الباحث القرآني

فَلَمّا تَبَيَّنَ قَطْعًا أنَّهُ سُبْحانَهُ المُدَبِّرُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ القاهِرُ لِمَن (p-٣١١)فِيهِما، وتَبَيَّنَ قَطْعًا أنَّهُ المُخْتَصُّ بِرُبُوبِيَّتِهِما فَأمْرُهُ تَعالى أنْ يُوَجِّهَ السُّؤالَ نَحْوَهم عَنْ ذَلِكَ - رَدًّا عَلى عَبَدَةِ الأصْنامِ وغَيْرِهِمْ مِنَ المُلْحِدِينَ - بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ﴾ أيْ بَعْدَ أنْ أقَمْتَ هَذِهِ الأدِلَّةَ القاطِعَةَ، مُقَرِّرًا لَهم ﴿مَن رَبُّ﴾ أيْ مُوجِدٍ ومُدَبِّرٍ ﴿السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ وكُلُّ ما فِيهِما. ولَمّا مَضى في غَيْرِ [آيَةٍ] أنَّهم مُعْتَرِفُونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُقِرُّونَ بِخَلْقِهِ ورِزْقِهِ ثُمَّ لَمَّ يَزَعْهم ذَلِكَ عَنِ الإشْراكِ، جَعَلُوا هُنا كَأنَّهم مُنْكِرُونَ لِذَلِكَ عِنادًا، فَلَمْ يَنْتَظِرْ جَوابَهم بَلْ أمَرَهُ أنْ يُجِيبَهم بِما يُجِيبُونَ بِهِ، إشارَةً إلى أنَّهم لا يَتَحاشَوْنَ مِنَ التَّناقُضِ في اتِّباعِ الهَوى ولا تَصُونُهم عُقُولُهُمُ الجَلِيلَةُ وآراؤُهُمُ الأصْلِيَّةُ - بِزَعْمِهِمْ - عَنِ التَّساقُطِ في مُهاوِي الرَّدى، فَقالَ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ، فَثَبَتَ حِينَئِذٍ أنْ لا ولِيَّ إلّا هُوَ، فَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ تُوَجُّهُ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ في اعْتِمادِ غَيْرِهِ، فَأمَرَهُ بِالإنْكارِ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أفاتَّخَذْتُمْ﴾ أيْ فَتَسَبَّبْتُمْ عَنِ انْفِرادِهِ بِرُبُوبِيَّتِكم أنْ أوْجَدْتُمُ الأخْذَ بِغايَةِ الرَّغْبَةِ، فَتَسَبَّبْتُمُ الإشْراكَ عَمّا يَجِبُ أنْ يَكُونَ سَبَبَ التَّوْحِيدِ، وبَيْنَ سُفُولِ رُتْبَتِهِمْ (p-٣١٢)بِقَوْلِهِ: ﴿مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ لا يُساوُونَكم في التَّسَبُّبِ في الضُّرِّ والنَّفْعِ، بَلْ ﴿لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ﴾ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ ”نَفْعًا“ ونَكَّرَهُ لِيَعُمَّ، وقَدَّمَهُ لِأنَّ السِّياقَ لِطَلَبِهِمْ مِنهُمْ، والإنْسانُ إنَّما يَطْلُبُ ما يَنْفَعُهُ. ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ [لا قُدْرَةَ] لِأحَدٍ عَلى أنْ يُؤَثِّرَ في [آخِرِهِ] أثَرًا لا يَقْدِرُ عَلى مِثْلِهِ في نَفْسِهِ قالَ: ﴿ولا ضَرًّا﴾ فَثَبَتَ أنَّ مَن سَوّاهم بِاللَّهِ أضَلَّ الضّالِّينَ، لِأنَّهُ يَلْزُمُهُ أنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ المُتَضادّاتِ، فَكانَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي﴾ والِاسْتِواءُ: اسْتِمْرارُ الشَّيْءِ في جِهَةٍ واحِدَةٍ ﴿الأعْمى﴾ في عَيْنِهِ أوْ في قَلْبِهِ ﴿والبَصِيرُ﴾ كَذَلِكَ ﴿أمْ هَلْ تَسْتَوِي﴾ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ﴿الظُّلُماتُ والنُّورُ﴾ هَلْ أدَّتْهم عُقُولُهم إلى أنْ سَوَّوْا بَيْنَ هَذِهِ المُتَضادّاتِ الشَّدِيدَةِ الظُّهُورِ لِغَباوَةٍ أوْ عِنادٍ حَتّى سَوَّوْا مَن يَخْلُقُ بِمَن لا يَخْلُقُ، فَجَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا كَذَلِكَ لِغَباوَةٍ أوْ عِنادٍ ﴿أمْ جَعَلُوا لِلَّهِ﴾ أيِ [ الَّذِي - ] لَهُ مَجامِعُ العَظَمَةِ (p-٣١٣)﴿شُرَكاءَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ بِهِ الشَّرِكَةَ، فَقالَ واصِفًا لَهُمْ: ﴿خَلَقُوا كَخَلْقِهِ﴾ وسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فَتَشابَهَ﴾ والتَّشابُهُ: التَّشاكُلُ بِما يَلْتَبِسُ حَتّى لا يَفْصِلَ فِيهِ بَيْنَ [أحَدٍ] الشَّيْئَيْنِ والآخِرُ ﴿الخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ فَكانَ ذَلِكَ الخُلُقُ الَّذِي خَلَقَهُ الشُّرَكاءُ سَبَبُ عُرُوضِ شُبْهَةٍ لَهُمْ، وساقَ ذَلِكَ في أُسْلُوبِ الغَيْبَةِ إعْلامًا بِأنَّهم أهْلُ لِلْإعْراضِ عَنْهُمْ، لِكَوْنِهِمْ في عِدادِ البَهائِمِ لِقَوْلِهِمْ ما لا يَعْقِلُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وهَذا قَرِيبٌ مِمّا يَأْتِي قَرِيبًا في قَوْلِهِ: ﴿أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ﴾ [الرعد: ٣٣] أيْ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ فِيها نَوْعُ ظُهُورٍ لِبَعْضِ الأذْهانِ. ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ قَطْعًا أنَّ جَوابَهم أنَّ الخَلْقَ كُلَّهُ لِلَّهِ. ولَمْ يَمْنَعْهم ذَلِكَ مِن تَألُّهِ سِواهُ، أمَرَهُ أنْ يُجِيبَهم مُعْرِضًا عَنْ جَوابِهِمْ فَقالَ ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْلى ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ إشارَةً إلى أنَّهم في أحْوالِهِمْ كالمُنْكِرِ لِذَلِكَ عِنادًا أوْ خَرْقًا لِسِياجِ الحَياءِ وهَتْكًا لِجِلْبابِ الصِّيانَةِ، وإذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّهُ المُنْفَرِدُ بِالخَلْقِ وجَبَ أنْ يُفْرِدَ بِالتَّألُّهِ فَقالَ: ﴿وهُوَ الواحِدُ﴾ الَّذِي لا يُجانِسُهُ شَيْءٌ، وكُلُّ ما (p-٣١٤)سِواهُ لا يَخْلُو عَنْ مُجانِسٍ يُماثِلُهُ، وأيْنَ رُتْبَةُ مَن يُماثِلُ مِن رُتْبَةِ مَن لا مِثْلَ لَهُ ﴿القَهّارُ﴾ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ بِأنْفُسِهِمْ وظِلالِهِمْ، وهو القادِرُ بِما لا يُمْكِنُ أنْ يَغْلِبَهُ غالِبٌ وهو لِكُلِّ شَيْءٍ غالِبٌ، وهَذا إشارَةٌ - كَما مَضى في مِثْلِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ في سُورَةِ [ يُوسُفَ ] وغَيْرِها - إلى بُرْهانِ التَّمانُعِ، فَإنَّ أرْبابَهم مُتَعَدِّدُونَ، فَلَوْ كانَتْ لَهم حَياةٌ وكانُوا مُتَصَرِّفِينَ في المُلْكِ لَأمْكَنَ بَيْنَهم تَمانُعٌ وكانَ [كُلٌّ] مِنهم مُعْرِضًا لِأنْ يَكُونَ مَقْهُورًا، فَكَيْفَ وهم جَمادٌ! فَثَبَتَ قَطْعًا أنَّهُ لا شَيْءَ [مِنهُمْ] يَصْلُحُ لِلْإلَهِيَّةِ عَلى تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقادِيرِ؛ قالَ الرُّمّانِيُّ: والواحِدُ عَلى وجْهَيْنِ: شَيْءٌ] لا يَنْقَسِمُ أصْلًا، وشَيْءٌ لا يَنْقَسِمُ في مَعْنى كالدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب