الباحث القرآني

ولَمّا كانَ المَلِكُ قَدْ لا يَكُونُ إلَهًا، وكانَتِ الإلَهِيَّةُ خاصَّةً لا تَقْبَلُ شِرْكًا أصْلًا بِخِلافِ غَيْرِها، أُنْهِيَ الأمْرُ إلَيْها وجُعِلَتْ غايَةَ البَيانَ فَقالَ: (p-٤٢٧)﴿إلَهِ النّاسِ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ كَما انْفَرَدَ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ ومَلِكِهِمْ لَمْ يُشْرِكْهُ في ذَلِكَ أحَدٌ، فَكَذَلِكَ هو وحْدَهُ إلَهُهم لا يُشْرِكُهُ في إلَهِيَّتِهِ أحَدٌ، وهَذِهِ دائِمًا طَرِيقَةُ القُرْآنِ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِإقْرارِهِمْ بِتَوْحِيدِهِمْ لَهُ في الرُّبُوبِيَّةِ والمُلْكِ عَلى ما أنْكَرُوهُ مِن تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ والعِبادَةِ، فَمَن كانَ رَبُّهم ومَلِكُهم فَهم جَدِيرُونَ بِأنْ لا يَتَألَّهُوا سِواهُ ولا يَسْتَعِيذُوا بِغَيْرِهِ كَما أنَّ أحَدَهم إذا دَهَمَهُ أمْرٌ اسْتَعاذَ بِوَلِيِّهِ مِن أبْناءِ جِنْسِهِ واسْتَغاثَ بِهِ، والإلَهُ مَن ظَهَرَ بِلَطِيفِ صَنائِعِهِ الَّتِي أفادَها مَفْهُومُ الرَّبِّ والمَلِكِ في قُلُوبِ العِبادِ فَأحَبُّوهُ واسْتَأْنَسُوا بِهِ ولَجَئُوا إلَيْهِ في جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، [وبَطَنَ -] احْتِجابًا بِكِبْرِيائِهِ عَنْ أنْ يُحاطَ بِهِ أوْ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِهِ أوْ شَيْءٍ مِن أمْرِهِ، فَهابَتْهُ العِبادُ ودَعاهُمُ الحُبُّ إلى الوَلَهِ شَوْقًا إلى لِقائِهِ، وزَجَرَتْهُمُ الهَيْبَةُ فَجَزِعُوا خَوْفًا مَن طَرْدِهِ لَهم عَنْ فَنائِهِ، وكَرَّرَ الِاسْمَ الظّاهِرَ دُونَ أنْ يُضْمِرَ فَيَقُولُ مَثَلًا: ”مَلِكهمْ“، ”إلَههمْ“ تَحْقِيقًا لِهَذا المَعْنى وتَقْوِيَةً لَهُ بِإعادَةِ اسْمِهِمُ الدّالِّ عَلى شِدَّةِ الِاضْطِرابِ المُقْتَضِي لِلْحاجَةِ عِنْدَ كُلِّ اسْمٍ مِن أسْمائِهِ الدّالِّ عَلى الكَمالِ المُقْتَضِي لِلْغِنى المُطْلَقِ، ودَلالَةً عَلى أنَّهُ حَقِيقٌ بِالإعادَةِ قادِرٌ عَلَيْها لِبَيانِ أنَّهُ المُتَصَرِّفُ فِيهِمْ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ، وبَيانًا لِشَرَفِ الإنْسانِ ومَزِيدِ الِاعْتِمادِ بِمَزِيدِ البَيانِ، ولِئَلّا يَظُنُّ أنَّ شَيْئًا مِن هَذِهِ الأسْماءِ يَتَقَيَّدُ بِما أُضِيفَ إلَيْهِ الَّذِي قَبْلَهُ مِن ذَلِكَ الوَجْهِ، (p-٤٢٨)لِأنَّ الضَّمِيرَ إذا أُعِيدَ كانَ المُرادُ بِهِ عَيْنَ ما عادَ إلَيْهِ، فَأُشِيرَ بِالإظْهارِ إلى أنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنها عامَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَيْءٍ أصْلًا، وانْدَرَجَ في هَذِهِ الِاسْتِعاذَةِ جَمِيعُ وُجُوهِ الِاسْتِعاذاتِ مِن جَمِيعِ وُجُوهِ التَّرْبِيَةِ وجَمِيعِ الوُجُوهِ المَنسُوبَةِ إلى المُسْتَعِيذِ مِن جِهَةِ أنَّهُ في قَهْرِ المَلِكِ بِالضَّمِّ، وجَمِيعِ الوُجُوهِ المَنسُوبَةِ إلى الإلَهِيَّةِ لِئَلّا يَقَعَ خَلَلٌ في وجْهٍ مِن تِلْكَ الوُجُوهِ تَنْزِيلًا لِاخْتِلافِ الصِّفاتِ مَنزِلَةَ اخْتِلافِ الذّاتِ إشْعارًا بِعِظَمِ الآفَةِ المُسْتَعاذِ مِنها، ولَمْ يَعْطِفْ بِالواوِ لِما فِيها مِنَ الإيذانِ بِالمُغايَرَةِ، والمَقْصُودُ الِاسْتِعاذَةُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الصِّفاتِ الواقِعَةِ عَلى ذاتٍ واحِدَةٍ حَتّى كَأنَّها صِفَةٌ واحِدَةٌ، وقَدَّمَ الرُّبُوبِيَّةَ لِعُمُومِها وشُمُولِها لِكُلِّ مَرْبُوبٍ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، فَلا فِعْلَ لِأحَدٍ إلّا وهو خَلَقَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وهو الباعِثُ عَلَيْهِ، وأخَّرَ الإلَهِيَّةَ لِخُصُوصِها لِأنَّ مَن لَمْ يَتَقَيَّدْ بِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ فَقَدْ أخْرَجَ نَفْسَهُ مِن أنْ يَجْعَلَهُ إلَهَهُ وإنْ كانَ في الحَقِيقَةِ لا إلَهَ سِواهُ، ووَسَّطَ صِفَةَ المَلِكِ لِأنَّ المَلِكَ هو المُتَصَرِّفُ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، ومُلْكُهُ لَهم تابِعٌ لِخَلْقِهِ إيّاهم فَمُلْكُهُ مِن كَمالِ رُبُوبِيَّتِهِ، وكَوْنُهُ إلَهَهُمُ الحَقَّ مِن كَمالِ مُلْكِهِ، فَرُبُوبِيَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ مُلْكَهُ وتَقْتَضِيهِ، ومُلْكُهُ يَسْتَلْزِمُ إلَهِيَّتَهُ وتَقْتَضِيها، وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الإضافاتُ الثَّلاثُ عَلى جَمِيعِ قَواعِدِ الإيمانِ، وتَضَمَّنَتْ مَعانِيَ أسْمائِهِ الحُسْنى، فَإنَّ (p-٤٢٩)الرَّبَّ هو القادِرُ الخالِقُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَتَوَقَّفُ الإصْلاحُ والرَّحْمَةُ والقُدْرَةُ الَّتِي هي مَعْنى الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ مِن أوْصافِ الجَمالِ، والمُلْكُ هو الآمِرُ النّاهِي المُعِزُّ المُذِلُّ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأسْماءِ العائِدَةِ إلى العَظَمَةِ والجَلالِ، وأمّا الإلَهُ فَهو الجامِعُ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ ونُعُوتِ [الجَلالِ -]، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الأسْماءِ الحُسْنى، فَلْتُضَمُّنِها جَمِيعَ مَعانِي الأسْماءِ كانَ المُسْتَعِيذُ جَدِيرًا بِأنْ يَعُوذَ، وقَدْ وقَعَ تَرْتِيبُها عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ الدّالِّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ، لِأنَّ مَن رَأى ما عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، عَلِمَ أنَّ لَهُ مُرَبِّيًا، فَإذا تَغَلْغَلَ في العُرُوجِ في دُرْجِ مَعارِفِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلِمَ أنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الكُلِّ، .والكُلُّ إلَيْهِ مُحْتاجٌ، وعَنْ أمْرِهِ تَجْرِي أُمُورُهُمْ، فَيَعْلَمُ أنَّهُ مَلِكُهُمْ، ثُمَّ يَعْلَمُ بِانْفِرادٍ بِتَدْبِيرِهِمْ بَعْدَ إبْداعِهِمْ أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْإلَهِيَّةِ بِلا مُشارِكٍ [لَهُ -] فِيها، فَقَدْ أجْمَعَ القُرّاءُ في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى إسْقاطِ الألِفِ مِن ﴿مَلِكِ﴾ [الناس: ٢] بِخِلافِ الفاتِحَةِ كَما مَضى لِأنَّ المُلْكَ إذا أُضِيفَ إلى اليَوْمَ أفْهَمَ اخْتِصاصَهُ بِجَمِيعِ ما فِيهِ مِن جَوْهَرٍ وعَرَضٍ، وأنَّهُ لا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ ولا مُشارَكَةَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وهو مَعْنى المُلْكِ - بِالضَّمِّ، وأمّا إضافَةُ المالِكِ إلى النّاسِ فَإنَّها تَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ مَلِكَهُمْ، فَلَوْ قُرِئَ بِهِ هُنا لَنَقُصَ المَعْنى، وأطْبَقُوا في آلِ عِمْرانَ عَلى إثْباتِ الألِفِ في المُضافِ وحَذْفِها مِنَ المُضافِ (p-٤٣٠)إلَيْهِ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالسِّياقِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يُعْطِي المُلْكَ مَن يَشاءُ ويَمْنَعُهُ مَن يَشاءُ، والمِلْكُ - بِكَسْرِ المِيمِ - ألْيَقُ بِهَذا المَعْنى، وأسْرارُ كَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْظَمُ مِن أنْ تُحِيطَ بِها العُقُولُ، وإنَّما غايَةُ أُولِي العِلْمِ الِاسْتِدْلالُ بِما ظَهَرَ مِنها عَلى ما وراءَهُ، وأنَّ بادِيهِ إلى الخافِي يُشِيرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب