الباحث القرآني

(p-١)سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبِهِ الإعانَةُ آمِينَ [مَقْصُودُها وصْفُ الكِتابِ بِالإبانَةِ لِكُلِّ ما يُوجِبُ الهُدى لِما ثَبَتَ فِيما مَضى، ويَأْتِي في هَذِهِ السُّورَةِ مِن تَمامِ عِلْمِ مَنزِلِهِ غَيْبًا وشَهادَةً وشُمُولِ قُدْرَتِهِ قَوْلًا وفِعْلًا، وهَذِهِ القِصَّةُ - كَما تَرى - أنْسَبُ الأشْياءِ لِهَذا المَقْصُودِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ سُورَةَ يُوسُفَ - واللَّهُ أعْلَمُ. ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ”الرَّحْمَن“ الَّذِي لَمْ يَدَعْ لَبْسًا لِعُمُومِ رَحْمَتِهِ في طَرِيقِ الهُدى ”الرَّحِيم“ الَّذِي خَصَّ حِزْبَهُ بِالإبْعادِ عَنْ مَوْطِئِ الرَّدى. لَمّا خَلَّلَ سُبْحانَهُ تِلْكَ مِمّا خَلَّلَها بِهِ مِنَ القَصَصِ والآياتِ القاطِعَةِ بِأنَّ القُرْآنَ مِن عِنْدِهِ [و] بِإذْنِهِ نَزَلَ، وأنَّهُ لا يُؤْمِنُ إلّا مَن شاءَ إيمانَهُ، وأنَّهُ مَهْما شاءَهُ كانَ، وبَيَّنَ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ عَلى مِثْلِ ما عَذَّبَ بِهِ الأُمَمَ (p-٢)وعَلى التَّأْلِيفِ بَيْنَ مَن أرادَ وإيقاعَ الخِلافَ بَيْنَ مَن شاءَ، وأشارَ إلى أنَّهُ حَكَمَ بِالنُّصْرَةِ لِعابِدِيهِ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ ما أرادَ لِأنَّهُ إلَيْهِ يَرْجِعُ الأمْرُ كُلُّهُ، تَلاها بِهَذِهِ السُّورَةِ لِبَيانِ هَذِهِ الأغْراضِ بِهَذِهِ القِصَّةِ العَظِيمَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَقِيَ فِيها يُوسُفُ عِلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما لَقِيَ مَن أقْرَبِ النّاسِ إلَيْهِ ومَن غَيْرِهِمْ ومِنَ الغُرْبَةِ وشَتاتِ الشَّمْلِ، ثُمَّ كانَتْ لَهُ العاقِبَةُ فِيهِ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ لِما تَدَرَّعَ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلى شَدِيدِ البَلاءِ والتَّفْوِيضِ لِأمْرِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا تَسْلِيَةً لِهَذا النَّبِيِّ الأمِينِ وتَأْسِيَةً بِمَن مَضى مِن إخْوانِهِ المُرْسَلِينَ فِيما يَلْقى في حَياتِهِ مَن أقارِبِهِ الكافِرِينَ وبَعْدَ وفاتِهِ مِمَّنْ دَخَلَ مِنهم في الدِّينِ في آلِ بَيْتُهُ كَما وقَعَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن تَعْذِيبٍ عَقِبَهُ وعَقِبَ إخْوَتِهِ مِمَّنْ بالَغَ في الإحْسانِ إلَيْهِمْ، وقَدْ وقَعَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالفِعْلِ ما هَمَّ الكَفّارُ مِن أقارِبِ النَّبِيِّ ﷺ بِفِعْلِهِ بِهِ كَما حَكاهُ سُبْحانَهُ في قَوْلِهِ ﴿لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] فَنَجا مِنهم أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنهُ بِأيْدِيهِمْ إلّا ما كانَ مِنَ الحَصْرِ في شِعَبِ أبِي طالِبٍ ومِنَ الهِجْرَةِ بِأمْرِ الحَكِيمِ العَلِيمِ، ثُمَّ نَصَرَ اللَّهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى إخْوَتِهِ الَّذِينَ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ ومَلَّكَهُ قِيادَهُمْ، فَكانَ في سَوْقِ قِصَّتِهِ عَقِبَ الإخْبارِ بِأنَّ المُرادَ بِهَذِهِ القِصَصِ تَثْبِيتِهِ صَلّى اللَّهُ (p-٣)عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمَ الفَتْحِ مِن مِلْكِ قِيادِهِمْ ورَدِّ عِنادِهِمْ ومَنِّهِ عَلَيْهِمْ وإحْسانِهِ إلَيْهِمْ، وفي إشارَتِها بِشارَةٌ بِأنَّ المَحْسُودَ يُعانِي ويَعْلى إنْ عَمَلَ ما هو الأحْرى بِهِ والأُولى، ومِن فَوائِدِ ذِكْرِها التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الحَسَدَ داءٌ عَظِيمٌ شَدِيدُ التَّمَكُّنِ في النُّفُوسِ حَتّى أنَّهُ بِعَزْمِ تَمَكُّنِهِ وكَثْرَةِ مَكانِهِ وتَعَدُّدِ كائِنِهِ رُبَّما غَلَبَ أهْلَ الصَّلاحِ إلّا مَن بادَرَ مِنهم بِالتَّوْبَةِ داعِي الفَلّاحِ، وتَرَكَتْ إعادَتَها دُونَ غَيْرِها مِنَ القَصَصِ صَوْنًا لِلْأكابِرِ عَنْ ذِكْرِ ما رُبَّما أوْجَبَ اعْتِقادَ نَقْصٍ، أوْ تَوْجِيهَ طَعْنٍ أوْ غَمْصٍ، أوْ هَوْنِ داءِ الحَسَدِ، عِنْدَ ذِي تَهَوُّرٍ ولَدَدٍ، وخَلَّلَها سُبْحانَهُ بِبَلِيغِ الحِكَمِ [وخَتْمِها] بِما أنْتَجَتْ مِن ثُبُوتِ أمْرِ القُرْآنِ ونَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ هَذا النَّبِيِّ العَظِيمِ. هَذا مُناسَبَةُ ما بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وأمّا مُناسَبَةُ الأوَّلِ لِلْآخَرِ فَإنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ [فِي آخِرِ] تِلْكَ بِتَمامِ عِلْمِهِ وشُمُولِ قُدْرَتِهِ، دَلَّ عَلى ذَلِكَ أهْلُ السَّبْقِ مِنَ الفَصاحَةِ والفَوْتِ في البَلاغَةِ في أوَّلِ هَذِهِ بِما فَعَلَ في (p-٤)كَلامِهِ مِن أنَّهُ تَعالى يَقْدِرُ عَلى أنْ يَأْتِيَ بِما تَذْهَبُ الأفْهامُ والعُقُولُ - عَلى كَرِّ الأزْمانِ وتَعاقُبِ الدُّهُورِ وتَوالِي الأيّامِ وتَمادِي اللَّيالِي - في مَعْناهُ كُلُّ مَذْهَبٍ وتَطَيُّرُ كُلِّ مَطارٍ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّواعِي واسْتِجْماعِ القُوى، ولا تَقِفُ مِن ذَلِكَ عَلى أمْرٍ مُحَقَّقٍ ولا مُرادٍ مَعْلُومٍ وعَلى أنْ يَأْتِيَ بِما يَفْهَمُ بِأوائِلِ النَّظَرِ أدْنى مَعْناهُ فَهْمًا يُوَثَّقُ بِأنَّهُ مُرادٌ، ثُمَّ لا يَزالُ يُبْرِزُ مِنهُ مِن دَقائِقِ المَعانِي كُلَّما كَرَّرَ التَّأمُّلَ وتَغَلْغَلَ الفَهْمُ إلى حَدٍّ يُعْلِمُ أنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ كُلِّ ما فِيهِ مِن جَلِيلِ مَعانِيهِ ولَطِيفِ مَبانِيهِ فَقالَ تَعالى: ﴿الر﴾ قالَ الرُّومانِيُّ: لَمْ تُعَدَّ الفَواصِلُ لِأنَّها لا تُشاكِلُ رُؤُوسَ الآياتِ لِأنَّها عَلى حَرْفَيْنِ، فَأُجْرِيَتْ مَجْرى الأسْماءِ النّاقِصَةِ، وإنَّما يَؤُمُّ بِالفَواصِلِ التَّمامَ، وأمّا ”طَهَ“ فَيُعَدُّ لِأنَّهُ يُشْبِهُ رُؤُوسَ آيِها - انْتَهى. وهَذا قَوْلُ مَن ذَهَبَ سَهْوًا إلى أنَّ السَّجْعَ مَقْصُودٌ في القُرْآنِ، وهو قَوْلٌ مَرْدُودٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ كَما مَضى القَوْلُ فِيهِ في آخِرِ سُورَةِ بَراءَةَ، فَإنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ نِسْبَتِهِ إلى أنَّهُ شِعْرٌ وبَيْنَ نِسْبَتِهِ إلى أنَّهُ سَجْعٌ، لِأنَّ السَّجْعَ صُنْعُ الكُهّانِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى ادِّعاءِ أنَّهُ كِهانَةٌ وذَلِكَ كُفْرٌ لا شَكَّ فِيهِ، وقَدْ أطْنَبْتُ فِيهِ [فِي] كِتابِي مَصاعِدُ النَّظَرِ، وبَيَّنْتُ مَذاهِبَ (p-٥)العادِينَ لِلْآياتِ وأنَّ مَرْجِعُها التَّوْقِيفَ مِثْلَ نَقْلِ القِراءاتِ سَواءٌ - واللَّهُ الهادِي. ولَمّا ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ الماضِيَةُ بِأنَّ هَذا الكِتابَ مُحْكَمٌ، وخُتِمَتْ بِالحِكْمَةِ المَقْصُودَةِ مِن قَصِّ أنْباءِ الرُّسُلِ، وكانَ السِّياقُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ في تَكْذِيبِهِمْ [بِهِ] في قَوْلِهِ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ [هود: ١٣] ودَلَّ عَلى أنَّهُ أُنْزِلَ بِعِلْمِهِ، ابْتُدِئَتْ هَذِهِ لِإتْمامِ تِلْكَ الدّالَّةِ بِالإشارَةِ إلى ما لَهُ مِن عُلُوِّ المَحَلِّ وبُعْدِ الرُّتْبَةِ، فَعَقَّبَ سُبْحانِهِ هَذِهِ المُشْكِلَةَ الَّتِي ألْقاها بِالأحْرُفِ المُقَطَّعَةِ وبانَ أنَّها مَعَ إشْكالِها عِنْدَ التَّأمُّلِ واضِحَةٌ بِقَوْلِهِ مُشِيرًا إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ القُرْآنِ وإلى هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿تِلْكَ﴾ أيِ الآياتُ العَظِيمَةُ العالِيَةُ ﴿آياتُ الكِتابِ﴾ أيِ الجامِعُ لِجَمِيعِ المُراداتِ. ولَمّا تَقَدَّمُ أوَّلَ سُورَتِي يُونُسَ وهُودَ وصْفُهُ بِالحِكْمَةِ والإحْكامِ والتَّفْصِيلِ، وُصِفَ هُنا بِأخَصِّ مِن ذَلِكَ فَقالَ تَعالى:﴿المُبِينِ﴾ أيِ البَيِّنِ في نَفْسِهِ أنَّهُ جامِعٌ مُعْجِزٌ لا يَشْتَبِهُ عَلى العَرَبِ بِوَجْهٍ، والمُوَضِّحِ لِجَمِيعِ ما حَوى، وهو جَمِيعُ المُراداتِ لِمَن أمْعَنَ التَّدَبُّرَ وأنْعَمَ التَّفْكِيرَ، ولِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ﴿ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [يوسف: ١١١] و ﴿ومَوْعِظَةٌ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: ١٢٠] والبَيانُ: إظْهارُ المَعْنى لِلنَّفْسِ بِما يَفْصِلُهُ (p-٦)عَنْ غَيْرِهِ وهو غَرَضُ كُلِّ حَكِيمٍ في كَلامِهِ، ويَزِيدُ عَلَيْهِ البُرْهانُ بِأنَّهُ إظْهارُ صِحَّةِ المَعْنى بِما يَشْهَدُ بِهِ، وأبانَ - لازِمٌ مُتَعَدٍّ؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب