الباحث القرآني

ولَمّا كانَ المَعْنى مَعْلُومًا مِن هَذا السِّياقِ تَقْدِيرُهُ: فَدَعا الرِّجالَ [المُرْسَلُونَ] إلى اللَّهِ واجْتَهَدُوا في إنْذارِ قَوْمِهِمْ لِخَلاصِهِمْ مِنَ الشَّقاءِ، (p-٢٥٤)وتَوَعَّدَهم عَنِ اللَّهِ بِأنْواعِ العُقُوباتِ إنْ لَمْ يَتْبَعُوهُمْ، وطالَ عَلَيْهِمُ الأمْرُ وتَراخى النَّصْرُ وهم يُكَذِّبُونَهم في تِلْكَ الإيعاداتِ ويُبَكِّتُونَهم ويَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، واسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِن حالِهِمْ وحالِهِمْ، قالَ مُشِيرًا إلى ذَلِكَ: ﴿حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ أيْ يَئِسُوا مِنَ النَّصْرِ يَأْسًا عَظِيمًا كَأنَّهم أوْجَدُوهُ أوْ طَلَبُوهُ واسْتَجْلَبُوهُ مِن أنْفُسِهِمْ ﴿وظَنُّوا أنَّهم قَدْ كُذِبُوا﴾ أيْ فَعَلُوا فِعْلَ اليَأْسِ [العَظِيمِ اليَأْسِ] الَّذِي ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أخْلَفَ وعْدَهُ مِنَ الإقْبالِ عَلى التَّحْذِيرِ والتَّبْشِيرِ والجَوابِ - لِمَنِ اسْتَهْزَأ بِهِمْ وقالَ: ما يَحْبِسُ ما وعَدْتُمُونا بِهِ - بِأنَّ ذَلِكَ أمْرُهُ إلى اللَّهِ، إنْ [شاءَ] أنْجَزَهُ، وإنْ شاءَ أخَّرَهُ، لَيْسَ عَلَيْنا مِن أمْرِهِ شَيْءٌ؛ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّهم لَمَنِ اسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ وضَجِرُوا مِمّا يُقاسُونَ مِن أذى الأعْداءِ، واسْتِبْطاءِ الأوْلِياءِ ﴿حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: ٢١٤] -كَما يَقُولُ الآئِسُ ﴿مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٤] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ، عَبَّرَ عَنْ حالِهِمْ ذَلِكَ بِما هُنا - نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ والرّازِيُّ في اللَّوامِعِ مَعْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، هَذا عَلى قِراءَةِ التَّخْفِيفِ، وأمّا عَلى قِراءَةِ التَّشْدِيدِ فالتَّقْدِيرُ: وظَنُّوا أنَّهم قَدْ كَذَّبَهم أتْباعُهم حَتّى لَقَدْ أنْكَرَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قِراءَةَ التَّخْفِيفِ، رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ (p-٢٥٥)وغَيْرُهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَألَها عَنِ القِراءَةِ: أهِيَ بِالتَّشْدِيدِ أمْ بِالتَّخْفِيفِ؟ فَقالَتْ: إنَّها بِالتَّشْدِيدِ، قالَ قُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أنَّ قَوْمَهم كَذَّبُوهم فَما هو بِالظَّنِّ، قالَتْ: أجِلْ، لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ! فَقُلْتُ لَها: وظَنُّوا أنَّهم قَدْ كُذِبُوا أيْ بِالتَّخْفِيفِ - قالَتْ: مَعاذَ اللَّهِ! لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّها، قُلْتُ: فَما هَذِهِ الآيَةُ؟ قالَتْ: هم أتْباعُ الرُّسُلِ [الَّذِينَ] آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وصَدَّقُوهُمْ، فَطالَ عَلَيْهِمُ البَلاءُ، واسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ، حَتّى إذا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهم مِن قَوْمِهِمْ وظَنُّوا أنَّهم أتْباعُهم قَدْ كَذَّبُوهم جاءَهم نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ. ﴿جاءَهم نَصْرُنا﴾ لَهَمَّ بِخِذْلانِ أعْدائِهِمْ ﴿فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ﴾ مِنهم ومِن أعْدائِهِمْ ﴿ولا يُرَدُّ بَأْسُنا﴾ أيْ عَذابُنا لِما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ ﴿عَنِ القَوْمِ﴾ أيْ وإنْ كانُوا في غايَةِ القُوَّةِ ﴿المُجْرِمِينَ﴾ الَّذِينَ حُتِّمْنا دَوامَهم عَلى القَطِيعَةِ كَما قُلْنا ﴿ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨] وحَقَّقْنا بِمَن ذَكَرْنا مُصارِعَهم مِنَ الأُمَمِ، وكُلِّ ذَلِكَ إعْلامٌ بِأنَّ سُنَّتَهُ جَرَتْ بِأنَّهُ يُطِيلُ الِامْتِحانَ، ويَمُدُّ زَمانَ الِابْتِلاءِ والِاعْتِبارِ، حَثًّا لِلْأتْباعِ عَلى الصَّبْرِ وزَجْرًا لِلْمُكَذِّبِينَ عَنِ التَّمادِي في الِاسْتِهْزاءِ. (p-٢٥٦)ومادَّةُ ”كَذَبَ“ تَدُورُ عَلى ما لا حَقِيقَةَ لَهُ، وأكْثَرُ [تَصارِيفِها] واضِحٌ في ذَلِكَ، ويُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ الإنْسانِ، قالُوا: كَذَبَ البَرْقُ والحُلْمُ والرَّجاءُ والطَّمَعُ والظَّنُّ، وكَذَبَتِ العَيْنُ: خانَها حِسُّها، وكَذَبَ الرَّأْيَ: تَبَيَّنُ الأمْرُ بِخِلافِ ما هو بِهِ، وكَذَّبَتْهُ نَفْسُهُ: مُنْتَهٍ غَيْرَ الحَقِّ، والكَذُوبُ: النَّفْسُ، لِذَلِكَ، وأكْذَبَتِ النّاقَةُ وكَذَبَتْ - إذا ضَرَبَها الفَحْلُ فَتَشُولُ أيْ تَرَفَعُ ذَنَبَها ثُمَّ تَرْجِعُ حائِلًا، لِأنَّها أخْلَفَتْ ظَنَّ حِمْلِها، وكَذا إذا ظُنَّ بِها لَبَنٌ ولَيْسَ بِها، ويُقالُ لِمَن يُصاحُ بِهِ وهو ساكِنٌ يَرى أنَّهُ نائِمٌ: قَدْ أكْذَبَ، أيْ عُدَّ ذَلِكَ الصِّياحُ عَدَمًا، والمَكْذُوبَةُ [مِنَ النِّساءِ: الضَّعِيفَةُ، لِأنَّهُ لَمّا اجْتَمَعَ فِيها ضَعْفُ النِّساءِ وضَعْفُها عُدَّتْ عَدَمًا، والمَكْذُوبَةُ] عَلى القَلْبِ: المَرْأةُ الصّالِحَةُ - كَأنَّها لِعِزَّةِ الصَّلاحِ في النِّساءِ جُعِلَتْ عَدَمًا، وكَذَبَ الوَحْشِيُّ - إذا جَرى ثُمَّ وقَفَ يَنْظُرُ ما وراءَهُ، كَأنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِالَّذِي أنْفَرَهُ، ومِنهُ: كَذَبَ عَنْ كَذا - إذا أحْجَمَ عَنْهُ بَعْدَ أنْ أرادَهُ، أوْ لِأنَّهُ كَذَبَ (p-٢٥٧)ما ظَنَّهُ عِنْدَ الحَمْلَةِ مِن قَتْلِ الأقْرانِ، وكَذَبَكَ الحَجُّ أيْ أمْكَنَكَ وكَذَبَكَ الصَّيْدُ [مِثْلُهُ، وهو يَؤُولُ إلى الحَثِّ لِأنَّ المَعْنى أنَّ الحَجَّ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ وطُولِ شُقَّتِهِ تَنْفِرُ النَّفْسُ عَنْهُ، فَيَكادُ أنْ لا يُوجَدَ، وكَذا الصَّيْدُ] لِشِدَّةِ فِرارِهِ وسُرْعَةِ نِفارِهِ وعِزَّةِ اسْتِقْرارِهِ يَكادُ أنْ لا يَتَمَكَّنَ مِنهُ فَيَكُونُ صَيْدُهُ كالكَذِبِ لا حَقِيقَةَ لَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ وجْهُ كَوْنِ ”كَذَبَ“ بِمَعْنى الإغْراءِ ولاحَ أنَّ قَوْلَهُ ”ثَلاثَةُ أسْفارٍ كَذَبْنَ عَلَيْكُمُ: الحَجُّ والعُمْرَةُ والجِهادُ“ مَعْناهُ أنَّها لِشِدَّةِ الصُّعُوبَةِ لا تَكادُ تُمَكِّنُ مَن أرادَها مِنها، مَعَ أنَّهُ - لِقُوَّةِ داعِيَتِهِ لِكَثْرَةِ ما يُرى فِيها مِنَ التَّرْغِيبِ بِالأجْرِ - يَكُونُ كالظّافِرِ بِها، ويُؤَيِّدُهُ ما قالَ ابْنُ الأثِيرِ في النِّهايَةِ عَنِ الأخْفَشِ: الحَجُّ مَرْفُوعٌ ومَعْناهُ نُصِبَ، لِأنَّهُ يُرِيدُ أنْ يَأْمُرَهُ بِالحَجِّ كَما يُقالُ: أمْكَنَكَ الصَّيْدُ، يُرِيدُ: ارْمِهِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ (p-٢٥٨)فِي الحَجَّةِ في قَوْلِ عَنْتَرَةَ: ؎كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٍ إنْ كُنْتَ سائِلَتِي غَبُوقًا فاذْهَبِي وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: إنَّ الكَلِمَةَ لَمّا كَثُرَ اسْتِعْمالُها في الإغْراءِ بِالشَّيْءِ والبَعْثِ عَلى طَلَبِهِ وإيجادِهِ صارَ كَأنَّهُ قالَ بِقَوْلِهِ لَها: عَلَيْكَ العَتِيقُ، أيِ الزَمِيهِ، ولا يُرِيدُ نَفْيَهُ ولَكِنَّ إضْرابَها عَمّا عَداهُ، فَيَكُونُ العَتِيقُ في المَعْنى مَفْعُولًا بِهِ إنْ كانَ لَفْظُهُ مَرْفُوعًا، مِثْلُ ”سَلامٌ عَلَيْكُمْ“ ونَحْوُهُ مِمّا يُرادُ بِهِ الدُّعاءُ واللَّفْظُ عَلى الرَّفْعِ، وحَكى مُحَمَّدُ بْنُ السِّرِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ في ”كَذَبَ العَتِيقُ“ أنَّ مُضَرَ تُنْصَبُ بِهِ وأنَّ اليَمَنَ تُرْفَعُ بِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ ذَلِكَ - انْتَهى. وأقْرَبُ مِن ذَلِكَ جِدًّا وأسْهَلُ تَناوُلًا وأخْذًا أنَّ الإنْسانَ لا يَزالُ مَنِيعَ الجَنابِ مَصُونَ الحِجابِ ما كانَ لازِمًا لِلصِّدْقِ فَإذا كَذَبَ فَقَدْ أمْكَنَ مِن نَفْسِهِ وهانَ أمْرُهُ، فَمَعْنى "ثَلاثَةُ أسْفارٍ كَذَبْنَ عَلَيْكم أمْكَنَتْكم مَن أنْفُسِها، الحَجُّ كُلَّ سَنَةٍ بِزَوالِ مانِعِ الكُفّارِ عَنْهُ، (p-٢٥٩)والعُمْرَةُ كُلَّ السَّنَةِ بِزَوالِ المُفْسِدِينَ بِالقَتْلِ وغَيْرِهِ في أشْهُرِ الحِلِّ، والجِهادُ كُلَّ السَّنَةِ أيْضًا لِإباحَتِهِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ وغَيْرِها، وتَخْرِيجُ مِثْلِ: كَذَبَتْكَ الظَّهائِرُ، وغَيْرُهُ عَلى هَذا بَيْنَ الظُّهُورِ ولا وقْفَةَ فِيهِ ولِكَوْنِ الكاذِبِ يُبادِرُ إلى المَعاذِيرِ ويُحاوِلُ التَّخَلُّصَ كانَ التَّعْبِيرُ [بِهَذا] مِن بابِ الإغْراءِ، أيِ انْتَهَزَ الفُرْصَةَ وبادَرَ تَعَسُّرَ هَذا الإمْكانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب