الوُجُوبِ والحَقِيقَةِ، لا مِن جِهَةِ الرَّسْمِ (p-٣٨٢)والخَلِيقَةِ، وإشارَتُهُ في هَذا ظُهُورُ حُكْمِ العِلْمِ فِيهِ مَعَ ظُهُورِ صِفَةِ الطَّبِيعَةِ. ﴿شَكُورٍ﴾ أيْ عَظِيمِ الشُّكْرِ لِنَعْمائِهِ، فَإنَّ أيّامَهُ عِنْدَ أوْلِيائِهِ لا تَخْلُو مِن نِعْمَةٍ أوْ نِقْمَةٍ، وفي صِيغَةِ المُبالَغَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ عادَتَهُ تَعالى جَرَتْ بِأنَّهُ إنَّما يَنْصُرُ أوْلِياءَهُ بَعْدَ طُولِ الِامْتِحانِ بِعَظِيمِ البَلاءِ لِيَتَبَيَّنَ الصّادِقُ مِنَ الكاذِبِ ﴿حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٤] ﴿حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ [يوسف: ١١٠] ﴿الم﴾ [العنكبوت: ١] ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا﴾ [العنكبوت: ٢] وذَلِكَ أنَّهُ لا شَيْءَ أشَقُّ عَلى النُّفُوسِ مِن مُفارَقَةِ المَأْلُوفِ لا سِيَّما إنْ كانَ دَيْنًا ولا سِيَّما إنْ كانَ [قَدْ] دَرَجَ عَلَيْهِ [الأسْلافُ]، فَلا يَقُومُ بِالدُّعاءِ إلى الدِّينِ إلّا مَن بَلَغَ الذُّرْوَةَ في الصَّبْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب