الباحث القرآني

ولَمّا كانَ كُلُّ عِلْمٍ بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِ اللَّهِ عَدَمًا، عَبَّرَ عَنْ عِلْمِهِ بِالظَّنِّ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلى بابِهِ لِكَوْنِهِ قالَ ما مَضى اجْتِهادًا بِقَرائِنَ فَيُؤْخَذُ مِنهُ أنَّهُ يُسَوِّغُ الجَزْمَ بِما أدّى إلى ظَنٍّ، فَقالَ: ﴿وقالَ﴾ أيْ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿لِلَّذِي ظَنَّ﴾ مَعَ الجَزْمِ بِأنَّهُ أرادَ بِهِ العِلْمَ لِقَوْلِهِ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ [يوسف: ٤١] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ”ظَنَّ“ لِلسّاقِي، فَهو حِينَئِذٍ عَلى بابِهِ ﴿أنَّهُ ناجٍ مِنهُما﴾ وهو السّاقِي ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (p-٩٣)أيْ سَيِّدُكَ مَلِكُ مِصْرَ، بِما رَأيْتَ مِنِّي مِن مَعالِي الأخْلاقِ وطَهارَةِ الشِّيَمِ الدّالَّةِ عَلى بُعْدِي مِمّا رُمِيتْ بِهِ، والمُرادُ بِالرَّبِّ هُنا غَيْرُ المُرادِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ﴾ [يوسف: ٣٩] فَنَجا السّاقِي وصُلِبَ صاحِبُهُ وفْقَ ما قالَ لَهُما يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿فَأنْساهُ﴾ أيِ السّاقِي ﴿الشَّيْطانَ﴾ أيِ البَعِيدِ مِنَ الرَّحْمَةِ المُحْتَرِقِ بِاللَّعْنَةِ ﴿ذَكَرَ﴾ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِنْدَ ﴿رَبِّهِ﴾ أيْ بِسَبَبِ اعْتِمادِهِ عَلَيْهِ في ذَلِكَ ﴿فَلَبِثَ﴾ أيْ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِسَبَبِ هَذا النِّسْيانِ ﴿فِي السِّجْنِ﴾ مِن حِينِ دَخَلَ إلى أنْ خَرَجَ ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾ لِيَعْلَمَ أنَّ جَمِيعَ الأسْبابِ إنَّما أثَرُها بِاللَّهِ تَعالى، وحَقِيقَةُ البِضْعِ مِنَ الثَّلاثِ إلى التِّسْعِ، والمَرْوِيُّ هُنا أنَّهُ كانَ سَبْعًا. ذَكَرَ ما مَضى مِن هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ التَّوْراةِ قالَ بَعْدَ ما مَضى: فَأهْبَطَ المَدِينِيُّونَ يُوسُفَ إلى مِصْرَ، فاشْتَراهُ قُوطِيفَرُ الأمِيرُ صاحِبُ شُرْطَةِ فِرْعَوْنَ - رَجُلٌ مِصْرِيٌّ - مِن يَدِ الأعْرابِ الَّذِينَ أهْبَطُوهُ إلى هُناكَ، فَكانَ [الرَّبُّ -] سُبْحانَهُ وتَعالى بِعَوْنِهِ مَعَ يُوسُفَ، وكانَ رَجُلًا مُنْجِحًا، وأقامَ في مَنزِلِ المِصْرِيِّ سَيِّدِهِ، فَرَأى (p-٩٤)سَيِّدُهُ أنَّ الرَّبَّ بِعَوْنِهِ مَعَهُ، وأنَّ الرَّبَّ يَنْجَحُ جَمِيعُ أفْعالِهِ، فَظَفَرَ يُوسُفُ مِنهُ بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ فَخَدَمَهُ، وسَلَّطَهُ عَلى بَيْتِهِ، وخَوَّلَهُ جَمِيعُ ما لَهُ، ومِنَ اليَوْمِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلى بَيْتِهِ وخَوَّلَهُ جَمِيعُ ما لَهُ بارَكَ الرَّبُّ في بَيْتِ المِصْرِيِّ مِن أجْلِ يُوسُفَ وفي سَبَبِهِ، فَحَلَّتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ في جَمِيعِ ما لَهُ في البَيْتِ والحَقْلِ، فَخَوَّلَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، ولَمْ [يَكُنْ ] يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمّا لَهُ في يَدِهِ لِثِقَتِهِ بِهِ ما خَلا الخَبْزَ الَّذِي كانَ يَأْكُلُهُ، وكانَ يُوسُفُ حَسَنَ المَنظَرِ صَبِيحَ الوَجْهِ. فَلَمّا كانَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ لَمَحَتِ امْرَأةٌ سَيِّدَهُ بِنَظَرِها إلى يُوسُفَ فَقالَتْ لَهُ: ضاجِعْنِي: فَأبى ذَلِكَ وقالَ لِامْرَأةِ سَيِّدِهِ: إنَّ سَيِّدِي لِثِقَتِهِ بِي لَيْسَ يَعْلَمُ ما في بَيْتِهِ، وقَدْ سَلَّطَنِي عَلى جَمِيعِ ما لَهُ، ولَيْسَ في هَذا البَيْتِ أعْظَمَ مِنِّي، ولَمْ يَمْنَعْنِي شَيْئًا ما خَلّاكَ أنْتَ لِأنَّكِ امْرَأتُهُ، فَكَيْفَ أرْتَكِبُ هَذا الشَّرَّ العَظِيمَ، فَأُخْطِئُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وإذا كانَتْ تُراوِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يُطِعْها لِيُضاجِعَها ويَصِيرَ مَعَها، فَبَيْنا هو ذاتَ يَوْمٍ دَخَلَ يُوسُفُ إلى البَيْتِ لِيَعْمَلَ عَمَلًا، ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِن أهْلِ البَيْتِ هُناكَ، (p-٩٥)فَتَعَلَّقَتْ بِقَمِيصِهِ وقالَتْ لَهُ: ضاجِعْنِي، فَتَرَكَ قَمِيصَهُ في يَدِها وهَرَبَ، فَخَرَجَ إلى السُّوقِ، فَلَمّا رَأتْ أنَّهُ قَدْ تَرَكَ قَمِيصَهُ في يَدِها وخَرَجَ هارِبًا إلى السُّوقِ، دَعَتْ بِأهْلِ بَيْتِها وقالَتْ لَهُمُ: انْظُرُوا، إنَّهُ أتانا رَجُلٌ عِبْرانِيٌّ لِيَفْضَحَنا، لِأنَّهُ دَخَلَ عَلَيَّ يُرِيدُ مُضاجَعَتِي، وهَتَفَتْ [بِصَوْتٍ ] عالٍ، فَلَمّا رَآنِي قَدْ رَفَعْتُ صَوْتِي وهَتَفْتُ، تَرَكَ قَمِيصَهُ في يَدِي وهَرَبَ إلى السُّوقِ. فَصَيَّرْتُ قَمِيصَهُ عِنْدَها حَتّى دَخَلَ سَيِّدُها البَيْتَ، فَقالَتْ: لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الأقاوِيلِ: دَخَلَ عَلَيَّ هَذا العَبْدُ العِبْرانِيُّ الَّذِي جَلَبْتَهُ عَلَيْنا يُرِيدُ يَفْضَحُنِي، فَلَمّا رَفَعْتُ صَوْتِي فَصِحْتُ تَرَكَ قَمِيصَهَ في يَدِي وهَرَبَ فَخَرَجَ إلى السُّوقِ؛ فَلَمّا سَمِعَ سَيِّدُهُ كَلامَ امْرَأتِهِ اسْتَشاطَ غَيْظًا، فَأمَرَ بِهِ سَيِّدُهُ فَقُذِفَ في الحَبْسِ الَّذِي كانَ أسْرى المَلِكِ فِيهِ مَحْبُوسِينَ فَمَكَثَ هُناكَ في السِّجْنِ، وكانَ الرَّبُّ يُبْصِرُهُ، ورَزَقَهُ المَحَبَّةَ والرَّحْمَةَ، وألْقى لَهُ في قَلْبِ السَّجّانِ رَحْمَةً، فَوَلّى يُوسُفُ جَمِيعَ المَسْجُونِينَ الَّذِينَ في الحَبْسِ، وكُلُّ فِعْلٍ كانُوا يَفْعَلُونَهُ هُناكَ كانَ عَنْ أمْرِهِ، ولَمْ يَكُنْ رَئِيسَ السِّجْنِ (p-٩٦)يَضْرِبُ عَلى يَدَيْهِ في شَيْءٍ، لِأنَّ الرَّبَّ كانَ بِعَوْنِهِ مَعَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ كانَ يَفْعَلُهُ يُنْجِحُهُ الرَّبُّ. فَلَمّا كانَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ، أذْنَبَ صاحِبُ شَرابِ مَلِكِ مِصْرَ والخَبّازُ - وفي نُسْخَةٍ مَوْضِعُ الخَبّازِ: ورَئِيسُ الطَّبّاخِينَ - بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِما مَلِكِ مِصْرَ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ عَلى خادِمَيْهِ: عَلى رَئِيسِ أصْحابِ الشَّرابِ ورَئِيسِ الخَبّازِينَ - وفي نُسْخَةٍ: الطَّبّاخِينَ - فَأمَرَ بِحَبْسِهِما في سِجْنِ صاحِبِ الشَّرْطِ في الحَبْسِ الَّذِي كانَ فِيهِ يُوسُفُ، فَسَلَّطَ صاحِبُ السَّجْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِما فَخَدَمَهُما، فَلَبِثا في السِّجْنِ أيّامًا، فَرَأيا رُؤْيا جَمِيعًا، كُلُّ واحِدٍ مِنهُما رُئِيا [بِكُلٍّ -] في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما أحَبَّ تَعْبِيرَ حِلْمِهِ: السّاقِي وخَبّازٌ - وفي نُسْخَةٍ: وطَبّاخٌ - مَلِكُ مِصْرَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِما يُوسُفُ بِالغَداةِ، فَرَآهُما عابِسَيْنِ مُكْتَئِبَيْنِ فَسَألَهُما وقالَ: ما بالُكُما يَوْمُكُما هَذا عابِسَيْنِ مُكْتَئِبَيْنَ؟ فَقالا لَهُ: إنّا رَأيْنا رُؤْيا ولَيْسَ لَها مُعَبِّرٌ، فَقالَ لَهُما يُوسُفُ: إنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ عِنْدَ اللَّهِ، قُصّا عَلَيَّ. فَقَصَّ رَئِيسُ أصْحابِ الشَّرابِ عَلى يُوسُفَ وقالَ لَهُ: إنِّي رَأيْتُ في الرُّؤْيا كَأنَّ حَبْلَةً بَيْنَ يَدِي، في الحَبْلَةِ ثَلاثَةُ قُضْبانٍ، فَبَيْنا هي (p-٩٧)كَذَلِكَ إذْ فَرَّعَتْ ونَبَتَ ورَقُها، وأيْنَعَتْ عَناقِيدُها، فَصارَتْ عِنَبًا، وكَأنَّ كَأْسَ فِرْعَوْنَ في يَدِي، فَتَناوَلْتُ مِنَ العِنَبِ، فَعَصَرْتُهُ في كَأْسِ فِرْعَوْنَ، وناوَلَتِ الكَأْسَ فِرْعَوْنَ، فَقالَ لَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ: هَذا تَفْسِيرُ رُؤْياكَ: الثَّلاثَةُ قُضْبانٍ هي ثَلاثَةُ أيّامٍ، ومِن بَعْدِ ثَلاثَةِ أيّامٍ يَذْكُرُكَ فِرْعَوْنُ [فَيَرُدَّكَ ] عَلى عَمَلِكَ، وتُناوِلُ فِرْعَوْنُ الكَأْسَ في يَدِهِ عَلى العادَةِ الأُولى الَّتِي لَمْ تَزَلْ تَسْقِيهِ، فاذْكُرْنِي حِينَئِذٍ إذا أنْعَمَ عَلَيْكَ، وأنْعَمَ عَلَيَّ بِالنِّعْمَةِ والقِسْطِ، فاذْكُرْنِي بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وأخْرِجْنِي مِن هَذا الحَبْسِ، لِأنِّي إنَّما سَرَقْتُ مِن أرْضٍ العِبْرانِيِّينَ سَرِقَةً، وحَصَلْتُ في الحَبْسِ هَهُنا أيْضًا بِلا جُرْمٍ جاءَ مِنِّي. فَرَأى رَئِيسُ الخَبّازِينَ - وفي نُسْخَةٍ: الطَّبّاخِينَ - أنَّهُ قَدْ فَسَّرَ تَفْسِيرًا حَسَنًا فَقالَ لِيُوسُفَ: رَأيْتُ أنا أيْضًا في مَنامِي كَأنَّ ثَلاثَةَ أطْباقٍ فِيها [خُبْزٌ] دَرْمُكَ عَلى رَأْسِي، وفي الطَّبَقِ الأعْلى مِن كُلِّ مَآكِلِ فِرْعَوْنَ مِمّا يَصْنَعُهُ الخَبّازُ - وفي نُسْخَةٍ: عَمَلُ طَبّاخٍ حاذِقٍ - وكانَ السِّباعُ والطَّيْرُ تَأْكُلُها مِنَ الطَّبَقِ مِن فَوْقِ رَأْسِي؛ فَأجابَيُوسُفُ وقالَ لَهُ: هَذا تَفْسِيرُ رُؤْياكَ: ثَلاثَةُ أطْباقٍ هي ثَلاثَةُ أيّامٍ، وبَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ يَأْمُرُ فِرْعَوْنُ بِضَرْبِ عُنُقِكَ وصَلْبِكَ عَلى خَشَبَةٍ، ويَأْكُلُ الطَّيْرُ لَحْمَكَ. فَلَمّا كانَ اليَوْمُ الثّالِثُ - وهو يَوْمُ وِلادِ فِرْعَوْنَ - اتَّخَذَ فِرْعَوْنُ (p-٩٨)ولِيمَةً، فَجَمَعَ عَبِيدَهُ وافْتَقَدَ رَئِيسُ أصْحابِ الشَّرابِ ورَئِيسُ الخَبّازِينَ - وفي نُسْخَةٍ: الطَّبّاخِينَ - فَأمَرَ بِرَدِّ [رَئِيسِ] أصْحابِ الشَّرابِ عَلى مَوْضِعِهِ، وسَقى فِرْعَوْنُ الكَأْسَ كَعادَتِهِ، وأمَرَ بِصَلْبِ رَئِيسِ الخَبّازِينَ كالَّذِي فَسَّرَ لَهُما يُوسُفُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمْ يَذْكُرْ [رَئِيسَ] أصْحابِ الشَّرابِ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونَسِيَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب