الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن مَراتِبِ الإعْجازِ ما بَيَّنَتْ، أتْبَعَ تَعالى ذِكْرَ ما أنْزَلَ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ﴾ أيْ ومِثْلَ هَذا الإنْزالِ، البَدِيعُ المِثالِ، البَعِيدُ المَنالِ؛ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى ﴿كَذَلِكَ أرْسَلْناكَ﴾ [الرعد: ٣٠] أوْ مِثْلَ إنْزالِ كُتُبِ أهْلِ الكِتابِ ﴿أنْـزَلْناهُ﴾ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ حالَ كَوْنِهِ ﴿حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ أيْ مُمْتَلِئًا حِكْمَةً تَقْضِي بِالحَقِّ، فائِقًا لِجَمِيعِ الكُتُبِ بِهَذا الوَصْفِ؛ والحُكْمُ: القَطْعُ بِالمَعْنى عَلى ما تَدْعُو إلَيْهِ الحِكْمَةُ، وهو أيْضًا فَصْلُ الأمْرِ عَلى الحَقِّ؛ فالمَعْنى أنَّهُ لا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى نَقْضِ شَيْءٍ مِنهُ، فَإنَّ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ هو الحُكْمُ، وما لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ، والعَرَبِيُّ: الجارِي عَلى مَذاهِبِ العَرَبِ في كَلامِها، فَلا تَلْتَفِتُ إلى ما تَدْعُوهم إلَيْهِ أهَوِيَتُهم فَيَقْتَرِحُونَهُ مِن تَأْيِيدِكَ بِمُلْكٍ أوْ إتْحافِكَ بِكَنْزٍ أوْ تَرْكِكَ لِبَعْضِ ما يُوحى إلَيْكَ مِن سَبْبِ آلِهَتِهِمْ وتَسْفِيهِ أحْلامِهِمْ (p-٣٥٨)وتَضْلِيلِ آبائِهِمْ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن طَلَباتِهِمُ الَّتِي لَوْ أتَيْتُهم بِها لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ - هَذا في عُبّادِ الأوْثانِ، وكَذا في أهْلِ الكِتابِ فِيما يَدْعُونَ إلَيْهِ مِنَ العُودِ إلى قِبْلَتِهِمْ ونَحْوَهُ ﴿ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ﴾ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ مِنَ النَّسْخِ أوْ غَيْرِهِ في القِبْلَةِ أوْ غَيْرِها ولا سِيَّما مِمّا يَطْلُبُونَهُ مِنَ الآياتِ المُقْتَرَحَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وما أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهم وما بَعْضُهم بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٥] الآيَةُ. ولَمّا كانَ المُرادُ التَّعْمِيمَ في الزَّمانِ، نَزَعَ الجارَّ، وأتى بِـ ”ما“ لِأنَّها أعَمُّ مِنَ ”الَّذِي“ وأشَدُّ إبْهامًا، فَهي الخَفِيُّ مَعْنًى، فَناسَبَ سِياقَ الوَحْيِ الَّذِي هو غَيْبٌ، ومَعْناهُ غامِضٌ - إلّا لِبَعْضِ الأفْرادِ - في الأغْبِياءِ بِخِلافِ آيَةِ البَقَرَةِ الأوْلى فَإنَّها في المِلَّةِ الإبْراهِيمِيَّةِ المُدْرَكَةِ بِنُورِ العَقْلِ النّاشِئِ عَنْ نَظَرِ المَحْسُوساتِ فَقالَ: ﴿بَعْدَما جاءَكَ﴾ ولَمّا كانَ قَدْ أنْعَمَ عَلَيْهِ ﷺ بِأشْياءَ غَيْرِ العِلْمِ، بَيْنَ المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ العِلْمِ﴾ أيْ بِالوَحْيِ بِأنَّ ذَلِكَ الِاتِّباعَ لا يَرُدُّهم سَواءٌ كانَ [ذَلِكَ] الِاتِّباعِ في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أوْ فُرُوعِها خَفِيَّةً كانَتْ أوْ جَلِيَّةً. (p-٣٥٩)ولَمّا كانَ المَشْرُوطُ اسْتِغْراقَ جَمِيعِ زَمانِ البُعْدِ بِاتِّباعِ الأهْواءِ، قالَ: ﴿ما لَكَ﴾ حِينَئِذٍ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْلى وأعْرَقَ في النَّفْيِ فَقالَ: ﴿مِن ولِيٍّ﴾ أيْ ناصِرٍ يَتَوَلّى [مَن] نَصَرَكَ وجَمِيعُ أمْرِكَ ما يَتَوَلّاهُ القَرِيبُ مَعَ قَرِيبِهِ. ولَمّا كانَ مَدْلُولُ ”ما“ أعَمُّ مِن مَدْلُولِ ”الَّذِي“ لِشُمُولِها الظّاهِرَ والخَفِيَّ، وكانَ مَن خالَفَ الخَفِيَّ أعْذَرَ مِمَّنْ خالَفَ الظّاهِرَ، نَفى الأخَصَّ مِنَ النَّصِيرِ فَقالَ: ﴿ولا واقٍ﴾ أيْ يَقِيكَ بِنَفْسِهِ فَيَجْعَلُها دُونَ نَفْسِكَ، وقَدْ يُوجَدُ مِنَ الأنْصارِ مَن لا يَسْمَعُ بِذَلِكَ، وهَذا بَعْثٌ لِلْأُمَّةِ وتَهْيِيجٌ عَلى الثَّباتِ في الدِّينِ والتَّصَلُّبِ فِيهِ، والهَوى - مَقْصُورًا: مَيْلُ الطِّباعِ إلى الشَّيْءِ بِالشَّهْوَةِ، والعِلْمُ: تَبِينُ الشَّيْءِ عَلى ما هو بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب