الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ قِطَعًا بِما أقامَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِما أوْدَعَهُ مِنَ الغَرائِبِ في مَلَكُوتِهِ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلَيْها سِواهُ أنَّ هَذا إنَّما هو فِعْلٌ واحِدٌ قَهّارٌ مُخْتارٌ يُوجِدُ المَعْدُومَ ويُفاوِتُ بَيْنَ ما تَقْتَضِي الطَّبائِعُ اتِّحادَهُ، كانَ إنْكارُ شَيْءٍ مِن قُدْرَتِهِ عَجَبًا، فَقالَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الرعد: ١] مُشِيرًا إلى أنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ الوَعْدَ بِالبَعْثِ سِحْرٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ ﴿وإنْ تَعْجَبْ﴾ أيْ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ أوْ ساعَةً مِنَ الدَّهْرِ فاعْجَبْ مِن (p-٢٨٢)إنْكارِهِمُ البَعْثَ ﴿فَعَجَبٌ﴾ عَظِيمٌ لا تَتَناهى دَرَجاتُهُ في العِظَمِ ﴿قَوْلُهُمْ﴾ بَعْدَ ما رَأوْا مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ والدَّلالاتِ النّاطِقَةِ بِعَظِيمِ القُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُنْكِرِينَ: ﴿أإذا كُنّا تُرابًا﴾ واخْتَلَطَ التُّرابُ الَّذِي تُحَوِّلْنا إلَيْهِ بِالتُّرابِ الأصْلِيِّ فَصارَ لا يَتَمَيَّزُ، ثُمَّ كَرَّرُوا التَّعَجُّبَ والإنْكارَ بِالِاسْتِفْهامِ ثانِيًا فَقالُوا: ﴿أإنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ هَذا قَوْلُهم بَعْدَ أنْ فَصَّلْنا مِنَ الآياتِ ما يُوجِبُ أنَّهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُوقِنُونَ، وهَذا الِاسْتِفْهامُ الثّانِي مُفَسِّرٌ لِما نُصِبَ الأوَّلُ بِما فِيهِ مِن مَعْنًى ”أنْبَعَثَ“، والعَجَبُ: تَغَيُّرُ النَّفْسِ بِما خَفِيَ سَبَبُهُ عَنِ العادَةِ، والجَدِيدُ: المُهَيّا بِالقَطْعِ إلى التَّكْوِينِ قَبْلَ التَّصْرِيفِ في الأعْمالِ، وأصْلُ الصِّفَةِ القَطْعُ؛ قالَ الرُّمّانِيُّ: وقَدْ قِيلَ: لا خَيْرَ فِيمَن لا يَتَعَجَّبُ مِنَ العَجَبِ، وأرْذَلُ مِنهُ مَن يَتَعَجَّبُ مِن غَيْرِ عَجَبٍ - انْتَهى، يَعْنِي: فالكُفّارُ تَعَجَّبُوا مِن غَيْرِ عَجَبٍ: ومَن تَعَجَّبَهم فَقَدْ تَعَجَّبَ مِنَ العَجَبِ. ولَمّا كانَ هَذا إنْكارُ المَحْسُوسِ مِنَ القُدْرَةِ، اسْتَحَقُّوا ما يَسْتَحِقُّ مَن يَطْعَنُ في مَلِكِ المُلْكِ، فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ الَّذِينَ جَمَعُوا أنْواعًا مِنَ البُعْدِ مَعَ كُلِّ خَيْرٍ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ أيْ غَطُّوا كُلَّ ما يَجِبُ (p-٢٨٣)إظْهارُهُ بِسَبَبِ الِاسْتِهانَةِ بِالَّذِي بَدَأ خَلْقَهم ثُمَّ رَبّاهم بِأنْواعِ اللُّطْفِ، فَإذا أنْكَرُوا مَعادَهم فَقَدْ أنْكَرُوا مَبْدَأهم ﴿وأُولَئِكَ﴾ [أيِ] البُعَداءُ البَغْضاءُ ﴿الأغْلالُ﴾ أيِ الحَدائِدِ الَّتِي تَجْمَعُ أيْدِي الأسْرى إلى أعْناقِهِمْ، ويُقالُ لَها: جَوامِعُ، وتارَةً تَكُونُ في الأعْناقِ فَقَطْ يُعَذَّبُ بِها النّاسُ؛ ولَمّا كانَ طَرَفا العُنُقِ غَلِيظَيْنِ، فَلا تَكُونُ إحاطَةُ الجامِعَةِ مِنها إذا كانَتْ ضَيِّقَةً إلّا بِالوَسَطِ، جَعَلَ الأعْناقَ ظُرُوفًا بِاعْتِبارِ أنَّها عَلى بَعْضٍ مِنها، وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ ضِيقِها، فَقالَ: ﴿فِي أعْناقِهِمْ﴾ أيْ بِكُفْرِهِمْ وإنْ لَمْ تَكُنِ الأغْلالُ مُشاهَدَةً الآنَ، فَهي لِقُدْرَةِ المُهَدَّدِ بِها عَلى الفِعْلِ كَأنَّها مَوْجُودَةٌ، وهم مُنْقادُونَ لِما قَدَرَ عَلَيْهِمْ مِن أسْبابِها كَما يُقادُ المَغْلُولُ بِها إلى ما يُرِيدُ قائِدُهُ، والغِلُّ: طَوْقٌ تُقَيَّدُ بِهِ اليَدُ في العُنُقِ، وأصْلُهُ: انْغَلَّ في الشَّيْءِ - إذا انْتَشَبَ فِيهِ، وغَلَّ المالُ - إذا خانَ بِانْتِشابِهِ في [المالِ] الحَرامِ ﴿وأُولَئِكَ﴾ أيِ الَّذِينَ لا خَسارَةَ أعْظَمُ مِن خَسارَتِهِمْ ﴿أصْحابُ النّارِ﴾ ولَمّا كانَتِ الصُّحْبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ، صَرَّحَ بِها فَقالَ: ”هُمْ“ أيْ خاصَّةً ﴿فِيها﴾ أيْ مُتَمَحِّضَةً لا يَخْلِطُها نَعِيمٌ ﴿خالِدُونَ﴾ أيْ ثابِتٌ خُلُودُهم دائِمًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب