الباحث القرآني

ولَمّا كانَ الَّذِي يُعَلِّمُ الإنْسانَ الشَّرَّ تارَةً مِنَ الجِنِّ وأُخْرى مِنَ الإنْسِ، قالَ مُبَيِّنًا لِلْوَسْواسِ تَحْذِيرًا مِن شَياطِينِ الإنْسِ كالتَّحْذِيرِ مِن شَياطِينِ الجِنِّ، مُقَدِّمًا الأهَمَّ الأضَرَّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَيانًا لـِ ”النّاسِ“ ولا تَعَسُّفَ فِيهِ لِما عُلِمَ مِن نَقْلِ القامُوسِ: ﴿مِنَ الجِنَّةِ﴾ أيِ الجِنِّ الَّذِينَ في غايَةِ الشَّرِّ والتَّمَرُّدِ والخَفاءِ ﴿والنّاسِ﴾ أيْ أهْلِ الِاضْطِرابِ والذَّبْذَبَةِ سَواءٌ كانُوا مِنَ الإنْسِ أوِ الجِنِّ، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ الجِنَّ مُسَلَّطٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ كَما هم مُسَلَّطُونَ عَلى الإنْسِ أوِ الجِنِّ، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ الجِنَّ مُسَلَّطٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ كَما هم مُسَلَّطُونَ عَلى الإنْسِ، فَيَدْخُلُ شَيْطانُ الجِنِّ في الجِنِّيِّ [كَما يَدْخُلُ في الإنْسِيِّ ] ويُوَسْوِسُ لَهُ - قالَهُ البَغَوِيُّ عَنِ الكَلْبِيِّ، وقالَ: ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ أنَّهُ [قالَ -]: جاءَ قَوْمٌ مِنَ الجِنِّ فَوَقَفُوا فَقِيلَ: مَن أنْتُمْ؟ قالُوا: أُناسٌ مِنَ الجِنِّ، قالَ: وهَذا مَعْنى قَوْلِ الفَرّاءِ. (p-٤٣٥)وقَدْ خُتِمَتِ السُّورَةَ بِما بُدِئَتْ بِهِ، والمَعْنى الثّانِيَ أوْفَقُ بَرْدِّ آخِرها عَلى أوَّلِها فَإنَّهُ يَكُونُ شَرْحًا لِلنّاسِ الَّذِينَ أُضِيفَتْ لَهُمُ الصِّفاتُ العُلى، والخَواطِرُ الوارِدَةُ عَلى الإنْسانِ قَدْ تَكُونُ وسْوَسَةً، وقَدْ تَكُونُ إلْهامًا، والإلْهامُ تارَةً يَكُونُ مِنَ اللَّهِ بِلا واسِطَةٍ، وتارَةً يَكُونُ بِواسِطَةِ المَلِكِ، ويَكُونُ كُلٌّ مِنهُما في القَلْبِ، والوَسْوَسَةُ تارَةً مِنَ الشَّيْطانِ، وأُخْرى مِنَ النَّفْسِ، وكِلاهُما يَكُونُ في الصَّدْرِ، فَإنْ كانَ الإنْسانُ مُراقِبًا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضّارَّ، وإلّا هَجَمَتِ الوارِداتُ عَلَيْهِ وتَمَكَّنَتْ مِنهُ ويَتَمَيَّزُ خَيْرُ الخَواطِرِ مِن شَرِّها بِقانُونِ الشَّرْعِ عَلى أنَّ الأمْرَ مُشْكَلٌ، فَإنَّ الشَّيْطانَ يَجْتَهِدُ في التَّلْبِيسِ، فَإنْ وافَقَ الشَّرْعَ فَلْيَنْظُرْ، فَإنْ كانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ الحِينِ أُولى مِن غَيْرِ تَفْوِيتٍ لِفَضِيلَةٍ أُخْرى هي أوْلى مِنهُ [بادَرَ إلَيْهِ -] وإنْ كانَ الخاطِرُ دُنْيَوِيًّا وأدّى الفِكْرُ إلى أنَّهُ نافِعٌ مِن غَيْرِ مُخالَفَةٍ لِلشَّرْعِ زادَ عَلى شِدَّةِ تَأمُّلِهِ الِاسْتِشارَةُ لِمَن يَثِقُ بِدِينِهِ وعَقْلِهِ، ثُمَّ الِاسْتِخارَةُ لِاحْتِمالِ أنْ تَتَوافَقَ عَلَيْهِ العُقُولُ، ويَكُونُ فِيهِ خَلَلٌ لِتَقْصِيرٍ وقَعَ في النَّظَرِ، وقَدْ جَعَلَ بَعْضُهم قانُونَ الخاطِرِ الرَّحْمانِيِّ أنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ ويَطْمَئِنَّ (p-٤٣٦)إلَيْهِ النَّفْسُ، والشَّيْطانِيُّ والنَّفْسِيُّ أنْ يَنْقَبِضَ عِنْدَهُ الصَّدْرُ وتَقْلَقَ النَّفْسُ بِشَهادَةِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ في البِرِّ والإثْمِ، ويُعْرَفُ الشَّيْطانِيُّ بِالحَمْلِ عَلى مُطْلَقِ المُخالَفَةِ، فَإنَّ الشَّيْطانَ لا غَرَضَ لَهُ في مُخالَفَةٍ بِعَيْنِها، فَإنْ حَصَلَ الذِّكْرُ زالَ ذَلِكَ، والنَّفْسانِيُّ مَلْزُومُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ سَواءٌ كانَ نَفْعًا أوْ ضُرًّا، ولا يَنْصَرِفُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ، وقَدْ يَكُونُ الشَّيْطانُ إنْسِيًّا مِن أزْواجٍ وأوْلادٍ ومَعارِفَ، ورُبَّما كانَ أضَرَّ مِن شَيْطانِ الجِنِّ، فَدَواؤُهُ المُقاطَعَةُ والمُجانَبَةُ بِحَسَبِ القُدْرَةِ، ومَن أرادَ قانُونًا عَظِيمًا لِمَن يُصاحِبُ ومَن يُجانِبُ فَعَلَيْهِ بِآيَةِ الكَهْفِ ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهم تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨] وكَما رَجَعَ مَقْطَعُها عَلى مَطْلَعِها كَذَلِكَ كانَ مِنَ المُناسَباتِ العَظِيمَةِ مُناسِبَةُ مَعْناها لِلْفاتِحَةِ لِيَرْجِعَ مَقْطَعُ القُرْآنِ عَلى مَطْلَعِهِ، ويَلْتَحِمُ مَبْدَؤُهُ بِمَرْجِعِهِ عَلى أحْسَنِ وجْهٍ، كَما تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ مِن سُورَةِ قُرَيْشٍ إلى هُنا سُورَةً سُورَةً، فَنَظَرَ هَذِهِ السُّورَةَ إلى الفاتِحَةِ والتِحامِها بِها مِن جِهَةِ أنَّ الفاتِحَةَ اشْتَمَلَتْ عَلى ثَلاثَةِ أسْماءٍ: اللَّهُ والرَّبُّ والمَلِكُ، وزادَتْ بِكَوْنِها أُمُّ القُرْآنِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِاشْتِمالِهِما عَلى جَمِيعِ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها (p-٤٣٧)صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وسُورَةُ النّاسِ عَلى الرَّبِّ والمَلِكِ والإلَهِ الَّذِي هو الأصْلُ في اسْمِ الجَلالَةِ، واخْتَصَّتِ الفاتِحَةُ بِالِاسْمِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَرِكَةٌ أصْلًا، فَلَمّا تَقَرَّرَ في جَمِيعِ القُرْآنِ أنَّهُ الإلَهُ الحَقُّ، وأنَّهُ لا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِ في الإلَهِيَّةِ يَحِقُّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ كَما أنَّهُ لا شَرِكَةَ في الِاسْمِ الأعْظَمِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ القُرْآنُ أصْلًا بِحَقٍّ ولا بِباطِلٍ، خَتَمَ القُرْآنَ الكَرِيمَ بِهِ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِالإلَهِ لِوُضُوحِ الأمْرِ وانْتِفاءِ اللَّبْسِ بِالكُلِّيَّةِ، وصارَ الِاخْتِتامُ مِمّا كانَ بِهِ الِافْتِتاحُ عَلى الوَجْهِ الأجْلى والتَّرْتِيبِ الأوْلى، وبَقِيَ الِاسْمانِ الآخَرانِ عَلى نُظُمِهِما، فَيَصِيرُ النُّظْمُ إذا ألْصَقْتَ آخِرَ النّاسِ بِأوَّلِ الفاتِحَةِ ”إلَهِ مَلِكِ رَبِّ [اللَّهُ رَبِّ -] رَحْمَنِ رَحِيمِ مَلِكِ“ إعْلامًا بِأنَّ مُسَمّى الِاسْمِ الأعْظَمِ هو الإلَهُ الحَقُّ، وهو المَلِكُ الأعْظَمُ لِأنَّهُ لَهُ الإبْداعُ وحُسْنُ التَّرْبِيَةِ والرَّحْمَةِ والعامَّةِ والخاصَّةِ، وحاصِلُ سُورَةِ النّاسِ الِاسْتِعاذَةُ بِهَذا الرَّبِّ المَوْصُوفِ مِن وسْوَسَةِ الصَّدْرِ المُثْمِرَةِ لِلْمُراقَبَةِ كَما أنَّ حاصِلَ سُورَةِ الفاتِحَةِ فَراغُ السِّرِّ مِنَ الشَّواغِلِ المُقْتَضِي لِقَصْرِ الهِمَمِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى والبَقاءِ في حَضْرَتِهِ الشَّمّاءِ بِقَصْرِ البَقاءِ عَلَيْهِ والحُكْمِ بِالفَناءِ عَلى ما سِواهُ، وذَلِكَ هو أعْلى دَرَجاتِ المُراقَبَةِ، فَإذا أرادَ الحَقَّ إعانَةَ عَبْدٍ حَمَلَهُ عَلى الِاسْتِعانَةِ [بِالِاسْتِعاذَةِ -] فَيَسَّرَ عَلَيْهِ صِدْقَ التَّوَكُّلِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ (p-٤٣٨)عابِدًا صادِقًا في العُبُودِيَّةِ فَيَكُونُ إلَهُهُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، ويَنْبَغِي أنَّهُ كُلَّما زادَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى تَقْرِيبًا ازْدادَ لَهُ عِبادَةً حَتّى يَنْفَكَّ مِن مَكْرِ الشَّيْطانِ بِالمَوْتِ كَما قالَ تَعالى لِأقْرَبِ خَلْقِهِ إلَيْهِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] ومِن نَقَصَ مِنَ الأعْمالِ شَيْئًا اعْتِمادًا عَلى أنَّهُ وصَلَ فَقَدْ تَزَنْدَقَ، وكانَ مَثَلُهُ مَثَلُ [شَخْصٍ في -] بَيْتٍ مُظْلِمٍ أسْرَجَ فِيهِ سِراجًا فَأضاءَ، فَقالَ: ما أوْقَدْتُ السِّراجَ إلّا لِيُضِيءَ البَيْتَ فَقَدْ أضاءَ، فَلا حاجَةَ لِي الآنَ إلى السِّراجِ، فَأطْفَأهُ فَعادَ الظَّلامُ كَما كانَ، وقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ ﷺ إلى افْتِتاحِ القُرْآنِ بَعْدَ خَتْمِهِ كَما أشارَ إلَيْهِ اتِّصالُ المَعْنى بِما بَيَّنْتُهُ، وسُمِّيَ ذَلِكَ الحالُّ المُرْتَحِلُ، وكَأنَّ القارِئَ ذَكَّرَ بِالأمْرِ بِالِاسْتِعاذَةِ إرادَةَ افْتِتاحِ قِراءَتِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: اسْتَعِذْ يا مَن خَتَمَ القُرْآنَ العَظِيمَ لِتَفْتَتِحَهُ، وكَأنَّهُ لَمّا اسْتَعاذَ بِما أمَرَ بِهِ في هَذِهِ السُّورَةِ قِيلَ لَهُ: ثُمَّ ماذا تَفْعَلُ؟ فَقالَ: أفْتَتَحَ، أوْ أنَّهُ لَمّا أمَرَ بِالِاسْتِعاذَةِ قالَ: ماذا أفْعَلُ؟ فَقِيلَ: افْتَتَحَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي تَجِبُ مُراقَبَتُهُ عِنْدَ خَواتِمِ الأُمُورِ وفَواتِحِها، لِأنَّهُ لا يَكُونُ أمْرٌ إلّا بِهِ، أوْ أنَّ البَسْمَلَةَ مَقُولُ القَوْلِ في ﴿قُلْ﴾ [الناس: ١] عَلى سَبِيلِ مِن ﴿أعُوذُ﴾ [الناس: ١] أوْ بَدَلٌ مِن ﴿بِرَبِّ النّاسِ﴾ [الناس: ١] وكَأنَّهُ أمَرَ بِالتَّعَوُّذِ، [والتَّسْمِيَةِ أمْرٌ بِالدَّفْعِ (p-٤٣٩)والجَلْبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا أمَرَ بِهَذا التَّعَوُّذِ -] وكانَ قَدْ قالَ سُبْحانَهُ ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] عُلِمَ أنَّ المُرادَ ابْتِداؤُهُ بِالقُرْآنِ فَنِسْبَتُها إلى الفاتِحَةِ نِسْبَةُ المَعْلُولِ إلى عِلَّتِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: اسْتَعِذْ بِهَذا الرَّبِّ الأعْظَمِ الَّذِي لا مَلِكَ ولا إلَهَ غَيْرُهُ لِأنَّ لَهُ الحَمْدُ، و[هُوَ -] الإحاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهو القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فَهو القاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ في المَعادِ وهو المَلْجَأُ والمَفْزَعُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، فَإنَّ الِاسْمَ هو الوَصْفُ والمُرادُ بِهِ الجِنْسُ، فَمَعْنى بِسْمِ اللَّهِ أيْ بِوَصْفِهِ أوْ بِأوْصافِهِ الحُسْنى، والحَمْدُ هو الثَّناءُ بِالوَصْفِ الجَمِيلِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ بِأوْصافِهِ الحُسْنى لِأنَّ [لَهُ -] الحَمْدَ وهو جَمِيعُ الأوْصافِ الحُسْنى فَإنَّ البَدْءَ فِيهِ يَحْتاجُ إلى قُدْرَةٍ، فَلَهُ القُدْرَةُ التّامَّةُ، أوْ إلى عِلْمٍ فالعِلْمُ صِفَتُهُ، أوْ كَرَمٍ فَكَذَلِكَ، والحاصِلُ أنَّهُ كَأنَّهُ [قِيلَ -]: تَعَوَّذَ بِهِ مِنَ الشَّيْطانِ بِما لَهُ مِنَ الِاسْمِ الَّذِي لَمْ يُسامِّهُ فِيهِ أحَدٌ لِكَوْنِهِ جامِعًا لِجَمِيعِ الأسْماءِ الحُسْنى أيِ الصِّفاتِ الَّتِي لا يَشُوبُها نَقْصٌ خُصُوصًا صِفَةُ الرَّحْمَةِ العامَّةِ الَّتِي شَمَلَتْنِي أكْنافُها، وأقامَنِي إسْعافُها، ثُمَّ الرَّحْمَةُ الخاصَّةُ الَّتِي أنا أجْدَرُ النّاسِ بِاسْتِمْطارِها (p-٤٤٠)لِما عِنْدِي مِنَ النَّقْصِ المانِعِ لِي مِنها والمُبْعَدِ لِمَنِ اتَّبَعَ الحُظُوظَ عَنْها، فَأسْألُهُ أنْ يَجْعَلَنِي مَن أهْلِها، ويَحْمِلَنِي في الدّارَيْنِ بِوَصْلِها، لِأكُونَ مَن أهْلِ رِضاهُ، فَلا أعْبُدُ إلّا إيّاهُ، ولَكَ أنْ تُقَرِّرَ الِاتِّصالَ والِالتِحامَ بِوَجْهٍ آخَرَ ظاهِرِ الكَمالِ بَدِيعِ النِّظامِ فَتَقُولُ: لَمّا قَرُبَ التِقاءُ نِهايَةِ الدّائِرَةِ السُّورِيَّةِ آخِرُها بِأوَّلِها ومُفَصَّلُها بِمُوصِلِها اشْتَدَّ تَشاكُلُ الرَّأْسَيْنِ، فَكانَتْ هَذِهِ السُّوَرُ الثَّلاثَةُ الأخِيرَةُ مُشاكِلَةً لِلثَّلاثِ الأُوَلِ في المَقاصِدِ، وكَثْرَةِ الفَضائِلِ والفَوائِدِ: الإخْلاصُ بِسُورَةِ التَّوْحِيدِ آلُ عُمْرانَ، وهو واحِدٌ، والفَلَقُ لِلْبَقَرَةِ طِباقًا ووِفاقًا، فَإنَّ الكِتابَ الَّذِي هو مَقْصُودُ سُورَةِ البَقَرَةِ خَيْرُ الأمْرِ، فَهي لِلْعَوْنِ بِخَيْرِ الأمْرِ، والفَلَقُ لِلْعِوَذِ مِن شَرِّ الخَلْقِ المُحْصِي لِكُلِّ خَيْرٍ، وفي البَقَرَةِ ﴿أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: ١٠٢] - الآياتُ، ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: ١٠٩] [الآيَةُ -]، والنّاسُ لِلْفاتِحَةِ، فَإنَّهُ إذا فَرَغَ الصَّدْرُ الَّذِي هو مَسْكَنُ القَلْبِ الَّذِي هو مَرْكَبُ الرُّوحِ الَّذِي هو مَعْدِنُ العَقْلِ كانَتِ المُراقَبَةُ، فَكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ تَقْدِيسِ النَّفْسِ بِالتَّوْحِيدِ والإخْلاصِ، ثُمَّ الِاسْتِعاذَةِ مَن كُلِّ شَرٍّ ظاهِرٍ ومَن كُلِّ سُوءٍ باطِنٍ لِلتَّأهُّلِ لِتِلاوَةِ سُورَةِ المُراقَبَةِ بِما دَعا إلَيْهِ الحالُّ المُرْتَحِلُ وما بَعْدَها (p-٤٤١)مِنَ الكِتابِ، عَلى غايَةٍ مِنَ السَّدادِ والصَّوابِ، وكَأنَّهُ اكْتَفى أوَّلًا بِالِاسْتِعاذَةِ المَعْرُوفَةِ كَما يَكْتَفِي في أوائِلِ الأُمُورِ بِأيْسَرِ مَأْمُورٍ، فَلَمّا خَتَمَ الخَتْمَةَ جُوزِيَ بِتَعَوُّذٍ مِنَ القُرْآنِ، تَرْقِيَةً إلى مَقامِ الإحْسانِ، فاتَّصَلَ الآخَرُ بِالأوَّلِ أيِ اتِّصالٌ بِلا ارْتِيابٍ، واتَّحَدَ بِهِ كُلَّ اتِّحادٍ - إنَّ في ذَلِكَ لِذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ، هَذا ما يُسِرُّهُ الله مِن مَدْلُولاتٍ نُظُومِها وجُمَلِها، بِالنِّسْبَةِ إلى مَفْهُوماتِها وعِلَلِها، وبَقِيَ النَّظَرُ إلى ما يُشِيرُ إلَيْهِ أعْدادُ كَلِماتِها، بِلَطائِفَ رُمُوزِها وإشاراتِها، فَهي عِشْرُونَ كَلِمَةً تُوازِيها إذا حَسَبْتَ مِن أوَّلِ النُّبُوَّةِ سَنَةَ عُمْرَةِ القَضاءِ وهي السّابِعَةُ مِنَ الهِجْرَةِ، بِها تَبَيَّنَ الأمْنُ مِمّا وسْوَسَ بِهِ الشَّيْطانُ سَنَةَ عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ مِن أجْلِ رُؤْيا النَّبِيِّ ﷺ لِدُخُولِ البَيْتِ والطَّوافِ بِهِ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمائِرَ الثَّلاثَ كانَتْ ثَلاثًا وعِشْرِينَ فَوازَتِ السَّنَةَ العاشِرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ وهي سَنَةُ حِجَّةِ الوَداعِ وهي القاطِعَةُ لِتَأْثِيرِ وسْواسِ الشَّيْطانِ الَّذِي كانَ في أوَّلِ السَّنَةِ الحادِيَةَ عَشْرَةَ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ إلى العَرَبِ بِأمْرِ الرِّدَّةِ، فَأعاذَ اللَّهُ مِن شَرِّهِ بِهِمَّةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حَتّى رَدَّ النّاسَ إلى الدِّينِ وأنْزَلَ بِهِ وسْواسَ الشَّياطِينِ المُفْسِدِينَ، [فانْتَظَمَتْ كَلِمَةُ المُسْلِمِينَ -] (p-٤٤٢)تَصْدِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ في حِجَّةِ الوَداعِ «إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أيِسَ أنْ يُعْبَدَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ بَعْدَ اليَوْمِ» فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها كَلِماتِ البَسْمَلَةِ صارَتْ سَبْعًا وعِشْرِينَ تَوازِي سَنَةَ اسْتِحْكامِ أمْرِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ الفارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي ما سَلَكَ فَجًّا إلّا سَلَكَ الشَّيْطانُ فَجًّا غَيْرَهُ، وذَلِكَ سَنَةَ أرْبَعَ [عَشْرَةَ -] مِنَ الهِجْرَةِ، هَذا بِالنَّظَرِ.إلى كَلِماتِها، فَإنْ نَظَرْتَ إلَيْها مِن جِهَةِ الحُرُوفِ كانَتْ لَها أسْرارٌ كُبْرى مِن جِهَةٍ أُخْرى، مِنها أنَّ كَلِماتِها مَعَ كَلِماتِ الفاتِحَةِ انْتَظَمَتْ مِن سِتَّةٍ وعِشْرِينَ حَرْفًا وهي ما عَدا الثّاءَ المُثَلَّثَةَ والزّاءُ الظّاءُ المَعْجَمَةُ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ التِّسْعَةِ [والعِشْرِينَ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما مِنَ اثْنَيْنِ و-] عِشْرِينَ حَرْفًا اشْتَرَكَتا في ثَمانِيَةَ عَشَرَ مِنها، واخْتَصَّتْ كُلُّ [واحِدَةٍ -] مِنهُما بِأرْبَعَةٍ: الفاتِحَةُ بِالحاءِ والطّاءِ المُهْمَلَتَيْنِ، والضّادِ والغَيْنِ المُعْجَمَتَيْنِ، والنّاسِ بِالجِيمِ والخاءِ والشِّينِ المُعْجَمَتَيْنِ والفاءِ، وقالَ ابْنُ مَيْلَقَ: سَقَطَ مِنَ الفاتِحَةِ سَبْعَةُ أحْرُفٍ ”ثَجَ خَزَ شَظَفَ“ - انْتَهى، فَلَعَلَّ في ذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - إشارَةٌ إلى [أنَّ - ] تَكامُلَ نُزُولِ القُرْآنِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ في عَدَدِ الحُرُوفِ الَّتِي اشْتَمَلَ [عَلَيْها -] كُلٌّ مِن سُورَتِي أوَّلِهِ وآخِرِهِ مِنَ السِّنِينَ وذَلِكَ اثْنانِ وعِشْرُونَ، والثّالِثَةُ والعِشْرُونَ سَنَةً القُدُومُ عَلى مَنزِلِهِ (p-٤٤٣)الحَيِّ القَيُّومِ سُبْحانَهُ وتَعالى ما أعْظَمَ شَأْنَهُ، وأعَزَّ سُلْطانَهُ، وأقْوَمَ بُرْهانَهُ. وقالَ مُؤَلِّفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: وهَذا تَمامُ ما أرَدْتُهُ مِن نَظْمِ الدُّرَرِ مِن تَناسُبِ الآيِ والسُّوَرِ، تُرْجُمانُ القُرْآنِ مُبْدِي مُناسَباتِ الفُرْقانِ، التَّفْسِيرُ الَّذِي لَمْ تَسْمَعِ الأعْصارُ بِمِثْلِهِ، ولا فاضَ [عَلَيْها -] مِنَ التَّفاسِيرِ عَلى كَثْرَةِ أعْدادِها كَصَيِّبِ وبْلِهِ، فَرَّغْتُهُ في المُسَوَّدَةِ يَوْمَ الثُّلاثاءَ سابِعَ شَعْبانَ سَنَةَ خَمْسٍ وسَبْعِينَ وثَمانِمِائَةٍ، بِمَسْجِدِي مِن رَحْبَةِ بابِ العِيدِ بِالقاهِرَةِ المُغْرِيَةِ، وكانَ ابْتِدائِي فِيهِ في شَعْبانَ سَنَةَ [إحْدى وسِتِّينَ، فَتِلْكَ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً كامِلَةً، وفَرَّغْتُهُ في هَذِهِ المُبْيَضَّةِ عَصْرَ يَوْمِ الأحَدِ عاشِرَ شَعْبانَ سَنَةَ -] اثْنَتَيْنِ وثَمانِينَ وثَمانِمِائَةٍ، بِمَنزِلِي المُلاصِقِ لِلْمَدْرَسَةِ البادِرائِيَّةِ مِن دِمَشْقَ، فَتِلْكَ اثْنَتانِ وعِشْرُونَ سَنَةً بِعَدَدٍ سِنِي النُّبُوَّةِ الزّاهِرَةِ الأنِيسَةِ العَلِيَّةِ الطّاهِرَةِ المُبارَكَةِ الزَّكِيَّةِ، ولَوْلا مَعُونَةُ اللَّهِ أضْحى مَعْدُومًا، أوْ ناقِصًا مَخْرُومًا، فَإنِّي بَعْدَ ما تَوَغَّلْتُ فِيهِ واسْتَقامَتْ لِي مَبانِيهِ، فَوَصَلْتُ إلى قَرِيبٍ [مِن -] نِصْفِهِ، فَبالَغَ [الفُضَلاءُ -] في وصْفِهِ (p-٤٤٤)بِحُسْنِ سَبْكِهِ وغَزارَةِ مَعانِيهِ وإحْكامِ رَصْفِهِ، دَبَّ داءُ الحَسَدِ في جَماعَةٍ أُولِي النَّكَدِ، والمَكْرِ واللَّدَدِ، يُرِيدُونَ الرِّئاسَةَ بِالباطِلِ، وكُلٌّ مِنهم مِن جَوْهَرِ العِلْمِ عاطِلٌ، مَدَّ لَيْلُ الجَهْلِ فِيهِمْ ظَلامَهُ، وأثارَ نَقْعَ السَّفَهِ عَلى رُؤُوسِهِمْ سَوادُهُ وقَتامُهُ، صَوَّبُوا سِهامَ الشُّرُورِ، والأباطِيلِ وأنْواعِ الزُّورِ، فَأكْثَرُوا التَّشْيِيعَ بِالتَّشْنِيعِ، والتَّقْبِيحِ والتَّبْشِيعِ، والتَّخْطِئَةِ والتَّضْلِيلِ، بِالنَّقْلِ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَصُنِّفَتْ في ذَلِكَ الأقْوالُ القَوِيمَةُ، في حُكْمِ النَّقْلِ مِنَ الكُتُبِ القَدِيمَةِ، بَيَّنَتْ فِيهِ أنَّ ذَلِكَ سُنَّةً مُسْتَقِيمَةً، لِتَأْيِيدِ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ العَظِيمَةِ، وأخْرَجَتْ بِذَلِكَ [نَصَّ -] الشّافِعِيِّ، وكَلامَ النَّوَوِيِّ والرّافِعِيِّ، واسْتَكْتَبَتْ عَلى الكِتابِ: العُلَماءُ الأنْجابُ، فَكَتَبُوا ما أوْدَعَتْهُ [”مَصاعِدُ -] النَّظَرِ لِلشِّرافِ عَلى مَقاصِدِ السُّورِ“ فَأطْفَأ اللَّهُ نارَهُمْ، وأظْهَرَ عَوارَهُمْ، وشَهَرَ خِزْيَهم وعارَهُمْ، ثُمَّ قامُوا في بِدْعَةٍ دائِمِ المَعْرُوفِ، فَصَنَّفْتُ فِيها القَوْلَ المَعْرُوفَ، وبَيَّنْتُ مُخالَفَتَهم لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ، ووُقُوعُهم في عَيْنِ الفِتْنَةِ، وخَرْقُهم لِأعْظَمِ الجَنَّةِ، وصَرِيحِ [نَصِّ -] الشّافِعِيِّ ونُقُولِ العُلَماءِ، فَكانُوا كَمَن ألْقَمَ الحَجَرَ أوْ مُلِئَ فَمُهُ بِالماءِ، ثُمَّ قامُوا في فِتْنَةِ ابْنِ الفارِضِ، وكُلُّهم مُعانِدٌ مُعارِضٌ، (p-٤٤٥)وألَّبُوا عَلَيَّ رُعاعَ النّاسِ، فاشْتَدَّ شُعاعُ البَأْسِ، فَكادُوا أنْ يُطَبِّقُوا عَلى الِانْعِكاسِ، وصَوَّبُوا طَرِيقَ الإلْحادِ، وبالَغُوا في الرَّفْعِ مَن أهْلِ الِاتِّحادِ، ولَجُوا بِالخِصامِ في العِنادِ، وأفْتَوْا بِمَحْضِ الباطِلِ، وبَثُّوا السُّمَّ القاتِلَ، إلّا ناسًا قَلِيلًا، كانَ اللَّهُ بِنَصْرِهِمْ عَلى ضَعْفِهِمْ كَفِيلًا، فَسَألْتُهم سُؤالًا، جَعَلَهم ضُلّالًا جُهّالًا، فَتَداوَلُوهُ فِيما بَيْنَهم وتَناقَلُوهُ وعَجَزُوا عَنْ جَوابِهِ بَعْدَ أنْ رامُوهُ أشَدَّ الرَّوْمِ، وحاوَلُوهُ فَظَهَرَ لِأكْثَرِ النّاسِ حالَهُمْ، واشْتَهَرَ بَيْنَهم ضَلالُهُمْ، وغَيُّهُمُ الواضِحُ ومُحالُهُمْ، وصَنَّفْتُ في ذَلِكَ عِدَّةُ مُصَنَّفاتٍ، بانَتْ فِيها مُخازِيهِمْ وظَهَرَتِ المُخَبَّآتُ، مِنها ”صَوابُ الجَوابِ لِلسّائِلِ المُرْتابِ“ ومِنها ”القارِضُ لِتَكْفِيرِ ابْنِ الفارِضِ“ ومِنها ”تَدْمِيرُ المَعارِضِ في تَكْفِيرِ ابْنِ الفارِضِ“ ومِنها ”تَنْبِيهُ الغَبِيِّ عَلى تَكْفِيرِ ابْنِ عَرَبِيٍّ“ ومِنها ”تَحْذِيرُ [العِبادِ -] مَن أهِلَ العِنادِ بِبِدْعَةِ الِاتِّحادِ“ أُنْفَقْتُ فِيها عُمْرًا مَدِيدًا، وبَدَّدُوا فِيها أوْقاتِي - بَدَّدَهُمُ اللَّهُ تَبْدِيدًا، وهَدَّدَ أرْكانَهم وأعْضادَهم تَهْدِيدًا، وقَرَّعَتْهم بِالعَجْزِ عَنِ الجَوابِ، الكاشِفِ لِلِارْتِيابِ، صَباحًا ومَساءً، وإعادَةً وإبْداءً، فَحَمَلَهُمُ التَّقْرِيعُ، والتَّوْبِيخُ والتَّبْخِيعُ، عَلى كِتابَةِ جَوابٍ، لَمْ يَخْلُ مِنَ ارْتِجاجٍ واضْطِرابٍ، وشَكٍّ (p-٤٤٦)وارْتِيابٍ، بَيَّنْتُ أنَّ جامِعَهُ [أخْطَأ -] في جَمِيعِهِ الصَّوابَ، وكَفَرَ في أرْبَعَةِ مَواضِعَ كُفْرًا صَرِيحًا، وكَذَّبَ في ثَمانِيَةٍ فَصارَ [بِذَلِكَ -] جَرِيحًا، بَلْ هالِكًا طَرِيحًا، فَأطَلْتُ بِذَلِكَ التَّقْرِيعِ، والتَّوْبِيخِ والتَّبْشِيعِ، فَذَلَّتْ أعْناقُهُمْ، وضَعُفَ شِقاقُهُمْ، وخَفِيَ نِفاقُهُمْ، غَيْرَ أنَّهُ حَصَلَ في كُلِّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ الوَقائِعِ، مِنَ الشُّرُورِ وعَجائِبِ المَقْدُورِ، ما غَطّى ظَلامُهُ الشُّمُوسَ الطَّوالِعَ. وطالَ الأمْرُ في ذَلِكَ سِنِينَ، وعَمَّ الكَرْبُ حَتّى كَثُرَ الأنِينُ، والتَّضَرُّعُ في الدُّعاءِ والحَنِينِ، وثَبَّتَ اللَّهُ ورَزَقَ الصَّبْرَ والأناةَ حَتّى أكْمَلَ هَذا الكِتابَ، عَلى ما تَراهُ مِنَ الحُسْنِ والصَّوابِ. وقَدْ قُلْتُ مادِحًا لِلْكِتابِ المَذْكُورِ، بِما أبانَ عَنْهُ مِن عَجائِبِ المَقْدُورِ، وغَرائِبِ الأُمُورِ، شارِحًا لِحالِي، وحالِهِمْ وظَفْرِ آمالِي، [و -] خَيْبَةِ آمالِهِمْ مِن مَجْزُوءِ الرَّجَزِ، وضَرْبُهُ مَقْطُوعٌ، والقافِيَةُ مُتَواتِرٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ، مُسَمِّيًا لَهُ بِـ ”كِتابِ لَمّا“ لِأنَّ جُلَّ مَقْصُودِهِ بَيانُ ارْتِباطِ الجُمَلِ بَعْضِها بِبَعْضٍ حَتّى أنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَكُونُ آخِذَةَ بِحُجْزَةٍ ما أمامَها مُتَّصِلَةٍ بِها، وذَلِكَ هو المَظْهَرُ المَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ وسِرِّهِ ولِبابِهِ، الَّذِي هو [لِلْكَلامِ -] بِمَنزِلَةِ الرُّوحِ وبَيانِ مَعانِي المُفْرَداتِ، وكُلُّ جُمْلَةٍ عَلى حِيالِها بِمَنزِلَةِ الجَسَدِ، فالرُّوحُ هو المَقْصُودُ الأعْظَمُ يُدْرِكُ ذَلِكَ مِن يَذُوقُ (p-٤٤٧)ويَفْهَمُ، ويَسْرِي ذِهْنُهُ في مَيادِينِ التَّراكِيبِ ويَعْلَمُ، و”لِما“ طَرَفَ يُرادُ بِها ثُبُوتُ الثّانِي مِمّا دَخَلَ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ الأوَّلِ عَلى غايَةِ المُكْنَةِ بِمَعْنى أنَّها كالشُّرُوطِ تَطْلُبُ جُمْلَتَيْنِ يَلْزَمُ لِذَلِكَ المَلْزُومِ، فَتَمَّ الكِتابُ في هَذا النَّظْمِ بِـ ”لَمّا“ لِأنِّي أكْثَرْتُ مِنَ اسْتِعْمالِها فِيهِ لِهَذا الغَرَضِ: ؎هَذا كِتابُ لَمّا لَمَّ المَعانِي لَمًّا ؎غَدَتْ بُحُورُ عِلْمِهِ تَمُدُّ مَدًّا جَمًّا ؎ [ بَشَّرْتُ مَن يَحْسُدُهُ بِأنْ يَمُوتَ غَمًّا -] ؎فَإنَّ قَصْدِي صالِحٌ جاهَدْتُ فِيهِ الهَمّا ؎فَرَبُّنا يَقْبَلُهُ كَيْفِيَّةً وكَمًّا ؎فَبِالَّذِي أرَدْتُهُ لَقَدْ أحاطَ عِلْمًا ؎كابَدْتُ فِيهِ زَمَنًا مِن حاسِدِي ما غَمّا ؎عَدُّوا سِنِينَ عَدَدًا يَسْقُونَ قَلْبِي السُّما ؎وكَمْ دَهُونِي مَرَّةً وكَمْ رَمَوْنِي سَهْمًا ؎وأوْسَقُوا قَلْبِي أذًى وأوْسَعُونِي ذَمًّا ؎وكَمْ بَغُونِي عَثْرَةً فَما رَأوْا لِي جُرْمًا ؎وفَتَرُوا مِن قاصِدِي هَمْهَمَةً وعَزْمًا ؎(p-٤٤٨)وأوْعَدُوهم بِالأذى وأوْهَنُوهم رَجْمًا ؎ألْقى إذا اشْتَدَّ لَظًى أذًى إذا هَمَّ رَجْمًا ؎ألْقى إذا اللَّيْلُ دَجا وبِالِبِلا ادْلَهَمّا ؎أذاهم وظُلْمُهم بِدَعْوَةٍ في الظَّلْما ؎أسْتَصْرِخُ اللَّهَ بِهِمْ أقُولُ يا اللَّهُمّا ؎يا رَبِّ إنِّي جاهِدٌ فافْرِجْ إلَهِيَ الغَمّا ؎لا ذَنْبَ لِي عِنْدَهم إلّا الكِتابُ لَمّا ؎جَرَتْ يَنابِيعُ الهُدى مِنهُ فَصارَتْ يَمًّا ؎صَنَعْتُهُ وفي بِحُورِ عِلْمِهِ ما طَمّا ؎وقَدْ عَلا تَرْكِيبُهُ وعادَ يَحْلُو نَظْمًا ؎عَمَلْتُهُ نَصِيحَةً لِمَن يُحِبُّ العِلْما ؎أوْدَعْتُهُ فَرائِدًا يَرْقُصُ مِنهُ الفَهِما ؎تَجْلُو العَمى مَن لُطْفِها وتُسْمِعُ الأصَمّا ؎خُصَّ نَفِيسُ عِلْمِها ولِلْأناسِيِّ عَمّا ؎تَنْطِقُ مَن تَغَنّى بِها وإنْ يَكُونُوا بُكْما ؎أفْعالُها جَلِيلَةٌ أُعِيذُها بِالأسْما ؎سَهَّلَ رَبِّي أمْرَهُ عَلَيَّ حَتّى تَمّا ؎(p-٤٤٩)فِي أرْبَعٍ وعَشْرَةٍ مِنَ السِّنِينَ صُمًّا ؎قالَ لِسانُ عَدِّها دُونَكَ بَدْرًا تَمّا ؎ولَيْسَ يُلْغِي ناقِصًا يا صاحِبِي يَوْمًا ؎أُعِيذُهُ بِالمُصْطَفى مِن شَرِّ وغْدٍ ذَمًّا ؎ومِن حَسُودٍ قَدْ غَدًا مِن أجْلِهِ مُهْتَمًّا ؎فَلَيْسَ يَبْغِي ذَمَّهُ إلّا بَغِيضًا أعَمّا ؎كَفاهُ رَبِّي شَرَّهم وزانَ مِنهُ الأسْما ؎ورَدَّ في تَدْبِيرِهِمْ تَدْمِيرَهم والغُرْما ؎ [ورَدَّهم بِغَيْظِهِمْ لَمّا يَنالُوا غُلْما -] ؎وزادَهُ سَعادَةً ولازَمَتْهُ النِّعَما قالَ ذَلِكَ مُنْشِبهٌ أحْوَجَ الخَلائِقِ إلى عَفْوِ الخالِقِ أبُو الحَسَنِ إبْراهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَسَنِ الرِّباطِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي بَكْرٍ البِقاعِيُّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قائِلًا: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دائِمًا أبَدًا إلى يَوْمِ الدِّينِ، وحَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلِ. [ وكانَ الفَراغُ مِن هَذا الجُزْءِ عَلى يَدِ أقَلِّ عَبِيدِ اللَّهِ وأحْوَجِهِمْ إلى لُطْفِ اللَّهِ وعَفْوِهِ عَبْدِ الكَرِيمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ المُحَوِّلَيِّ الشّافِعِيِّ نَزِيلُ بَلَدِ (p-٤٥٠)اللَّهِ الحَرامِ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ولِوالِدَيْهِ ولِمَشايِخِهِ ولِلْمُسْلِمِينَ -. . . بِمَكَّةَ المُشَرَّفَةَ في يَوْمِ السَّبْتِ المُبارَكِ السّادِسِ والعِشْرِينَ مِن شَهْرِ صَفَرِ الخَيْرِ سَنَةَ أرْبَعٍ وأرْبَعِينَ وتِسْعمِائَةٍ، وقَدْ تَجاوَزَ سِنِي الآنَ خَمْسَةً وسَبْعِينَ عامًا - أسْألُ اللَّهَ حُسْنَ الخاتِمَةِ والثَّباتِ عَلى دِينِ الإسْلامِ والوَفاةِ بِأحَدِ حَرَمَيْهِ بِمَنِّهِ، وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دائِمًا أبَدًا إلى يَوْمِ الدِّينِ وحَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ -] ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. وقالَ بَعْضُ تَلامِذَةِ المُصَنِّفِ وهو العَرْسُ خَلِيلُ بْنُ مُوسى المُقْرِئِ مادِحًا لِلْكِتابِ المَذْكُورِ المُسَمّى بـَ ”لَمّا“: ؎بُرْهانَ دِينِ [اللَّهِ -] أضْحى مُوضِحًا ∗∗∗ أسْرارَ قَوْلِ اللَّهِ في القُرْآنِ ؎وأتى بِما تَرَكَ الوَرى مِن بَعْدِهِ ∗∗∗ تَمْشِي الوَرا أبَدًا مَدى الأزْمانِ ؎فَمَنِ ادَّعى نَسْجًا عَلى مِنوالِهِ ∗∗∗ فَقَدِ ادَّعى ما لَيْسَ في الإمْكانِ ؎وإذا المُفَسِّرُ رامَ يَوْمًا أنَّهُ ∗∗∗ بِمِثالِهِ يَأْتِي بِلا إذْعانِ ؎قُلْنا لَهُ فَسِّرْ وقايِسْ بَعْدَ ذا ∗∗∗ ولَنا الدَّلِيلُ عَلَيْكَ بِالبُرْهانِ وكانَ الفَراغُ مِن نَسْخِ هَذا النِّصْفِ الأخِيرِ مِنَ الكِتابِ المُسَمّى بِـ ”لَمّا“ مُناسَباتِ القُرْآنِ العَظِيمِ عَلى مَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ في (p-٤٥١)اللَّيْلَةِ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ مِن شَهْرِ جُمادى الأُولى مِن شُهُورِ سَنَةِ سَبْعٍ وتِسْعِينَ وألْفٍ عَلى يَدِ أحْقَرِ العِبادِ، وأحْوَجِهِمْ إلى مَغْفِرَةِ رَبِّهِ الجَوادُ، مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ البَدْرَشِينِّيُّ بَلَدًا، الشّافِعِيُّ مَذْهَبًا، مُصَلِّيًا ومُسْلِمًا عَلى أفْضْلِ وأكْمَلِ وأجْمَلِ خَلْقِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وعَلى آلِهِ وأصْحابِهِ وأزْواجِهِ وذُرِّيَّتِهِ وأهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبَيْنَ الطّاهِرِينَ صَلاةً وسَلامًا دائِمَيْنِ مُتَلازِمَيْنِ بِدَوامِ مُلْكِ اللَّهِ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وحَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ آمِينَ آمِينَ. ؎إنْ تَلْقَ عَيْبًا فَلا تَعْجَلْ بِسَبِّكَ لِي ∗∗∗ إنِّي امْرُؤٌ لَسْتُ مَعْصُومًا مِنَ الزَّلَلِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب