الباحث القرآني

فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ قَدْ قَرَّبَ لَهُمُ الكَشْفَ عَنْ أمْرِهِ، لِأنَّهُ لا يَسْتَفْهِمُ مَلِكٌ مِثْلُهُ - لَمْ يَنْشَأْ بَيْنَهم ولا تَتْبَّعَ أحْوالَهم ولَيْسَ مِنهم - هَذا الِاسْتِفْهامُ ولا سِيَّما وقَدْ رَوى أنَّهُ لَمّا قالَ هَذا تَبَسَّمَ، وكانَ في تَبَسُّمِهِ أمْرٌ مِنَ الحُسْنِ لا يَجْهَلُهُ مَعَهُ مَن رَآهُ ولَوْ مَرَّةً واحِدَةً، فَهَلْ عَرَفُوهُ؟ فَقِيلَ: ظَنُّوهُ ظَنًّا غالِبًا، ولِذَلِكَ ﴿قالُوا﴾ مُسْتَفْهِمِينَ ﴿أإنَّكَ﴾ وأكَّدُوا بِقَوْلِهِمْ: ﴿لأنْتَ يُوسُفُ﴾ ولَمّا كانَ المُتَوَقَّعُ مِن مِثْلِهِ فِيما هو فِيهِ مِنَ العَظَمَةِ أنْ يُجازِيَهم عَلى سُوءِ صَنِيعِهِمْ إلَيْهِ، اسْتَأْنَفَ بَيانَ كَرَمِهِ فَقالَ: ﴿قالَ أنا يُوسُفُ﴾ وزادَهم قَوْلَهُ: ﴿وهَذا أخِي﴾ أيْ بِنْيامِينَ شَقِيقِي لِذِكْرِهِ لَهم في قَوْلِهِ ﴿وأخِيهِ﴾ [يوسف: ٨٩] ولِيَزِيدَهم ذَلِكَ مَعْرِفَةً لَهُ، وثْبَتَها في أمْرِهِ بِتَصْدِيقِهِ لَهُ مَعَ (p-٢٠٧)مُكْثِهِ عِنْدَهُ مُدَّةَ ذَهابِهِمْ وإيابِهِمْ، ولِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الجَلالُ والإكْرامُ ﴿عَلَيْنا﴾ بِأنْ جَمَعَ بَيْنِنا عَلى خَيْرٍ حالَ تَكُونُ؛ ثُمَّ تَعْلِيلِيَّةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ وهو مَجْزُومٌ لِأنَّهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، وأثْبَتَ قَنْبَلٌ - بِخِلافِهِ عَنْهُ - ياءَهُ في الحالَيْنِ مُعامِلًا لَهُ مُعامَلَةً الصَّحِيحِ إشارَةً إلى وصْفِ التَّقْوى بِالصِّحَّةِ الكامِلَةِ والمُكْنَةِ الزّائِدَةِ والمُلازِمَةِ لَها في كُلِّ حالٍ ﴿ويَصْبِرْ﴾ أيْ يُوفِهِ اللَّهُ أجَرَهُ لِإحْسانِهِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِأوْصافِ الكَمالِ ﴿لا يُضِيعُ﴾ أيْ أدْنى إضاعَةً - أجْرَهُ، هَكَذا كانَ الأصْلُ، ولَكِنَّهُ عَبَّرَ بِما يَعْرِفُ أنَّ التَّقْوى والصَّبْرَ مِنَ الإحْسانِ، فَقالَ: ﴿أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ والتَّقْوى: دَفْعُ البَلاءِ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الهُدى؛ والصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ بِتَجَرُّعِ مَرارَةِ المَنعِ عَمّا يَشْتَهِي، ولَعَلَّهُ إنَّما سَتَرَ أمْرَهُ عَنْهم إلى هَذا الحَدِّ لِأنَّهُ لَوْ أرْسَلَ إلى أبِيهِ يُخْبِرُهُ قَبْلَ المَلِكِ لَمْ يَأْمَن كَيْدَ إخْوَتِهِ، ولَوْ تَعَرَّفَ إلَيْهِمْ بَعْدَهُ أوْ أوَّلَ (p-٢٠٨)ما رَآهم لَمْ يَأْمَن مِن أنْ تَقْطَعَ أفْئِدَتُهم عِنْدَ مُفاجَأتِهِمْ بِانْكِشافِ الأمْرِ وهو فِيما هو [فِيهِ] مِنَ العِزِّ، فَإنَّهم فَعَلُوا بِهِ فِعْلَ القاتِلِ مِن غَيْرِ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ إلَيْهِمْ، فَهم لا يَشُكُّونَ في أنَّهُ إذا قَدَرَ عَلَيْهِمْ يُهْلِكُهم لِما تَقَدَّمَ لَهم إلَيْهِ مِن سُوءِ الصَّنِيعَةِ، وعَلى تَقْدِيرِ سَلامَتِهِمْ لا يَأْمَنُونَهُ وإنَّ بالِغَ في إكْرامِهِمْ، فَإنَّ الأُمُورَ العِظامَ - إنْ لَمْ تَكُنْ بِالتَّدْرِيجِ - عَظُمَ خَطَرُها، وتَعَدّى ضَرَرُها، فَإنْ أرْسَلَهم لِيَأْتُوا بِأبِيهِمْ خِيفَ أنْ يَخْتَلُوا أباهُما مِن مَلِكِ مِصْرَ ويُحْسِنُوا لَهُ الإبْعادَ عَنْ بِلادِهِ، فَيَذْهَبُوا إلى حَيْثُ لا يَعْلَمُهُ، وإنْ أرْسَلَ مَعَهم ثِقاتٍ مِن عِنْدِهِ لَمْ يُؤْمَن أنْ يَكُونَ بَيْنَهم شَرٌّ، وإنْ سَجَنَهم وأرْسَلَ إلى أبِيهِ مَن يَأْتِي بِهِ لَمْ يَحْسُنْ مَوْقِعُ ذَلِكَ مِن أبِيهِ، ويَحْصُلْ لَهُ وحْشَةٌ بِحَبْسِ أوْلادِهِ، وتَعْظُمُ القالَةُ بَيْنَ النّاسِ مِن أهْلِ مِصْرَ وغَيْرِهِمْ في ذَلِكَ، فَفَعَلَ مَعَهم ما تَقَدَّمَ لِيَظْهَرَ لَهم إحْسانُهُ وعَدْلُهُ ودِينُهُ وخَيْرُهُ، وكَفُّهُ عَنْهم وعَفْوُهُ عَنْ فِعْلِهِمْ بِالتَّدْرِيجِ، ويَقِفُوا عَلى ذَلِكَ مِنهُ قَوْلًا وفِعْلًا مِن أخِيهِ الَّذِي رَبّى مَعَهم وهم بِهِ آنِسُونَ ولَهُ ألِفُونِ، فَتَسْكُنُ رَوْعَتُهُمْ، وتَهُونُ زَلَّتُهُمْ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَمّا انْتَفى عَنْ أخِيهِ بِنْيامِينَ ما اتَّصَفُوا بِهِ مِمّا ذَكَرَ، تَعَرَّفَ إلَيْهِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ ونَهاهُ أنْ يُخْبِرَهم بِحَقِيقَةِ الأمْرِ، وشَرَعَ يَمُدُّ في ذَلِكَ لِتَسْتَحْكِمَ الأسْبابُ الَّتِي (p-٢٠٩)أرادَها، فَلَمّا ظَنَّ أنَّ الأمْرَ قَدْ بَلَغَ مَداهُ، لَوَّحَ لَهم فَعَرَفُوهُ وقَدْ أنْسَهم حُسْنَ عَقْلِهِ وبَدِيعَ جِمالِهِ وشَكْلِهِ ورائِعَ قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، فَكانَ مَوْضِعَ الوَجَلِ والخَجَلِ، ومَوْضِعَ اليَأْسِ الرَّجاءُ، فَحَصَلَ المُرادُ عَلى وفْقِ السَّدادِ - واللَّهُ المُوَفِّقُ؛ وذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِمَن قِيلَ لَهم أوَّلُ السُّورَةِ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢] عَلى الِاقْتِداءِ بِأفْعالِ الهُداةِ المَهْدِيِّينَ في التَّأنِّي والِاتِّئادِ وتَفْوِيضِ الأُمُورِ إلى الحَكِيمِ، وأنْ لا يَسْتَعْجِلُوهُ في أمْرٍ، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّ سُنَّتَهُ الإلَهِيَّةَ جَرَتْ بِأنَّ الأُمُورَ الصِّعابَ لا تُنَفَّذُ إلّا بِالمُطاوَلَةِ لِتُرَتِّبَ الأسْبابَ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلى وجْهِ الإحْكامِ، وفي ذَلِكَ فَوائِدُ مِن أجْلِها امْتِحانُ أُولى الطّاعَةِ والعِصْيانِ - كَما سَتَأْتِي الإشارَةُ إلَيْهِ آخِرَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ؛ ﴿حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ [يوسف: ١١٠] الآيَةُ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب