الباحث القرآني

ولَمّا أكْمَلَ الِاسْتِعاذَةَ مِن جَمِيعِ وُجُوهِها الَّتِي مَدارُها الإحْسانُ أوِ العَظَمَةُ أوِ القَهْرُ أوِ الإذْعانُ والتَّذَلُّلُ، ذَكَرَ المُسْتَعاذَ مِنهُ فَقالَ: ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ﴾ هو اسْمٌ بِمَعْنى الوَسْوَسَةِ كالزِّلْزالِ بِمَعْنى الزَّلْزَلَةِ، والمُرادُ بِالمُوَسْوِسِ، سُمِّيَ بِفِعْلِهِ مُبالَغَةً لِأنَّهُ صِفَتُهُ الَّتِي هو غايَةُ الضَّراوَةِ عَلَيْها كَما بُولِغَ في العادِلِ بِتَسْمِيَتِهِ بِالعَدْلِ، والوَسْوَسَةُ الكَلامُ الخَفِيُّ: إلْقاءُ المَعانِي إلى القَلْبِ في خَفاءٍ وتَكْرِيرٍ، كَما أنَّ الكَلِمَةَ الدّالَّةَ عَلَيْها ”وسَّ“ مُكَرَّرَةً، وأصْلُها صَوْتُ الحُلِيِّ، وحَدِيثُ النَّفْسِ، وهَمْسُ الكِلابِ، ضُوعِفَ لَفْظُهُ مُناسَبَةً لِمَعْناهُ لِأنَّ المُوَسْوِسَ يُكَرِّرُ ما يَنْفُثُهُ في القَلْبِ [ويُؤَكِّدُهُ في خَفاءٍ -] لِيَقْبَلَ، ومَصْدَرُهُ بِالكَسْرِ كالزِّلْزالِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وزُلْزِلُوا زِلْزالا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١] وكُلُّ مُضاعَفٍ مِنَ الزَّلْزَلَةِ والرَّضْرَضَةِ مَعْناهُ مُتَكَرِّرٌ، والمُوَسْوِسُ مِنَ (p-٤٣١)الجِنِّ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ - كَما في الصَّحِيحِ، فَهو يُوَسْوِسُ بِالذَّنْبِ سِرًّا لِيَكُونَ أجْلى، ولا يَزالُ يُزَيِّنُهُ ويُثِيرُ الشَّهْوَةَ الدّاعِيَةَ إلَيْهِ حَتّى يُواقِعَهُ الإنْسانُ، فَإذا واقَعَهُ وسْوَسَ لِغَيْرِهِ أنَّ فُلانًا [فَعَلَ -] كَذا حَتّى يَفْضَحَهُ بِذَلِكَ، فَإذا افْتَضَحَ ازْدادَ جُرْأةً عَلى أمْثالِ ذَلِكَ لِأنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وقَعَ ما كُنْتُ أحْذَرُهُ مِنَ القالَةِ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ الَّذِي كانَ، وشَرُّهُ التَّحْبِيبُ إلى الإنْسانِ بِما يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ حَتّى يُشاكِلَهُ في رَذِيلَةِ الطَّبْعِ وظُلْمَةِ النَّفْسِ، فَيَنْشَأُ مِن ذَلِكَ شُرُورٌ لازِمَةٌ ومُتَعَدِّيَةٌ أضُرُّها الكِبَرُ والإعْجابُ اللَّذانِ أهْلَكا الشَّيْطانَ، فَيُوقِعُ الإنْسانُ بِها فِيما أوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهِ، ويَنْشَأُ مِنَ الكِبَرِ الحِقْدُ والحَسَدُ يَتَرَشَّحُ مِنهُ بَطَرُ الحَقِّ - وهو عَدَمُ قَبُولِهِ، ومِنهُ الكُفْرُ والفُسُوقُ والعِصْيانُ، وغَمَضُ النّاسِ - وهو احْتِقارُهُمُ المَعْلُومُ مِن قَوْلِ الشَّيْطانِ ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ [ص: ٧٦] ومِنهُ تَنْشَأُ الِاسْتِهانَةُ بِأوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى بِتَرْكِ احْتِرامِهِمْ ومَنعِ حُقُوقِهِمْ والِاعْتِداءِ عَلَيْهِمْ والظُّلْمِ لَهُمْ، ويَتَرَشَّحُ مِنَ الحِقْدِ الَّذِي هو العَداوَةُ العَظِيمَةُ إمْساكُ الخَيْرِ والإحْسانُ وبَسْطُ اللِّسانِ واليَدُ بِكُلِّ سُوءٍ وإيذاءٍ، ويَتَرَشَّحُ مِنَ الحَسَدِ إفْسادُ ذاتِ البَيْنِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: ٢٠] - الآيَةُ والكَذِبُ والمُخادَعَةُ كَما عُرِفَ بِهِ ﴿وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ (p-٤٣٢)النّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] ﴿فَدَلاهُما بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢] ويَتَرَشَّحُ عَنِ الإعْجابِ التَّسَخُّطُ لِلْقَضاءِ والقَدَرِ كَما آذَنَ بِهِ ﴿قالَ أأسْجُدُ لِمَن خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: ٦١] ومُقابَلَةُ الأمْرِ بِالعِلْمِ بِما أُشْعِرَ بِهِ ﴿لَمْ أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصالٍ﴾ [الحجر: ٣٣] واسْتِعْمالُ القِياسِ في مُقابَلَةِ النَّصِّ بِما هَدى إلَيْهِ ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ [ص: ٧٦] - الآيَةُ، واسْتِعْمالُ التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ بِما أفْهَمَهُ ﴿لَمْ أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٣٣] والإذْلالُ وهو الجُرْأةُ عَلى المُخالَفاتِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ شُرُورٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وهي السَّعْيُ في إفْسادِ العَقائِدِ والأخْلاقِ والأعْمالِ والأبْدانِ والأرْزاقِ، ثُمَّ لا يَزالُ يَتَحَبَّبُ إلى الإنْسانِ بِما يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ مِن هَذِهِ الخَبائِثِ وهو يُوافِقُهُ فِيها حَتّى يَصِيرَ لَهُ أخْلاقًا راسِخَةً، فَيَصِيرُ رَدِيءَ الطَّبْعِ فَلا يَنْفَعُ فِيهِ العِلاجُ، بَلْ لا يَزِيدُهُ إلّا خُبْثًا كَإبْلِيسَ، ومَن كانَ أصْلُهُ طَيِّبًا واكْتَسَبَ ما يُخالِفُهُ بِسَبَبٍ عارِضٍ كانَ مُمْكِنَ الإزالَةِ كالعِلاجِ كَما وقَعَ لِآدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولَمّا كانَ المَلِكُ الأعْظَمُ سُبْحانَهُ لَمْ يُنْزِلْ داءً إلّا أنْزَلَ لَهُ دَواءً، وكانَ قَدْ جَعَلَ دَواءَ الوَسْوَسَةِ ذِكْرَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَإنَّهُ يَطْرُدُ الشَّيْطانَ ويُنِيرُ القَلْبَ ويُصَفِّيهِ، وصَفَ سُبْحانَهُ وتَعالى فِعْلَ المُوَسْوِسِ عِنْدَ اسْتِعْمالِ الدَّواءِ إعْلامًا بِأنَّهُ شَدِيدُ العَداوَةِ لِلْإنْسانِ لِيَشْتَدَّ حَذَرُهُ مِنهُ وبُعْدُهُ عَنْهُ فَقالَ: ﴿الخَنّاسِ﴾ أيِ الَّذِي عادَتُهُ أنْ يَخْنَسَ أيْ يَتَوارى ويَتَأخَّرُ (p-٤٣٣)ويَخْتَفِي بَعْدَ ظُهُورِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كُلَّما كانَ الذِّكْرُ خُنَسَ، وكُلَّما بَطَلَ عادَ إلى وسْواسِهِ، [فالذِّكْرُ -] لَهُ كالمَقامِعِ الَّتِي تَقْمَعُ المُفْسِدَ، فَهو شَدِيدُ النُّفُورِ مِنهُ، ولِهَذا يَكُونُ شَيْطانُ المُؤْمِنِ هَزِيلًا كَما [ورَدَ] عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنَّ المُؤْمِنَ يَنْفِي شَيْطانَهُ كَما يَنْفِي الرَّجُلُ بِعِيرُهُ في السَّقَرِ، قالَ البَغَوِيُّ: لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الكَلْبِ في صَدْرِ الإنْسانِ، ويُقالُ: رَأْسُهُ كَرَأْسِ الحَيَّةِ واضِعُ رَأْسِهِ عَلى يَمِينِ القَلْبِ يُحَدِّثُهُ، فَإذا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وإذا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ رَجَعَ ووَضَعَ رَأْسَهُ - خَزاهُ اللَّهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب