الباحث القرآني

ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ صَدَقَ يَعْقُوبَ فِيما قالَ، مُؤَكِّدًا لِما أشارَ إلى اعْتِقادِهِ، فَقالَ: ﴿ولَمّا﴾ وعَطْفُهُ بِالواوِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم ما أسْرَعُوا الكَرَّةَ في هَذِهِ المَرَّةِ خَوْفًا مِن أنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَمْ يَفْرَغْ ما عِنْدَكم حَتّى تَضْطَرُّوا إلى الِاسْتِبْدالِ بِهِ، والزَّمانُ زَمانُ رِفْقٍ، لا زَمانُ تَبَسُّطٍ ﴿دَخَلُوا﴾ أيْ أُخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلى مِصْرَ ﴿مِن حَيْثُ أمَرَهُمْ﴾ أيْ بِهِ ﴿أبُوهُمْ﴾ مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، قالُوا: وكانَ لِمِصْرَ أرْبَعَةُ أبْوابٍ ﴿ما كانَ﴾ ذَلِكَ الدُّخُولُ ”يُغْنِي“ أيْ يَدْفَعَ ويَجْزِي ﴿عَنْهم مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْلى الَّذِي لا رادَّ لِأمْرِهِ، وأعْرَقَ في النَّفْيِ فَقالَ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ كَما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ”إلّا حاجَةً“ أيْ شَيْئًا غَيْرَ أتَمِّ حاجَةٍ ﴿فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ﴾ وهو الدُّخُولُ عَلى ما أمَرَ بِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ”قَضاها“ يَعْقُوبُ، وأبْرَزَها مِن نَفْسِهِ إلى أوْلادِهِ، فَعَمِلُوا فِيها بِمُرادِهِ فَأغْنى عَنْهم ذَلِكَ الإخْلاصُ مِن عُقُوقِ أبِيهِمْ فَقَطْ، [فَإنَّهُمُ ابْتُلُوا في هَذِهِ السُّفْرَةِ بِأمْرٍ عَظِيمٍ لَمْ يَجِدُوا مِنهُ خَلاصًا، وهو نَسَبُهم إلى السَّرِقَةِ، وأسْرُ أخِيهِمْ مِنهُمْ]، قالَ أبُو حَيّانَ: وفِيهِ حُجَّةٌ لِمَن زَعَمَ أنَّ ”لَمّا“ حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، لا ظَرْفَ زَمانٍ بِمَعْنى ”حِينَ“، إذًا (p-١٦٣)لَوْ كانَ ظَرْفَ زَمانٍ ما جازَ أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِما ”بَعْدَ“ ما النّافِيَةِ - انْتَهى. ولَمّا كانَ ذَلِكَ رُبَّما أوْهَمَ أنَّهُ لا فائِدَةَ في الِاحْتِياطِ، أشارَ تَعالى إلى رَدِّهِ بِمَدْحِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حَثًّا عَلى الِاقْتِداءِ بِهِ في التَّسَبُّبِ مَعَ اعْتِقادِهِ أنَّ الأمْرَ بِيَدِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿وإنَّهُ﴾ أيْ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ [مَعَ] أمْرِهِ لِبَنِيهِ بِذَلِكَ ﴿لَذُو عِلْمٍ﴾ أيْ مَعْرِفَةٍ بِالحُكْمَيْنِ: حُكْمُ التَّكْلِيفِ، وحُكْمُ التَّقْدِيرِ، واطِّلاعٌ عَلى الكَوْنَيْنِ عَظِيمٌ ”لِما“ أيْ لِلَّذِي ﴿عَلَّمْناهُ﴾ إيّاهُ مِن أُصُولِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لَذُو عِلْمٍ لِأجْلِ تَعْلِيمِنا أيّاهُ. فاقْتَدَوْا بِهِ في الِاحْتِياطِ في تَعاطِي الأسْبابِ، مَعَ اعْتِقادِ أنَّهُ لا أثَرَ لَها إلّا أنْ أمْضاها الواحِدُ القَهّارُ، فَبِهَذا التَّقْدِيرِ يَتَبَيَّنُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ، وفائِدَةُ إبْرازِهِ - في صُورَةِ الِاسْتِثْناءِ عِنْدَ مَن جَعَلَهُ مُنْقَطِعًا - الإشارَةُ إلى تَعْظِيمِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّهُ جَدِيرٌ بِأنْ يَكُونَ ما يَأْمُرُ بِهِ مُغْنِيًا، لِأنَّهُ مِن أمْرِ اللَّهِ، فَلَوْ كانَ كُلُّ شَيْءٍ يُغْنِي مِن قَدَرِ اللَّهِ لَأغْنى ما أشارَ بِهِ، وإنَّما فُسِّرَتْ ”يُغْنِي“ بِـ ”يَدْفَعُ“ لِأنَّ مادَّةَ ”غَنِيَ“ - بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ - تَدُورُ عَلى الإقامَةِ، فَيَكُونُ أغْنى لِلسَّلْبِ، وهو مَعْنى لِلدَّفْعِ، بَيانُهُ أنَّ غِنًى بِمَعْنى أقامَ، وعاشَ، ولَقِيَ، ومَغْنى الدّارِ: مَوْضِعُ الحُلُولِ، ويَلْزَمُ مِنَ الإقامَةِ الكِفايَةُ والتَّمَوُّلُ، (p-١٦٤)لِأنَّ الفَقِيرَ مُنْزَعِجٌ مُضْطَرِبٌ، والغَنِيُّ - كَإلى: التَّزَوُّجُ، وإذا فَتَحَ مَدَّ، والِاسْمُ الغَنِيَّةُ - بِالضَّمِّ، وذَلِكَ لِأنَّ التَّزَوُّجَ لازِمُ الإقامَةِ، والغانِيَةُ: المَرْأةُ تُطْلَبُ ولا تَطْلُبُ، أوِ الغَنِيَّةُ بِحُسْنِها عَنِ الزِّينَةِ، أوِ الشّابَّةِ المُتَزَوِّجَةِ، أوِ الشّابَّةِ العَفِيفَةِ ذاتِ زَوْجٍ كانَتْ أمْ لا، ومِثْلُها يَلْزَمُ المَنزِلَ ويَقْصُرُ في الخِيامِ، وأغْنى عَنْهُ غِناءَ فُلانٍ: نابَ عَنْهُ مَنابَهُ وأجْزَأ مَجْزَأهُ، وحَقِيقَتُهُ جَعَلَ إقامَةَ كَذا مُتَجاوِزَةً عَنْهُ، فالمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، فَإذا قالَ مَثَلًا: فُلانٌ أغْنى عَنِّي في الحَرْبِ، كانَ المَعْنى: أغْنى عَنِّي ضَرْبَ الأبْطالِ أوْ شِدَّةَ الحَرْبِ، [أيْ] أزالَ إقامَةَ ذَلِكَ عَنِّي فَجَعَلَهُ مُتَجاوِزًا، ولا شَكَّ أنَّ مَعْنى ذَلِكَ: دَفْعُهُ عَنِّي، وكَذا كُلُّ ما كانَ مِن ذَلِكَ، وما فِيهِ غِناءُ ذاكَ، أيْ إقامَتُهُ والِاضْطِلاعُ بِهِ، ويَلْزَمُ أيْضًا - مِنَ الإقامَةِ الَّتِي هي المَدارُ والكِفايَةُ الَّتِي هي سَبَبُها - الغِناءُ - بِالكَسْرِ والمَدِّ، وهو التَّطْرِيبُ بِالصَّوْتِ، والغِناءُ أيْضًا: الرَّمْلُ - لِإقامَتِهِ، وغَنِيَ بِالمَرْأةِ: تَغَزَّلَ، أيْ نَظَمَ فِيها الغَزَلَ، وغَنِيَ بِزَيْدٍ: مَدَحَهُ أوْ هَجاهُ - مِن لَوازِمِ الإقامَةِ والكِفايَةِ، ومِنهُ غِنى الحَمامِ: صَوْتٌ؛ ونَغى - كَرَمى: تَكَلَّمَ (p-١٦٥)بِكَلامٍ يُفْهَمُ - لِأنَّ ذَلِكَ يَسْكُنُ الخاطِرَ عَنِ القَلَقِ، ومِنهُ المُناغاةُ - وهي تَكْلِيمُ الصَّبِيِّ بِما يَهْوِي، ونَغَيْتُ إلَيْهِ نَغْيَةً، أيْ ألْقَيْتُ إلَيْهِ كَلِمَةً، والنَّغْيَةُ - كالنَّغْمَةِ: أوَّلُ الخَبَرِ قَبْلَ أنْ تَسْتَثْبِتَهُ، مِن تَسْمِيَةِ الجُزْءِ بِاسْمِ الكُلِّ، وناغاهُ: داناهُ، ومِنهُ المَوْجُ يُناغِي السَّماءَ - إذا ارْتَفَعَ، وناغاهُ: باراهُ أيْ عارَضَهُ، والمَرْأةُ: غازَلَها، أيْ حادَثَها - كُلُّ ذَلِكَ مِن لَوازِمِ الإقامَةِ؛ والغَيْنُ: حَرْفُ هِجاءٍ مَجْهُورٌ مُسْتَعْلٍ - كَأنَّها لِقُوَّتِها مُقِيمَةٌ في مَخْرَجِها غَيْرِ مُتَزَعْزِعَةٍ عَنْهُ كالرّاءِ والحُرُوفِ الهَوائِيَّةِ وغَيْرِها، والغَيْنُ: العَطَشُ - لِأنَّهُ الأصْلُ لِاقْتِضاءِ الحَرارَةِ لَهُ والرِّيِّ حادِثٌ، والغَيْنُ: الغَيْمُ - لِإقامَتِهِ في الهَواءِ، والغَيْنَةُ: أرْضٌ - لِأنَّها مَوْضِعُ الإقامَةِ، والأشْجارِ المُلْتَفَّةِ بِلا ماءٍ، هي أيْضًا مَوْضِعٌ لِذَلِكَ، لِأنَّها ظَلِيلَةٌ ولا ماءَ بِأرْضِها يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِشَيْءٍ مِن ظِلِّها، والغَيْناءُ: الخَضْراءُ مِنَ الشَّجَرِ، وبِئْرٍ، وبِالقَصْرِ: قُنَّةُ ثَبِيرِ مِنَ الأثْبَرَةِ السَّبْعَةِ - لِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَوْضِعٌ (p-١٦٦)لِلْإقامَةِ، ولَعَلَّ قُنَّةَ هَذا الجَبَلِ كَثِيرَةُ الشَّجَرِ فَتَرْجِعُ إلى الشَّجَرَةِ، والأغْيَنُ: الطَّوِيلُ - إمّا تَشْبِيهٌ بِقُنَّةِ الجَبَلِ، أوْ بِالشَّجَرَةِ، والغانَةُ: حَلْقَةُ رَأْسِ الوَتَرِ في القَوْسِ، وغَيْنٌ عَلى قَلْبِهِ: غَطّى عَلَيْهِ أيْ أقامَ عَلَيْهِ ساتِرًا لَهُ فَصارَ كالسَّماءِ بِالنِّسْبَةِ إلى الغَيْمِ، ومِنهُ غَيْنٌ عَلَيْهِ - إذا تَغَشَتْهُ الشَّهْوَةُ وألْبَسَ أوْ غَشِيَ عَلَيْهِ، أوْ أحاطَ بِهِ الرَّيْنُ وهو الطَّبْعُ والدَّنَسُ، والغِينَةُ - بِالكَسْرِ: الصَّدِيدُ وما سَلَّ مِنَ المَيِّتِ - كَأنَّهُ مِن سَلْبِ الإقامَةِ، وكَذا الغِينُ بِالكَسْرِ - لِمَوْضِعٍ كَثِيرِ الحُمّى، [و] غانَتْ نَفْسِي تَغِينُ: غَثَّتْ، والإبِلُ: غامَتْ، أيْ حَصَلَ لَها داءٌ كالقَلّابِ غَيْرَ أنَّهُ لا يَقْتُلُ - انْتَهى. ولَمّا كانَ قَدْ يَظُنُّ أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَكُونُ كَذَلِكَ، أيْ يَعْلَمُ ما [عَلِمَهُ]، نَفى ذَلِكَ سُبْحانَهُ [بِقَوْلِهِ]: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ أيْ لِأجْلِ ما لَهم مِنَ الِاضْطِرابِ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ لَيْسُوا بِذَوِي عِلْمٍ [لِما عَلَّمْناهُمْ] لِإعْراضِهِمْ عَنْهُ واسْتَفْرَغَ قُواهم في الِاهْتِمامِ بِما وقَعَ (p-١٦٧)التَّكَفُّلُ لَهم بِهِ مِن أحْوالِ الدُّنْيا، ومُغالَبَةِ فِطَرِهِمُ القَوِيمَةِ السَّلِيمَةِ بِرَدِّها إلى ما تَدْعُو إلَيْهِ الحُظُوظُ والشَّهَواتُ حَتّى لا يَكُونَ فِيها طِبُّ مَخْلُوقٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب