الباحث القرآني

ولَمّا قالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذَلِكَ وأبى أنْ يَخْرُجَ مِنَ السِّجْنِ قَبْلُ تَبَيَّنَ الأمْرَ، رَجَعَ الرَّسُولُ إلى المَلِكِ فَأخْبَرَهُ بِما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَما فَعَلَ المَلِكُ؟ فَقِيلَ: ”قالَ“ لِلنِّسْوَةِ بَعْدَ أنْ جَمَعَهُنَّ: ﴿ما خَطْبُكُنَّ﴾ أيْ شَأْنُكُنَّ العَظِيمُ؛ وقَوْلُهُ: ﴿إذْ راوَدْتُنَّ﴾ أيْ خادَعْتُنَّ بِمَكْرٍ ودَوَرانٍ ومُراوَغَةٍ ﴿يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ بَراءَتَهُ كانَتْ مُتَحَقِّقَةً عِنْدَ كُلِّ مَن عَلِمَ القِصَّةَ، فَكَأنَّ المَلِكَ وبَعْضَ النّاسِ - وإنْ عَلِمُوا مُراوَدَتَهُنَّ وعِفَّتَهُ - ما كانُوا يَعْرِفُونَ المُراوَدَةَ هَلْ [هِيَ] لَهُنَّ كُلُّهُنَّ أوْ لِبَعْضِهِنَّ، فَكَأنَّهُ (p-١٢٦)قِيلَ: ما قُلْنَ؟ فَقِيلَ: مَكَرْنَ في جَوابِهِنَّ إذْ سَألَهُنَّ عَمّا عَمِلْنَ مِنَ السُّوءِ مَعَهُ فَأعْرَضْنَ عَنْهُ وأجَبْنَ بِنَفْيِ السُّوءِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ أنَّهُنَّ ﴿قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ﴾ أيْ عِياذًا بِالمَلِكِ الأعْظَمِ وتَنْزِيهًا لَهُ مِن هَذا الأمْرِ، فَأوْهَمْنَ بِذَلِكَ بَراءَتَهُنَّ مِنهُ؛ ثُمَّ فَسَّرْنَ هَذا العِياذَ بِأنْ قُلْنَ تَعَجُّبًا مِن عِفَّتِهِ الَّتِي لَمْ يَرَيْنَ مِثْلَها، ولا وقْعَ في أوْهامِهِنَّ أنْ تَكُونَ لِآدَمِيٍّ وإنْ بَلَغَ ما بَلَغَ: ﴿ما عَلِمْنا عَلَيْهِ﴾ أيْ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأعْرَقْنَ في النَّفْيِ فَقُلْنَ: ﴿مِن سُوءٍ﴾ فَخَصَّصْنَهُ بِالبَراءَةِ، وهَذا كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِ المَلَأِ ﴿أضْغاثُ أحْلامٍ﴾ [يوسف: ٤٤] هَذا وهو جَوابٌ لِلْمَلِكِ الَّذِي تُبْهِرُ رُؤْيَتُهُ وتَخْشى سَطْوَتُهُ، فَكانَ مِن طَبْعِ البَلَدِ عَدَمُ الإفْصاحِ في المَقالِ - حَتّى لا يَنْفَكَّ عَنْ طُرُوقِ احْتِمالٍ فَيَكُونُ لِلتَّفَصِّي فِيهِ مَجالٌ - وعِبادَةُ المُلُوكِ إلّا مَن شاءَ اللَّهُ مِنهم. ولَمّا تَمَّ ذَلِكَ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَتِ الَّتِي هي أصْلُ هَذا (p-١٢٧)الأمْرِ؟ فَقِيلَ: ﴿قالَتِ امْرَأتُ العَزِيزِ﴾ مُصَرِّحَةً بِحَقِيقَةِ الحالِ: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ﴾ أيْ حَصَلَ عَلى أمْكَنِ وُجُوهِهِ، وانْقَطَعَ عَنِ الباطِلِ بِظُهُورِهِ، مِن: حَصَّ شَعْرَهُ. إذا اسْتَأْصَلَ قَطْعَهُ بِحَيْثُ ظَهَرَ ما تَحْتَهُ، ومِنهُ الحِصَّةُ: القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، ونَظِيرُهُ: كَبَّ وكَبْكَبَ، وكَفَّ وكَفْكَفَ، فَهَذِهِ زِيادَةُ تَضْعِيفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الِاشْتِقاقُ وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ - قالَهُ الرُّمّانِيُّ. ووافَقَهُ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ وقالَ: وقالَ الأزْهَرِيُّ: هو مَن حَصْحَصَ البَعِيرُ: أثَّرَتْ ثَفِناتُهُ في الأرْضِ إذا بَرَكَ حَتّى تَسْتَبِينَ آثارُها فِيهِ ﴿أنا راوَدْتُهُ﴾ أيْ خادِعَتِهِ وراوَدَتْهُ ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ وأكَّدَتْ ما أفْصَحَتْ بِهِ مَدْحًا ونَفْيًا لِكُلِّ سُوءٍ بِقَوْلِها مُؤَكِّدًا لِأجْلِ ما تَقَدَّمَ مِن إنْكارِها: ﴿وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ أيِ العَرِيقَيْنِ في هَذا الوَصْفِ في نِسْبَةِ المُراوَدَةِ إلَيَّ وتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ، فَقَدْ شَهِدَ النِّسْوَةُ كُلُّهُنَّ بِبَراءَتِهِ، وإنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنهُ ما يُنْسَبُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ السُّوءِ إلَيْهِ، فَمَن نَسَبَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ هَمًّا أوْ غَيْرَهُ فَهو تابِعٌ لِمُجَرَّدِ الهَوى في نَبِيٍّ مِنَ المُخْلِصِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب