الباحث القرآني
﴿ولَمْ يَكُنْ﴾ أيْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ولَمْ يُوجَدْ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ولا بِتَقْدِيرٍ مِنَ التَّقادِيرِ ﴿لَهُ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿كُفُوًا﴾ أيْ مَثَلًا ومُساوِيًا ﴿أحَدٌ﴾ عَلى الإطْلاقِ، أيْ لا يُساوِيهِ في قُوَّةِ الوُجُودِ لِأنَّهُ لَوْ ساواهُ في ذَلِكَ لَكانَتْ مُساواتُهُ بِاعْتِبارِ الجِنْسِ والفَصْلِ، فَيَكُونُ وجُودُهُ مُتَوَلِّدًا عَنِ الِازْدِواجِ الحاصِلِ مِنَ الجِنْسِ الَّذِي يَكُونُ كالأُمِّ، والفَصْلِ الَّذِي يَكُونُ كالأبِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أنْ يَكُونَ في شَيْءٍ مِنَ الوِلادَةِ، لِأنَّ وُجُوبَ وجُودِهِ لِذاتِهِ، فانْتَفى أنْ يُساوِيَهُ شَيْءٌ في قُوَّةِ وجُودِهِ، فانْتَفى قَطْعًا أنْ يُساوِيَهُ أحَدٌ في (p-٣٨٢)شَيْءٍ مِن قُوَّةِ أفْعالِهِ، فَعَطَفَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها لِأنَّ الثَّلاثَ شَرْحُ الصَّمَدِيَّةِ النّافِيَةِ لِأقْسامِ الأمْثالِ، فَهي كالجُمْلَةِ الواحِدَةِ، وقَدَّمَ الظَّرْفَ في الثّالِثَةِ لِأنَّ المَقْصُودَ الأعْظَمَ نَفْيُ المُكافَأةِ عَنِ الذّاتِ الأعْظَمِ، فَكانَ أهَمَّ ”وكُفُوًا“ حالٌ مِن أحَدٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”كانَ“ ناقِصَةً ويَكُونُ ”كُفُوًا“ خَبَرَها، وسَوَّغَ خَبَرِيَّتَهُ تَخْصِيصَهُ بِـ ”لَهُ“ كَما قالُوا في ”إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ“ وقَدْ وضَّحَ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أعْظَمُ مُبَيِّنٍ لِلذّاتِ الأقْدَسِ بِتَرْتِيبٍ لا يُتَصَوَّرُ في العَقْلِ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُساوِيهِ، وكَلِماتٍ لا تَقَعُ في الوَهْمِ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُساوِيها أوْ يُساوِي شَيْئًا مِنها، فَأثْبَتَ أوَّلًا حَقِيقَتَهُ المَحْضَةَ وهُوِيَّتَهُ بِأنَّهُ هُوَ، لا اسْمَ لِتِلْكَ الحَقِيقَةِ مِن حَيْثُ هي إلّا ذَلِكَ، فَعَلِمَ أنَّهُ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ لا لِشَيْءٍ آخَرَ أصْلًا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بَيانًا لَهُ بِذِكْرِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي هي أقْرَبُ اللَّوازِمِ لِتِلْكَ الحَقِيقَةِ وأشَدُّها تَعْرِيفًا.
ولَمّا اقْتَضَتِ الإلَهِيَّةُ الوَحْدَةَ لِأنَّها عِبارَةٌ عَنِ الِاسْتِغْناءِ المُطْلَقِ واحْتِياجِ الغَيْرِ إلَيْهِ الِاحْتِياجَ المُطْلَقَ، دَلَّ عَلَيْها بِالأحَدِ، ودَلَّ عَلى تَحْقِيقِ مَعْنى الإلَهِيَّةِ والوَحْدَةِ مَعًا بِالصَّمَدِيَّةِ لِما لَها مِنَ المَعْنَيَيْنِ: وُجُوبُ الوُجُودِ بِعَدَمِ الجَوْفِ وُجُودًا أوْ تَقْدِيرًا والسِّيادَةُ المُفِيضَةُ لِكُلِّ وُجُودٍ عَلى كُلِّ (p-٣٨٣)مَوْجُودٍ وُجُودًا لا يُشْبِهُ وُجُودَهُ سُبْحانَهُ:
”وأيْنَ الثُّرَيّا مِن يَدِ المُتَناوَلِ“ ... ”الأمْرُ أعْظَمُ مِن مَقالَةِ قائِلٍ“
وبَيَّنَ المَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِما بِعَدَمِ صِحَّةِ التَّوْلِيدِ مِنهُ ولَهُ وعَدَمُ المُساوِي، فَمِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى آخِرِ الأسْماءِ في بَيانِ حَقِيقَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ولَوازِمِها الأقْرَبُ فالأقْرَبُ ووَحْدَتُها بِكُلِّ اعْتِبارٍ، ومِن ثَمَّ إلى آخِرِها في بَيانِ أنْ لا مُساوِيَ لَهُ لِأنَّهُ لا جِنْسَ لَهُ ولا نَوْعَ حَتّى يَكُونَ هو مُتَوَلِّدًا عَنْ شَيْءٍ أوْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ شَيْءٌ، أوْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوازِيًا لَهُ في الوُجُودِ، وبِهَذا القَدْرِ حَصَلَ تَمامُ مَعْرِفَةِ ذاتِهِ، وأنَّهُ لا يُساوِيهِ شَيْءٌ في قُوَّةِ وجُودِهِ فَلا يُساوِيهِ في تَمامِ أفْعالِهِ بِدَلالَةِ شاهِدِ الوُجُودِ الَّذِي [كَشَفَ -] عَنْهُ والشُّهُودُ بِنَصْرِ نَبِيِّهِ ﷺ الَّذِي كانَ يَدْعُو أبا لَهَبٍ وجَمِيعَ الكافِرِينَ الشّانِئِينَ وحْدَهُ وهم مِلْءُ الأرْضِ ويُخْبِرُهم مَعَ تَحامُلِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَيْهِ أنَّهم مَغْلُوبُونَ، وأنَّهُ أتاهم بِالذَّبْحِ لِأنَّ لِمَن أرْسَلَهُ الإحاطَةَ الكامِلَةَ بِجَمِيعِ الكَمالِ، وقَدْ كانَ الأمْرُ كَما قالَ ﷺ، فَقَدْ صَدَقَتْ مَقالاتُهُ، فَثَبَتَتْ إلى الخَلْقِ كافَّةُ رِسالاتِهِ، وثَبَتَ مَضْمُونُ جَمِيعِ السُّورَةِ بِما ثَبَتَ (p-٣٨٤)مِن هَذِهِ الأدِلَّةِ المَشْهُورَةِ، والبَراهِينِ القاطِعَةِ المَنصُورَةِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ صَمَدٌ بِما دَلَّ عَلى [أحَدِ -] مَعْنَيَيْهِ الَّذِي هو انْتِفاءُ الجَوْفِيَّةِ بِعَدَمِ التَّوَلُّدِ، وعَلى المَعْنى الآخَرِ الَّذِي هو بُلُوغُ المُنْتَهى مِنَ السِّيادَةِ بِعَدَمِ المُكافِئِ فَبانَ أنَّهُ هو لِذاتِهِ فَلا إلَهَ غَيْرُهُ، فانْطَبَقَ آخِرُها عَلى أوَّلِها، والتَحَمَ أيَّ التِحامِ مِفْصَلِها بِمُوصِلِها، فَعَلِمَ أنَّهُ هو [هُوَ ] لا غَيْرُهُ بِزِيادَةِ أنَّهُ الأحَدُ ولا أحَدَ حَقًّا غَيْرُهُ، ومِن تَحَقُّقِ آخِرِها أقْبَلُ بِكُلِّيَّتِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلى غَيْرِهِ لِأنَّ الكُلَّ في قَبْضَتِهِ، وقَدْ نَقَلْتُ في كِتابِي مَصاعِدَ النَّظَرِ [عَنِ الإحْياءِ -] لِلْإمامِ الغَزالِيِّ رَحْمَة اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ في شَيْءٍ مِن أسْرارِ هَذِهِ السُّورَةِ كَلامًا هو في غايَةِ النَّفاسَةِ.
ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ انْسِبْ لَنا رَبَّكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ» - إلى آخِرِها، قالَ: لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلّا سَيَمُوتُ، ولَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلّا سَيُورَثُ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَمُوتُ ولا يُورَثُ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ - انْتَهى. ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو الجامِعُ لِلْأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلى كُلِّها، وعَلِمَ أنَّ حاصِلَها تَنْزِيهُ المَعْبُودِ عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ مُجانِسٌ، أوْ يَكُونَ لَهُ مُكافِئٌ، والرَّدُّ عَلى كُلِّ مَن يُخالِفُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وأعْظَمُ مَقاصِدِ آلِ عِمْرانَ المُناظَرَةُ لَها (p-٣٨٥)فِي رَدِّ المَقْطَعِ عَلى المَطْلَعِ، المُفْتَتَحَةِ بِالحَيِّ القَيُّومِ، المُودَعَةُ أوْضَحُ الأدِلَّةِ عَلى كُفْرِ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لا سِيَّما مَنِ ادَّعى أنَّ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَهٌ أوْ أنَّهُ ولَدٌ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وكَذا غَيْرُهُ الدَّلالَةُ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ مَنِ ادَّعاهُ إلَهًا وعَلى أنَّ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام عَبْدٌ مِن عَبِيدِهِ أوْجَدَهُ عَلى ما أرادَ كَما أوْجَدَ مَن هو أغْرَبُ حالًا مِنهُ وإبْطالُ قَوْلِ مَنِ ادَّعى فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ. ولَمّا عَرَّفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ حَقِيقَةَ الذّاتِ أتَمَّ تَعْرِيفٍ، وكانَ الغَرَضُ الأقْصى مَن طَلَبِ العُلُومِ بِأسْرِها مَعْرِفَةُ ذاتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وصِفاتِهِ وكَيْفِيَّةِ صُدُورِ [الأفْعالِ -] عَنْهُ، وكانَ القُرْآنُ العَظِيمُ كَفِيلًا بِجَمِيعِ هَذِهِ العُلُومِ، وكانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنهُ قَدْ تَكَفَّلَتْ بِجَمِيعِ ما يَتَعَلَّقُ بِالبَحْثِ عَنِ الذّاتِ عَلى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ والإيماءِ، وكانَتْ مُعادَلَةً لِثُلْثِ القُرْآنِ وهي ثُلْثٌ أيْضًا بِاعْتِبارٍ آخَرَ وهو أنَّ الدِّينَ اعْتِقادٌ، وفِعْلٌ لِسانِيٌّ يُتَرْجِمُ عَنِ الِاعْتِقادِ، وفِعْلٌ يُصَحِّحُ ذَلِكَ، وهي وافِيَةٌ بِأمْرِ الِاعْتِقادِ بِالوَحْدانِيَّةِ الَّذِي هو رَأْسُ الِاعْتِقادِ، وبِاعْتِبارِ أنَّ مَقاصِدَهُ كُلَّها مَحْصُورَةٌ في بَيانِ العَقائِدِ والأحْكامِ والقِصَصِ، وهَذِهِ (p-٣٨٦)السُّورَةُ عَلى وجازَتِها قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى جَمِيعِ المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والرَّدِّ عَلى مَن ألْحَدَ فِيها، ولِأجْلِ أنَّ هَذا هو المَقْصُودُ بِالذّاتِ الَّذِي يُتْبِعُهُ جَمِيعَ المَقاصِدِ عَدَلَتْ في بَعْضِ الأقْوالِ بِجَمِيعِ القُرْآنِ، وحاصِلِ شَرْحِ هَذِهِ السُّورَةِ العُظْمى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى دَلَّ عَلى الذّاتِ الأقْدَسِ بِالهُوِيَّةِ، وعَبَّرَ عَنْها بِالضَّمِيرِ إشارَةً إلى نَفْيِ الماهِيَّةِ الَّتِي غِلَظَ أوْ غالَطَ فِيها الكَفُورُ الأعْظَمُ فِرْعَوْنُ - لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وعَلى أتْباعِهِ أهْلِ الإلْحادِ، وأنْصارِهِ وأشْياعِهِ مِن أهْلِ الِاتِّحادِ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ ودَلَّ عَلَيْهِ بِالوَحْدَةِ الجامِعَةِ لِلْغِنى، النّافِيَةِ لِلْكَثْرَةِ المُوجِبَةِ لِحاجَةٍ، ودَلَّ عَلَيْها بِالصَّمَدِيَّةِ النّافِيَةِ لِلْجَوْفِيَّةِ المُثْبِتَةِ لِلسِّيادَةِ الخَفِيَّةِ، ودَلَّ عَلى أوَّلِ مَعْنَيَيْها بِانْتِفاءِ الوِلادَةِ مِنهُ ولَهُ، الدّالّانِ عَلى نَفْيِ الجِنْسِ لِلْقَوْمِ والفَصْلِ المُقَسَّمِ، ودَلَّ عَلى الثّانِي بِعَدَمِ المُكافِئِ، ودَلَّ عَلى هَذا العَدَمِ بِأفْعالِهِ العَظِيمَةِ المُشاهَدَةِ الَّتِي أشارَ قَطْعًا تَرْتِيبَ السُّوَرِ بِما انْتَهى إلَيْهِ وضْعُ هَذِهِ السُّورَةِ في هَذا المَوْضِعِ إلى اسْتِحْضارِها.
وتَأمَّلْ ما كانَ مِنها مِن تَرْبِيَةِ هَذا الدِّينِ بِنَصْرِ نَبِيِّهِ الَّذِي أرْسَلَهُ ﷺ لِإقامَتِهِ، وسَلَّطَ الكافِرِينَ - وهم مِلْءُ الأرْضِ - عَلى أذاهُ، وجَعَلَ أعْظَمَهم لَهُ أذى أقْرَبَهم إلَيْهِ نَسَبًا عَمَّهُ أبا لَهَبٍ الَّذِي كانَ يَتْبَعُهُ في تِلْكَ المَشاهِدِ والقَبائِلِ، ويَلْزَمُهُ في تِلْكَ المَواسِمِ والمَعاهِدِ والمَحافِلِ، يُصَرِّحُ بِتَكْذِيبِهِ كُلَّما دَعا النّاسَ إلى الحَقِّ، ويُواجِهُ بِما هو أشَدُّ الأشْياءِ عَلى النَّفْسِ كَراهَةً وأشَقُّ، فَكانَتْ تِلْكَ الشُّهْرَةُ عَيْنَ الرِّفْعَةِ (p-٣٨٧)والنُّصْرَةِ، لِأنَّ الشَّيْءَ، إذا خَرَجَ عَنْ حَدِّهِ انْقَلَبَ إلى ضِدِّهِ، فَإنَّهُ إذا تَناهَتْ شُهْرَتُهُ ثُمَّ بانَ بُطْلانُهُ أوْ صِحَّتُهُ رَجَعَتْ شُهْرَتُهُ بِكَوْنِهِ باطِلًا أوْ صَحِيحًا أعْظَمَ مِنها لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْها شُهْرَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فانْقَلَبَتِ النُّصْرَةُ، وعَظُمَتِ الكَثْرَةُ، فَجَلَتِ المُعاوَنَةُ، وزالَتِ المُبايَنَةُ، وحَصَلَ الوِفاقُ، وزالَ الشِّقاقُ، فَدَلَّ هَذا الفِعْلُ الأعْظَمُ مِن صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ وهو وحْدَهُ، وكَذَّبَ المُعانِدِينَ وهم مِن لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ في كُلِّ ما قالَ، وجَمِيعِ ما قالُوا عَلى عِزَّتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِكَوْنِهِ نَصَرَ عَبْدَهُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ الخارِقِ لِلْعادَةِ وعَلى حِكْمَتِهِ بِما سَلَّطَهم بِهِ عَلَيْهِ حَتّى أسْرَعَتِ الشُّهْرَةُ وعَمَّتِ النُّصْرَةُ، فَعَلِمَ بِتِلْكَ المُشاهَدَةِ أنَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ التَّوْحِيدِ المُناظِرَةِ لِهَذِهِ في رَدِّ المَقْطَعِ عَلى المَطْلَعِ، وهي آلُ عِمْرانَ المُناظَرَةُ لِهَذِهِ في الدَّلالَةِ عَلى التَّوْحِيدِ والمُحاجَجَةُ لِمَنِ ادَّعى أنَّ لَهُ صاحِبَةٌ ووَلَدٌ، فَعُلِمَ قَطْعًا أنَّهُ لا كُفُوءَ لَهُ، فَعَلِمَ أنَّهُ لا يَصِحُّ أصْلًا أنْ يَلِدَ ولا أنْ يُولَدَ، فَبَطَلَتْ قَطْعًا دَعْوى إلَهِيَّةِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وغَيْرِهِ مِمَّنْ ادَّعى فِيهِ الوَلَدِيَّةَ بِالأُحْدِيَّةِ لِما تَقْتَضِيهِ الوِلادَةُ مِنَ المادَّةِ المُقْتَضِيَةِ لِلْكَثْرَةِ، المُوجِبَةِ لِلْحاجَةِ، وعَظُمَ البَيانُ بِما دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ [الأعْظَمُ -] مِنَ الإجْماعِ بِما تَقْتَضِي الإلَهِيَّةُ، ولا إجْماعَ عَلى غَيْرِهِ، وجَلَّ الأمْرُ وانْقَطَعَ (p-٣٨٨)النِّزاعُ بِما دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِن وُجُوبِ الوُجُودِ النّافِي لِما سِواهُ مِن كُلِّ مَوْجُودٍ - واللَّهُ الهادِي، فَلَقَدْ أبانَتِ السُّورَةُ عَلى أعْظَمِ الوُجُوهِ أنَّ مُرْسِلَهُ ﷺ أجْلُّ مَوْجُودٍ وأشْرَفُ حَقِيقَةٍ وأنْفَسُ مَعْلُومٍ، وأعْظَمُ ذاتٍ، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ كُلِّ ما لا يَنْبَغِي، وحُصُولُ كُلِّ ما يَنْبَغِي اسْتِلْزامًا لا يَقْبَلُ الِانْفِكاكَ، كالفَرْدِيَّةِ في الوَتَرِ، والزَّوْجِيَّةِ في الشَّفْعِ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أشْياءَ تُبْسَطُ عَلى كَلِماتِ السُّورَةِ عَلى التَّرْتِيبِ: الأوَّلُ أنَّهُ تَعالى لَهُ الوُجُودُ الَّذِي ما مِثْلُهُ فَلَيْسَ [هُوَ] كالمُمَكَّناتِ المَسْبُوقَةِ بِالعَدَمِ والمُنْقَطِعَةِ بِالِانْعِدامِ، والمُنْصَرِمَةِ في الدَّوامِ، بَلْ هو أزَلِيٌّ لا أوَّلَ لَهُ أبَدِيٌّ لا آخِرَ لَهُ، قَيُّومٌ لا انْصِرامَ لَهُ، الثّانِي أنَّ لَهُ السُّبُوحِيَّةُ الآبِيَةُ عَلى نَفْعِ كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، الثّالِثُ أنَّ لَهُ القُدُوسِيَّةُ المُشْتَمِلَةُ عَلى الِاتِّصافِ بِكُلِّ كَمالٍ، مِن جَلالٍ وجَمالٍ وتَعالٍ، الرّابِعُ أنَّ لَهُ العَظَمَةَ والجَلالَةَ عَنْ أنْ يَكُونَ عَرَضًا أوْ كالأعْراضِ، أوْ جَوْهَرًا أوْ كالجَواهِرِ، أوْ جِسْمًا أوْ كالأجْسامِ، الخامِسُ أنَّ لَهُ العُلُوَّ عَنْ أنْ يَحِلَّ في شَيْءٍ أوْ [يَحِلَّ فِيهِ شَيْءٌ أوْ يَتَّحِدَ بِشَيْءٍ أوْ -] يَتَّحِدَ بِهِ شَيْءٌ، السّادِسُ أنَّهُ تَعالى لَهُ الغِنى عَنِ المُوجِدِ كالرَّبِّ والمُوجَبِ كالأبِ والمُفِيدِ أيْ لِشَيْءٍ مِنَ الكِمالاتِ، السّابِعُ أنَّهُ تَعالى لَهُ الوَحْدانِيَّةُ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَبِيهٌ (p-٣٨٩)أيْ في صِفاتِهِ، ولا مَثِيلَ أيْ في نَوْعٍ ولا نَسَبٍ [أيْ -] كالقَرابَةِ، الثّامِنُ أنَّهُ تَعالى لَهُ الفَرْدانِيَّةُ الَّتِي لا يَصِحُّ فِيها شِرْكٌ، لا في المِلْكِ - بِكَسْرِ المِيمِ، ولا في المُلْكِ - بِضَمِّها، ولا في التَّدْبِيرِ، ولا في التَّأْثِيرِ، التّاسِعُ أنَّهُ تَعالى لَهُ الكِبْرِياءُ المُنافِيَةُ لِفَوْتِ كَمالٍ أوْ كَمالِ كَمالٍ، العاشِرُ أنَّهُ تَعالى لَهُ العِزَّةُ المُنافِيَةُ لِأنْ يَكُونُ لَهُ ضِدٌّ - وهو المُفْسِدُ لِما يَفْعَلُهُ، أوْ نِدٌّ - وهو المُوجِدُ لِمِثْلِ ما يُوجِدُهُ، وتَنْزِلُ هَذِهِ العِشْرَةُ عَلى السُّورَةِ واضِحٌ لِمَن تَأمَّلَ الكَلامَ وتَدَبَّرَهُ، وابْتَدَأ سُبْحانَهُ السُّورَةَ بِالضَّمِيرِ قَبْلَ الظّاهِرِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالنَّصْرِ والفَتْحِ وخَسارَةِ أهْلِ الكُفْرِ بِخَسارَةِ أبِي لَهَبٍ الَّذِي هو أعْلاهم وأعَزُّهم إشارَةً إلى [أنَّ] مَن صَحَّحَ باطِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى نُصِرَ وفُتِحَ لَهُ - كَما يُشِيرُ [إلَيْهِ -] تَعْقِيبُ الأمْرِ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِ في النَّصْرِ عَلى الكافِرِينَ بِقَوْلِهِ
﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإنَّهُ تَرْجَمَةُ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ التّالِيَةِ لِلنَّصْرِ والكافِرُونَ سَواءٌ بِالضَّمِيرِ والِاسْمِ الأعْظَمِ [والتَّوْحِيدِ الأعْظَمِ -] المُقِرُّونَ بِدَلِيلٍ وهو القَيُّومِيَّةُ، فَقَدْ بَيَّنَ آخِرَ السُّورَةِ الَّذِي هو نَتِيجَتُها ورَدَّ مَقْطَعَها عَلى مَطْلَعِها أنَّهُ أحَدٌ حاضِرٌ في كُلِّ زَمَنٍ لا يَغِيبُ أصْلًا، ولا أحَدَ يُكافِئُهُ أوْ يُشابِهُهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْهُ شَيْءٌ ولا تَوَلَّدَ (p-٣٩٠)هُوَ عَنْ شَيْءٍ، لِأنَّهُ صَمَدٌ لا جَوْفَ لَهُ مُطْلَقًا لا في ذاتِهِ بِالفِعْلِ، ولا بِحَيْثُ يُجَوِّزُهُ الوَهْمُ لِأنَّهُ أحَدٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لِأنَّهُ هو اللَّهُ المُحِيطُ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ والجَمالِ، وهو غَيْبٌ مَحْضٌ لِأنَّهُ لا يَقْوى غَيْرُهُ عَلى مَعْرِفَتِهِ إلّا بِاللَّوازِمِ مِنَ الصِّفاتِ المَعْقُولَةِ تَقْرِيبًا، والأفْعالُ المُشاهَدَةُ آثارُها، وهو هو الَّذِي [هُوَ -] - مَعَ كَوْنِهِ غَيْبُ الغَيْبِ - مُسْتَحْضِرٌ في كُلِّ.لُبٍّ، لا يَظْهَرُ بِغَيْبٍ عَنْ أحَدٍ بِما لَهُ مِنَ الآثارِ، الَّتِي مَلَأتِ الأقْطارَ، ولِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّسْمِيَةَ بِـ ”هُوَ“ ولَمْ يَسْتَحِقَّها غَيْرُهُ لِحُضُورِهِ لِكُلِّ قَلْبٍ وغَيْبَةِ غَيْرِهِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ، لِأنَّهُ لَيْسَ لِلْغَيْرِ مِن ذاتِهِ إلّا الغَيْبَةُ بِالعَدَمِ، وأمّا هو فَهو الواجِبُ وُجُودُهُ، وهو الَّذِي أوْجَدَ غَيْرَهُ، ورَكَّزَ في [كُلِّ -] قَطْرَةِ ذِكْرِهِ، لِما لَهُ سُبْحانَهُ مِنَ الكَمالِ، ولِغَيْرِهِ مِن شِدَّةِ الحاجَةِ إلَيْهِ والِاحْتِلالِ، فَكانَ سُبُّوحًا قُدُّوسًا جامِعًا بَيْنَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّهُ مَمْدُوحٌ بِالفَضائِلِ والمَحاسِنِ، التَّقْدِيسُ مُضْمَرٌ في صَرِيحِ التَّسْبِيحِ، والتَّسْبِيحُ مُضْمَرٌ في صَرِيحِ التَّقْدِيسِ، وقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بَيْنَهُما في هَذِهِ السُّورَةِ بِالأسْماءِ الَّتِي جَلاها أوَّلُها، فَهو صَرِيحُ التَّقْدِيسِ، ومِن ثَمَّ إلى آخِرِها صَرِيحُ التَّسْبِيحِ، (p-٣٩١)والأمْرانِ راجِعانِ إلى إفْرادِهِ وتَوْحِيدِهِ ونَفْيِ التَّشْرِيكِ والتَّشْبِيهِ عَنْهُ، وذَلِكَ هو الجَمْعُ بَيْنَ الإثْباتِ والنَّفْيِ عَلى تَهْيِيجِ ما وقَعَ في كَلِمَةِ الإخْلاصِ لِيَعْلَمَ أنَّ الإثْباتَ لا يَكْمُلُ إلّا بِصِيانَتِهِ عَنْ كُلِّ ما يَتَضَمَّنُ مُخالَفَتَهُ، لَكِنَّ كَلِمَةَ الإخْلاصِ تَرَكَّبَتْ مِن نَفْيٍ ثُمَّ إثْباتٍ، وسُورَةُ الإخْلاصِ مِن إثْباتٍ ثُمَّ نَفِيٍ، فَأوَّلُها إثْباتٌ وآخِرُها نَفْيٌ، وآخِرُ الإثْباتِ الصَّمَدُ، [فَهُوَ -] جامِعٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ فَإنَّهُ جَمْعُ كَلِّ صِفَةٍ لا يَتِمُّ الخَلْقُ إلّا بِها ”لِأنَّ أحَدَ مَدْلُولَيْهِ“ في اللُّغَةِ: السَّيِّدُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ، فاقْتَضى ذَلِكَ إثْباتُ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي بِها يَتِمُّ اتِّساقُ الأفْعالِ ونَفْيُ كُلِّ صِفَةٍ يُنَزَّهُ عَنْها، لِأنَّ ثانِيَ مَدْلُولَيْهِ في اللُّغَةِ: الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النِّهايَةِ ونَفْيَ الحَدِّ والجِهَةِ والجِسْمِ والجَوْهَرِ، لِأنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِلْ اتِّصافُهُ بِالتَّرْكِيبِ ووُجُودِ الجَوْفِ، فَقَرَّرَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ وُجُوبَ المَعْرِفَةِ بِالنَّفْيِ والإثْباتِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، لِأنَّ مَن [لَمْ -] يَتَحَقَّقْ صَفاءَ الباطِلِ لَمْ يَتَقَرَّرْ لَهُ المَعْرِفَةُ بِالحَقِّ، ولِذَلِكَ كانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وأرْضاهم أجْمَعِينَ يَسْألُونَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الحَقِّ لِصِحَّةِ الِاعْتِقادِ والمَعْرِفَةِ، وعَنِ الباطِلِ والشَّرِّ لِلتَّمَكُّنِ مِن مُجانَبَتِهِ حَتّى «قالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ
”وكانَ [النّاسُ -] يَسْألُونَ (p-٣٩٢)النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أسْألُهُ عَنِ الشَّرِّ»“ وذَلِكَ لِأنَّ مَن لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ، وأنَّ ما خالَفَتْ كَلِمَةُ الشَّهادَةِ في التَّرْتِيبِ لِأنَّ تِلْكَ أتَتْ لِلْإدْخالِ في الدِّينِ، والألْيَقُ بِمَن كانَ خارِجًا أوْ ضَعِيفًا فِيهِ - وهُمُ الأكْثَرُ - نَفْيُ الباطِلِ أوَّلًا ومَحْوُهُ مِن لَوْحِ القَلْبِ لِيَأْتِيَ إثْباتُ الحَقِّ فِيهِ وهو فارِغٌ فَيُقِرُّ فِيهِ، فَلَمّا نَفَتْ أوَّلًا كُلَّ غَيْرٍ كانَ سَبَبًا لِلْمُجانَبَةِ والبُعْدِ عَنْ حَضَراتِ القُدْسِ، ثُمَّ أثْبَتَتِ الذّاتُ الأقْدَسُ والمُسَمّى الأشْرَفُ الأنْفَسُ، أكَّدَتْ سُورَةُ الإخْلاصِ لِأنَّها لِلْكَمَلِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِما قَبْلَها مِنَ السُّوَرِ، هَذا الإثْباتُ عِنْدَ اسْتِحْضارِهِ، وشُهُودِ الجَمِيلِ مِن آثارِهِ، ثُمَّ خُتِمَتْ بِنَفْي الأغْيارِ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ تَجَلّى خِتامُ الأعْمارِ، عِنْدَ الرُّجُوعِ إلى الآثارِ، بِالعَرْضِ عَلى الواحِدِ القَهّارِ، وقَدْ بَيَّنَ بِهَذِهِ السُّورَةِ أنَّهُ طَرِيقٌ بَيْنَ الخِلْقِ والأمْرِ، فَلَمّا فَتَحَ الخَلْقَ بِمُتَشابِهِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأنَّ المُتَشابِهَ ما خَرَجَ عَنْ أشْكالِهِ، وخَتَمَتْ أقْسامُهُ الأرْبَعَةُ بِمُتَشابِهِ خَلْقِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام - كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ (p-٣٩٣)﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى﴾ [آل عمران: ٣٣] في آلِ عِمْرانَ المُناظَرَةِ لِهَذِهِ السُّورَةِ، لِذَلِكَ فَتَحَ الأمْرُ بَعْدَ أُمِّ الكِتابِ بِمُتَشابِهِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ، وخَتَمَ دُونَ المُعَوِّذَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُما في الحالِ المُرْتَحِلِ كالمُقَدَّمَةِ، والِافْتِتاحُ بِالتَّعَوُّذِ لِأُمِّ الكِتابِ بِمُتَشابِهٍ هو سُورَةُ الإخْلاصِ، وكانَ مُتَشابِهُ أوَّلِهِ مُتَشابِهًا مِن جَمِيعِ وُجُوهِهِ، لا يُمَكِّنُ أحَدًا أنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا مَقْطُوعًا بِهِ أوْ مَظْنُونًا ظَنًّا راجِحًا، ومُتَشابِهَ آخِرِهِ لا يُقْنِعُ فِيهِ بِدُونِ القَطْعِ في أوَّلِهِ فِيما كَلَّفْنا أمْرَهُ في هَذِهِ الدّارِ وهو أُصُولُ الدِّينِ، ووَراءُ ذَلِكَ [ما -] لا يُدْرِكُهُ أحَدٌ مِنَ الأبْرارِ ولا المُقَرَّبِينَ، وهو الذّاتُ الأقْدَسُ، فَمَن رَجَعَ مُتَشابِهُ الخَلْقِ فَوْقَ مَنزِلَتِهِ كَفَرَ، ومَن وضَعَ مُتَشابِهَ الأمْرِ عَنْ رُتْبَتِهِ العَلِيَّةِ كَفَرَ، وجَعَلَ آخِرَهُ أجْلى مِن أوَّلِهِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ إشارَةً إلى.تَرْقِيَةِ المُوَفَّقِ في أمْرِهِ، وأنَّهُ في الآخَرِ يَكُونُ أجْلى انْكِشافًا وأوْضَحَ مَعْرِفَةً، وتَلاهُ بِالتَّعَوُّذِ إشارَةً إلى سُؤالِ الِاعْتِصامِ في شَأْنِهِ، والحِفْظِ التّامِّ في مِضْمارِ عِرْفانِهِ، وكَرَّرَ بِالتَّثْنِيَةِ لِأجْلِ الإحاطَةِ بِأمْرَيِ الظّاهِرِ والباطِنِ، والتَّأْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلى صُعُوبَةِ المَرامِ، وخَطَرِ المَقامِ.
ولَمّا افْتَتَحَ القُرْآنُ بِسُورَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلى جَمِيعِ مَعانِيهِ، خَتَمَ بِسُورَتَيْنِ (p-٣٩٤)يَدْخُلُ مَعْناهُما، وهو التَّعَوُّذُ، ويَنْدُبُ ذِكْرُهُ في جَمِيعِ أجْزائِهِ ومَبانِيهِ، وفي ذَلِكَ لَطِيفَةٌ أُخْرى عَظِيمَةٌ جِدًّا، وهي أنَّهُ لَمّا عَلِمَ بِالإخْلاصِ تَمامَ العِلْمِ وظُهُورَ الدِّينِ عَلى هَذا الوَجْهِ الأعْظَمِ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ غايَةَ السُّرُورِ، وكانَ التَّمامُ في هَذِهِ الدّارِ مُؤْذِنًا بِالنُّقْصانِ، جاءَتِ المُعَوِّذَتانِ لِدَفْعِ شَرِّ ذَلِكَ، وقَدِ انْقَضى الكَلامُ عَلى ما يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن كُنُوزِ مَعانِي سُورَةِ الإخْلاصِ بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ والنُّظُمِ والتَّرْتِيبِ، وبَقِيَ الكَلامُ عَلى ما فَتَحَ اللَّهُ بِهِ مِن أسْرارِها في الدَّلالَةِ عَلى مَقْصُودِ السُّورَةِ بِالنَّظَرِ إلى كَلِماتِها مُفْرِدَةً ظَواهِرَ وضَمائِرَ ثُمَّ حُرُوفُها، فَفِيها مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلى، الَّتِي أسَّسَ عَلَيْها بُنْيانَها، وانْبَنَتْ عَلَيْها أرْكانُها، خَمْسَةٌ هي العَشْرُ مِن كَلِماتِ [آيَةِ -] الكُرْسِيِّ كَما أنَّ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ خَمْسٌ وهي خَمْسُونَ في أُمِّ الكِتابِ ”الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها“ فَمِن لَطائِفِ إشاراتِها أنَّها كَدَعائِمِ الدِّينِ الخَمْسِ، فالضَّمِيرُ مُشِيرٌ إلى تَصْحِيحِ ضَمِيرِ القَلْبِ بِالإيمانِ، وصِحَّةِ القَصْدِ والإذْعانِ، حَتّى يَقُومَ بِناءُ العِبادَةِ، والِاسْمُ الأعْظَمُ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ التَّصْحِيحَ لِأجْلِ التَّألُّهِ بِالخُضُوعِ لِلْإلَهِ الحَقِّ بِاسْتِحْضارِ اسْمِهِ الأعْظَمِ كَما أنَّ الصَّلاةَ أعْظَمُ عِباداتِ البَدَنِ، هَذا لِلتَّهْيِئَةِ في الدُّخُولِ في العِبادَةِ، ثُمَّ إنَّ الدُّخُولَ فِيها شَرْطُهُ أُحْدِيَّةُ التَّوَجُّهِ تَحْقِيقًا لِلصِّدْقِ في صِحَّةِ العَزْمِ (p-٣٩٥)عَلَيْها كَما أنَّ الزَّكاةَ تَكُونُ مُصَدِّقَةً لِلْإيمانِ، وذَلِكَ التَّوْحِيدُ في التَّوْحِيدِ يَكُونُ لِأجْلِ الصِّدْقِ في التَّألُّهِ بِما يُشِيرُ إلَيْهِ إعادَةُ الِاسْمِ الأعْظَمِ كَما هو شَأْنُ الحاجِّ الأشْعَثِ الأغْبَرِ المُتَجَرِّدِ، ويَكُونُ ذَلِكَ التَّألُّهُ بِاسْتِحْضارِ افْتِقارِ العابِدِ إلى المَعْبُودِ وتَداعِيهِ إلى الهَلاكِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ لِأنَّهُ أجْوَفُ، وغِنى المَعْبُودِ عَلى الإطْلاقِ بِما يُشِيرُ إلَيْهِ الِاسْمُ الإضافِيُّ الصَّمَدُ كَما هو شَأْنُ الصّائِمِ في عِبادَتِهِ، واسْتِحْضارِهِ لِحَقارَتِهِ وشِدَّةِ حاجَتِهِ، ولِجَلالَةِ مَوْلاهُ، وتَعالِيهِ في غِناهُ، فَمَن صَحَّتْ لَهُ هَذِهِ الدَّعائِمُ الخَمْسُ كانَتْ عِبادَتُهُ في الذُّرْوَةِ العُلْيا مِنَ القَبُولِ، وإلّا كانَ لَها اسْمُ الحُصُولِ مِن غَيْرِ كَثِيرِ مَحْصُولٍ - واللَّهُ المُوَفِّقُ، وكَوْنُها خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً إشارَةً إلى أنَّهم في السَّنَةِ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ يَعْلَمُونَ - بِغَلَبَةِ قَهْرِهِ وسَطْوَةِ سُلْطانِهِ وتَأْيِيدِهِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِن حِزْبِهِ، وتَقْوِيَتِهِ لَهم في وقْعَةِ بَدْرٍ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ - أنَّ مُرْسِلَهُ لا كُفُوءَ لَهُ بِعِلْمٍ شُهُودِيِّ لا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى تَكْذِيبِهِ ودَفْعِهِ، فَيَقُومُ بِهِ دَلِيلُ الإخْلاصِ، ولاتَ حِينَ مَناصٍ، وإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَ الواجِبَ.الِاسْتِتارُ في ”قُلْ“ كانَتْ سِتَّ عَشْرَةَ إشارَةً إلى أنَّهُ في السَّنَةِ السّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ وهي الثّالِثَةُ مِنَ الهِجْرَةِ في غَزْوَةِ أُحُدٍ يَكُونُ الظّاهِرُ فِيها اسْمُهُ تَعالى الباطِنُ، فَإنَّهُ كانَ فِيها مِنَ المُصِيبَةِ ما هو مَذْكُورٌ في السَّيْرِ تَفْصِيلُهُ مِن قَتْلِ سَبْعِينَ مِنَ الصِّحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِنهم (p-٣٩٦)حَمْزَةُ بْنُ عَبَدَ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأسَدُ رَسُولِهِ ﷺ، وذَلِكَ بَعْدَ أنْ ظَهَرَ فِيها النَّبِيُّ ﷺ في أوَّلِ النَّهارِ، ظُهُورًا بَيِّنًا حَتّى كانَتْ هَزِيمَةُ الكُفّارِ، لا شَكَّ فِيها - كَما قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ حَتّى إذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] - الآياتُ، ثُمَّ أخْفى اللَّهُ ذَلِكَ في إزالَةِ الكُفّارِ في أثْناءِ النَّهارِ، فَهَزَمَ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِنهم إلّا نَفَرٌ يَسِيرٌ جِدًا أكْثَرُ ما ورَدَ في عَدَدِهِمْ أنَّهم يُقارِبُونَ الأرْبَعِينَ وهو ثابِتٌ بِهِمْ ﷺ في نَحْرِ العَدُوِّ وهم نَحْوٌ مِن ثَلاثَةِ آلافٍ فِيهِمْ مِائَتا فارِسٍ يُحاوِلُهم ويُصاوِلُهم يَشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ مَرَّةً ويَفْتَرِقُونَ عَنْهُ أُخْرى لِيَعْلَمَ أنَّ النّاصِرَ إنَّما هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وحْدَهُ، وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما نُصِرَ النَّبِيُّ ﷺ في مَوْطِنٍ مِنَ المَواطِنِ ما نُصِرَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ، وقالَ أبُو سُفْيانَ ابْنُ حَرْبٍ يَوْمَ إسْلامِهِ في عامِ الفَتْحِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ما قاتَلْتُكَ مِن مَرَّةٍ إلّا ظَهَرْتَ عَلَيَّ، أظُنُّ لَوْ كانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أغْنى شَيْئًا.
ولَكِنَّ الَّذِي ظَهَرَ مِنها ما كانَ في آخِرِ النَّهارِ مِن ظُهُورِ الكُفّارِ، فَأخْفى اللَّهُ تَعالى نَصْرَهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ فِيها بِاسْمِهِ الباطِنِ إلّا عَلى أرْبابِ البَصائِرِ، فَما عَلِمَ ذَلِكَ [إلّا -] بِوَجْهٍ خَفِيٍّ جِدًّا مُناسَبَةً (p-٣٩٧)لِلضَّمِيرِ الباطِنِ الواجِبِ الِاسْتِتارِ، وإذا ضَمَمْتَ إلى ذَلِكَ الضَّمِيرَيْنِ المُسْتَتِرَيْنِ الجائِزِي الظُّهُورِ، فَكانَتِ الكَلِماتُ بِذَلِكَ ثَمانِيَ عَشْرَةَ، كانَتْ إشارَةً إلى أنَّ في السَّنَةِ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ - وهي الخامِسَةُ مِنَ الهِجْرَةِ دَلالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلى أنَّهُ لا كُفُوءَ لَهُ يُوجِبُ الإخْلاصَ عَلى وجْهٍ هو أجْلى مِمّا كانَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ وإنْ كانَ فِيهِ نَوْعُ خَفاءٍ، وذَلِكَ في غَزْوَةِ الأحْزابِ وبَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ رَدَّ اللَّهُ الكَفّارَ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا بَعْدَ أنْ كانُوا في عَشَرَةِ آلافِ مُقاتِلٍ غَيْرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، يَقُولُونَ: إنَّهُ لا غالِبَ لَهُمْ، وكَفى الله المُؤْمِنِينَ القِتالَ، وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا قاهِرًا لَهم بِرِيحٍ وجُنُودٍ لَمْ يَرَوْها، وأمْكَنَ [مِن -] بَنِي قُرَيْظَةَ، وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وذَلِكَ في شَوّالَ وذِي القِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَ الآخَرَ البارِزَ بِالفِعْلِ في ”لَهُ“ فَكانَتْ تِسْعَ عَشْرَةَ، كانَتْ إشارَةً إلى مِثْلِ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ [أجْلى -] في عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ في ذِي القِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ، فَإنَّهُ كانَ فِيها الفَتْحُ السَّبَبِيُّ الَّذِي أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فِيهِ سُورَةَ الفَتْحِ، وكانَ فِيها مِن دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ (p-٣٩٨)أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ الإخْلاصَ، وإنْ كانَ في ذَلِكَ نَوْعُ خَفاءٍ مُناسِبَةٍ لِلضَّمِيرِ وإنْ كانَ بارِزًا بِالفِعْلِ، فَقَدَ خَفِيَ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أجْمَعِينَ حَتّى نَبَّهَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها كَلِماتِ البَسْمَلَةِ الأرْبَعِ كانَتْ ثَلاثًا وعِشْرِينَ تُوازِي السَّنَةَ العاشِرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ، وهي الثّالِثَةُ والعِشْرُونَ مِنَ النُّبُوَّةِ، وفِيها كانَ اسْتِقْرارُ الفَتْحِ الأكْبَرِ والإخْلاصِ الأعْظَمِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ وأهْلِهِ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ لِحَجَّةِ الوَداعِ الَّتِي قالَ النَّبِيَّ ﷺ فِيها: [«إنَّ الشَّيْطانَ -] قَدْ أيِسَ أنْ يُعْبَدَ في أرْضِ العَرَبِ». ولِذَلِكَ تَوَفّى اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ عَقِبَها بَعْدَ إظْهارِ الدِّينِ وإذْلالِ الكافِرِينَ وإتْمامِ النِّعْمَةِ، وقامَ سُبْحانَهُ بِنَصْرِ الأُمَّةِ وحْدَهُ بَعْدَ أنْ مَهَّدَ أسْبابَ النَّصْرِ بِنَبِيِّهِ ﷺ حَتّى عَلِمَ قَطْعًا في الرِّدَّةِ وأحْوالِها، ومَوْجِ الفِتْنَةِ وأهْوالِها، وغَلَبَةِ رُعْبِها عَلى القُلُوبِ وزِلْزالِها، في ذَلِكَ الِاضْطِرابِ الشَّدِيدِ، أنَّهُ الإلَهُ وحْدَهُ الَّذِي لا كُفُوءَ لَهُ لِحِفْظِ الدِّينِ في حَياة نَبِيِّهِ ﷺ [و -]بَعْدَهُ، وكَذا فِيما بَعْدَ ذَلِكَ مِن فُتُوحِ البِلادِ، وإذْلالِ المُلُوكِ العُتاةِ الشِّدادِ، مَعَ ما لَهم مِنَ الكَثْرَةِ والقُوَّةِ بِالأمْوالِ والأجْنادِ، والتَّمَكُّنِ العَظِيمِ في البِلادِ، وجَعَلَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ بِأهْلِ الضَّعْفِ والقِلَّةِ (p-٣٩٩)آيَةً في آيَةٍ، ودَلالَةً بالِغَةً في ظُهُورِها الغايَةَ، وإذا سَلَكَتْ طَرِيقًا آخَرَ في التَّرْتِيبِ في الكَلِماتِ الخَطِّيَّةِ والِاصْطِلاحِيَّةِ دَلَّكَ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وذَلِكَ أنْ تَضُمَّ إلى الكِماتِ الخَمْسَ عَشْرَةَ كَلِماتِ البَسْمَلَةِ الأرْبَعِ لِتَكُونَ تِسْعَ عَشْرَةَ فَنُوازِي سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ، وذَلِكَ سُنَّةُ عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي سَمّاها اللَّهُ تَعالى فَتْحًا، وأنْزَلَ فِيها سُورَةَ الفَتْحِ لِكَوْنِها كانَتْ سَبَبَ الفَتْحِ الَّذِي هو عَمُودُ الإخْلاصِ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَ المُسْتَتِرَ كانَتْ عِشْرِينَ، فَوازَتْ سَنَةَ سَبْعِ الَّتِي كانَتْ فِيها عُمْرَةُ القَضاءِ، فَأظْهَرَ اللَّهُ فِيها الإخْلاصَ عَلى عَبْدِهِ ورَسُولِهِ ﷺ بَيْن أظْهُرِ المُشْرِكِينَ في البَلَدِ الَّذِي كانَ بَعْثُهُ مِنهُ وفِيهِ عَلى وجْهِ ظَهْرٍ فِيهِ أنَّهُ لا كُفُوءَ لَهُ، ولَكِنْ كانَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ خَفِيٍّ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَيْنِ المُسْتَتِرَيْنِ الجائِزِي البُرُوزِ كانَتِ اثْنَتَيْنِ وعِشْرِينَ مُوازِيَةً لِسَنَةِ تِسْعٍ سَنَةَ الوُفُودِ [و -] دُخُولِ النّاسِ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، فالإلَهِيَّةُ مِن حَيْثُ هي تَقْتَضِي الوَحْدَةَ، والوَحْدَةُ لا تَقْتَضِي الإلَهِيَّةَ، وعَبَّرَ بِهِ دُونَ الواحِدِ لِأنَّ المُرادَ الإبْلاغُ في الوَصْفِ بِالوَحْدَةِ إلى حَدٍّ لا يَكُونُ شَيْءٌ أشَدَّ مِنهُ، والواحِدُ - قالَ ابْنُ سِينا - مَقُولٌ عَلى ما تَحْتَهُ مِنَ التَّشْكِيكِ، والَّذِي لا يَنْقَسِمُ بِوَجْهٍ أصْلًا أوْلى بِالوَحْدانِيَّةِ مِمّا يَنْقَسِمُ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، (p-٤٠٠)والَّذِي يَنْقَسِمُ انْقِسامًا عَقْلِيًّا أوْلى مِمّا يَنْقَسِمُ بِالحِسِّ، [و -] الَّذِي يَنْقَسِمُ بِالحِسِّ وهو بِالقُوَّةِ أوْلى مِنَ المُنْقَسِمِ بِالحِسِّ بِالفِعْلِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ الوَحْدَةَ قابِلَةٌ لِلْأشَدِّ والأضْعَفِ وأنَّ الواحِدَ مَقُولٌ عَلى ما تَحْتَهُ بِالتَّشْكِيكِ (؟ كانَ الأكْمَلُ في الفِعْلِ الَّذِي لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ شَيْءُ آخَرُ أقْوى مِنهُ فِيها وإلّا لَمْ يَكُنْ بِالِغًا أقْصى المَرامِ، والأحَدُ جامِعٌ لِذَلِكَ دالٌّ عَلى الواحِدِيَّةِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وأنَّهُ لا كَثْرَةَ هُناكَ أصْلًا، لا مَعْنَوِيَّةَ مِنَ المَقُولاتِ مِنَ الأجْناسِ والفُصُولِ ولا بِالأجْزاءِ العَقْلِيَّةِ كالمادَّةِ والصُّورَةِ، ولا حِسِّيَّةً بِقُوَّةٍ ولا فِعْلٍ كَما في الأجْسامِ، وذَلِكَ لِكَوْنِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الجِنْسِ والفَصْلِ والمادَّةِ والصُّورَةِ والأعْراضِ والأبْعاضِ والأعْضاءِ والأشْكالِ والألْوانِ وسائِرِ الوُجُوهِ وُجُوهِ التَّشْبِيهِ الَّتِي تَثْلِمُ الوَحْدَةَ الكامِلَةَ الحَقَّةَ اللّائِقَةَ بِكَرَمِ وجْهِهِ وعِزَّ جَلالِهِ أنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ أوْ يُساوِيهِ شَيْءٌ لِأنَّ كُلَّ ما كانَتْ هُوِيَّتُهُ أنْ تَحْصُلَ مِنَ اجْتِماعٍ آخَرَ كانَتْ هُوِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلى تِلْكَ الأجْزاءِ فَلا يَكُونُ هو هو لِذاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَلِذا كانَ مُنَزَّهًا عَنِ الكَثْرَةِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ ومُتَّصِفًا بِالوَحْدِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، فَقَدْ بَلَغَ هَذا النَّظْمُ مِنَ البَيانِ أعْظَمَ شَأْنٍ، فَسُبْحانَ مَن أنْزَلَ هَذا الكَلامَ ما أعْظَمَ شَأْنَهُ وأقْهَرَ سُلْطانَهُ! فَهو مُنْتَهى الحاجاتِ، ومِن عِنْدِهِ نَيْلُ الطَّلَباتِ، ولا يَبْلُغُ أدْنى ما اسْتَأْثَرَهُ مِنَ الجَلالِ والعَظَمَةِ والبَهْجَةِ أقْصى نُعُوتِ النّاعِتِينَ، وأعْظَمَ وصْفِ الواصِفِينَ، بَلِ القَدْرُ المُمْكِنُ مِنهُ المُمْتَنِعُ أزْيَدُ مِنهُ هو الَّذِي ذَكَرَهُ في كِتابِهِ العَزِيزِ، وأوْدَعَهُ وحْيَهُ المُقَدَّسَ الحَكِيمَ، وبِالكَلامِ عَلى مَعْناهُ والمَعْنى الواحِدِ تَحَقَّقَ ما تَقَدَّمَ، قالَ الإمامُ أبُو العَبّاسِ الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ (p-٤٠١)الأسْماءِ الحُسْنى، فَمَن أهَّلَ اللِّسانَ مَن ساوى بَيْنَهُما جَعَلَهُما مُتَرادِفَيْنِ، ومِنهم مَن قالَ: أصْلُ ”أحَدٍ“ واحِدٌ، أُسْقِطَتْ مِنهُ الألِفُ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ مِنَ الواوِ المَفْتُوحَةِ مِثْلُ حَسَنَ يَحْسُنُ فَهو حَسَنٌ - مِنَ الحُسْنِ، أُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً، وأمّا مَن فَرَّقَ بَيْنَهُما فَمِنهم مَن قالَ: ”أحَدٌ“ عَلى حِيالِهِ، لا إبْدالَ فِيهِ ولا تَغْيِيرَ، ومِنهم مَن قالَ: أصْلُهُ وحَدَ - أُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً - انْتَهى.
وقَدِ اسْتَخْلَصْتُ الكَلامَ عَلى الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِن عِدَّةِ شُرُوحٍ لِلْأسْماءِ الحُسْنى وغَيْرِها، مِنها شَرْحُ الفَخْرِ الرّازِيِّ والفَخْرِ الحَرّالِيِّ وغَيْرِهِما - قالُوا: الواحِدُ الَّذِي لا كَثْرَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ لا بِقِسْمَةٍ ولا بِغَيْرِها مَعَ اتِّصافِهِ بِالعَظَمَةِ لِيَخْرُجَ الجَوْهَرُ الفَرْدُ وهو الَّذِي لا يَتَثَنّى، أيْ لا ضِدَّ لَهُ ولا شَبِيهَ، فَهو سُبْحانُهُ وتَعالى واحِدٌ بِالمَعْنَيَيْنِ عَلى الإطْلاقِ لا بِالنَّظَرِ إلى حالٍ ولا شَيْءٍ، قالَ الإمامُ أبُو العَبّاسِ الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ الحُسْنى: هَذِهِ حَقِيقَةُ الوَحْدَةِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ فَلا يَصِحُّ أنْ يُوصَفَ شَيْءٌ مُرَكَّبٌ بِها إلّا مَجازًا كَما تَقُولُ: رَجُلٌ واحِدٌ ودِرْهَمٌ واحِدٌ، وإنَّما يُوصَفُ بِها حَقِيقَةَ ما حَراكَ لَهُ (؟ كالجَوْهَرِ عِنْدَ الأشْعَرِيَّةِ غَيْرَ أنَّكَ إذا نَظَرْتَ فَوَجَدْتَ وُجُودَهُ مِن غَيْرِهِ عَلِمْتَ أنَّ اسْتِحْقاقَهُ لِهَذا الوَصْفِ لَيْسَ كاسْتِحْقاقِ مُوجِدِهِ لَهُ، وهو أيْضًا إنَّما يُوصَفُ بِهِ لِحَقارَتِهِ، ومُوجِدُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مَوْصُوفٌ بِهِ مَعَ اتِّصافِهِ بِالعَظَمَةِ، فاتِّصافُهُ بِالوَحْدَةِ عَلى الإطْلاقِ، والِاتِّصافُ بِالجَوْهَرِ بِالنَّظَرِ إلى عَدَمِ التَّرْكِيبِ مِنَ الجِسْمِ مَعَ صِحَّةِ اتِّصافِهِ بِأنَّهُ جُزْءٌ يُزِلْ عَنْهُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، والوَحْدَةُ أيْضًا بِالنَّظَرِ إلى المَعْنى الثّانِي - وهو ما لا نَظَرَ لَهُ - لا تَصِحُّ بِالحَقِيقَةِ إلّا لَهُ سُبْحانَهُ (p-٤٠٢)وتَعالى، وكُلُّ ما نَوْعِيَّتُهُ في شَخْصِيَّتِهِ كالعَرْشِ والكُرْسِيِّ والشَّمْسِ والقَمَرِ يَصِحُّ أنْ يُقَدِّرَ لَها نَظائِرَ، ولَها مَعْنًى ثالِثٌ وهو التَّوْحِيدُ بِالفِعْلِ والإيجادُ، فَيَفْعَلُ كُلَّ ما يُرِيدُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى شَيْءٍ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا الوَجْهِ والَّذِي قَبْلَهُ أنَّ الأوَّلَ ناظِرٌ إلى نَفْيِ إلَهٍ ثانٍ، وهَذا نافٍ لِمُعَيَّنٍ ووَزِيرٍ، وكِلاهُما وصْفٌ ذاتِيٌّ سَلْبِيٌّ، والحاصِلُ أنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ دَلَّ عَلى أنَّ لَنا مُوجِدًا واحِدًا بِمَعْنى أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يُلْحِقَهُ نَقْصٌ لِقِسْمَتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وبِمَعْنى أنَّهُ مَعْدُومُ النَّظِيرِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ، ومَعْنى أنَّهُ مُسْتَبِدٌّ بِالفِعْلِ مُسْتَقِلٌّ بِالإيجادِ ومُتَوَحِّدٌ بِالصُّنْعِ مُنْفَرِدٌ بِالتَّدْبِيرِ، قَضى بِهَذا شاهِدُ العَقْلِ المَعْصُومُ مِن ظُلْمَةِ الهَوى وكَثافَةِ الطَّبْعِ، ووَرَدَ بِهِ قَواطِعُ النَّقْلِ ونَواطِقُ السَّمْعِ، ولِهَذا كانَ مِن أعْظَمِ الخَلْقِ دُعاؤُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وكانَتْ دَعْوَةُ رَسُولِهِ الخاتَمِ ﷺ لِلْخَلْقِ كافَّةً، وقالَ حُجَّةُ الإسْلامِ أبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ في آخِرِ شَرْحِهِ لِلْأسْماءِ الحُسْنى في شَرْحِهِ في بَيانِ رَدِّ الأسْماءِ الكَثِيرَةِ إلى ذاتِ الواحِدِ وسَبْعِ صِفاتِ الأحَدِ المَسْلُوبِ عَنْهُ النَّظِيرُ، وقالَ في الشَّرْحِ المَذْكُورِ: الواحِدُ هو الَّذِي لا يَتَجَزّى ولا يَتَثَنّى، أمّا الَّذِي لا يَتَجَزّى فَكالجَوْهَرِ الَّذِي لا يَنْقَسِمُ فَيُقالُ عَنْهُ: إنَّهُ واحِدٌ - بِمَعْنى أنَّهُ لا جُزْءَ لَهُ، وكَذَلِكَ النُّقْطَةُ لا جُزْءَ لَها، واللَّهُ تَعالى واحِدٌ بِمَعْنى أنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَقْدِيرَ الِانْقِسامِ في ذاتِهِ، وأمّا الَّذِي لا يَتَثَنّى فَهو الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ كالشَّمْسِ مَثَلًا فَإنَّها - وإنْ كانَتْ قابِلَةً لِلِانْقِسامِ بِالوَهْمِ - مُتَحَيِّزَةً في ذاتِها لِأنَّها مِن قَبِيلِ الأجْسامِ فَهي لا نَظِيرَ لَها إلّا أنَّهُ يُمْكِنُ لَها نَظِيرٌ، ولَيْسَ في الوُجُودِ مَوْجُودٌ يَتَفَرَّدُ بِخُصُوصِ وُجُودِهِ تَفَرُّدًا (p-٤٠٣)لا يَتَصَوَّرُ أنْ يُشارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ أصْلًا إلّا الواحِدُ المُطْلَقُ أزَلًا وأبَدًا، والعَبْدُ إنَّما يَكُونُ واحِدًا إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ في أبْناءِ جِنْسِهِ نَظِيرٌ في خَصْلَةٍ مِن خِصالِ الخَيْرِ، وذَلِكَ بِالإضافَةِ إلى بَعْضِ الخِصالِ دُونَ الجَمِيعِ، فَلا وحْدَةَ عَلى الإطْلاقِ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الكَرِيمِ الشِّهْرَسْتانِيُّ في مُقَدِّمَةِ كِتابِ المِلَلِ والنِّحَلِ: واخْتَلَفُوا في الواحِدِ أهْوَ مِنَ العَدَمِ أمْ مَبْدَأُ العَدَدِ ولَيْسَ داخِلًا في العَدَدِ، وهَذا الِاخْتِلافُ إنَّما يَنْشَأُ مِنَ اشْتِراطِ لَفْظِ الواحِدِ أيْضًا، فالواحِدُ يُطْلَقُ بِهِ ويُرادُ بِهِ ما يَتَرَكَّبُ مِنهُ العَدَدُ، فَإنَّ الِاثْنَيْنِ لا مَعْنى لَهُ إلّا واحِدٌ تَكَرَّرَ أوَّلَ تَكْرِيرٍ وكَذا الثَّلاثَةُ والأرْبَعَةُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ ما يَحْصُلُ مِنهُ العَدَدُ الَّذِي هو عِلَّةٌ، ولا يَدْخُلُ في العَدَدِ الَّذِي لا يَتَرَكَّبُ مِنهُ العَدَدُ، وقَدْ يُلازِمُ الواحِدِيَّةَ جَمِيعُ الأعْدادِ لا عَلى أنَّ العَدَدَ يَتَرَكَّبُ بِها بَلْ وكُلُّ مَوْجُودٍ فَهو جِنْسُهُ أوْ نَوْعُهُ أوْ شَخْصُهُ واحِدٌ، يُقالُ: إنْسانٌ واحِدٌ، وفي العَدَدِ أنَّهُ لا كُفُوءَ لَهُ ولَكِنْ كانَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ خَفِيٍّ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَيْنِ المُسْتَتِرَيْنِ الجائِزِي البُرُوزِ كانَتِ اثْنَيْنِ وعِشْرِينَ مُوازِيَةً لِسَنَةِ تِسْعٍ سَنَةَ الوُفُودِ ودُخُولِ النّاسِ في الدِّينِ أفْواجًا، وحَجَّةُ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وتَطْهِيرُ المَسْجِدِ الحَرامِ مِن نَجَسِ الإشْراكِ بِالبَراءَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ وزَجْرِهِمْ عَنْ أنْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ العامِ مُشْرِكٌ، ونَهْيُهم عَنْ قُرْبانِهِمُ المَسْجِدَ الحَرامَ لِأنَّهم نَجَسٌ، وانْتِشارُ الإخْلاصِ في أغْلَبِ بِلادِ العَرَبِ، وذَلِكَ أجْلى مِمّا مَضى مُناسِبٌ (p-٤٠٥)لِما دَلَّ عَلَيْهِ، وفِيهِ نَوْعُ خَفاءٍ عِنْدَ مَن كانَ بَقِيَ مِنَ المُشْرِكِينَ، وإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمِيرَ الآخَرَ البارِزَ بِالفِعْلِ كانَتْ ثَلاثًا وعِشْرِينَ تُوازِي سَنَةَ حَجَّةِ الوَداعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وهي الَّتِي تَمَّ فِيها الإخْلاصُ ولَمْ يَحُجَّ بِها مُشْرِكٌ، وأيِسَ الشَّيْطانُ فِيها أنْ يُعْبَدَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، و[فِي -] ذَلِكَ - لِكَوْنِ الكَلِمَةِ ضَمِيرًا - نَوْعٌ يَسِيرٌ في الخَفاءِ بِما دَلَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الرِّدَّةِ، وكانَ ذَلِكَ أنْسَبُ الأشْياءِ بِالكَلِمَةِ المُتَحَمِّلَةِ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ وهي لَهُ، هَذا ما يُسِرُّهُ الله مِن أسْرارِ كَلِماتِها بِحَسَبِ الأعْدادِ، وأمّا حُرُوفُها فَمِنَ الأسْرارِ العَظِيمَةِ أنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ، وأنَّ حُرُوفَها مَعَ البَسْمَلَةِ بِالنَّظَرِ إلَيْها مِن حَيْثُ اللَّفْظِ وكَذا مِن حَيْثُ الرَّسْمِ سِتَّةٌ وسِتُّونَ حَرْفًا، وكَذا عِدَّةُ حُرُوفِ الجَلالَةِ المَلْفُوظَةِ وكَذا المَرْسُومَةِ بِحِسابِ الجُمَلِ، فَكُلُّ ما دَعَتْ إلَيْهِ هو مَدْلُولُ هَذا الِاسْمِ الأعْظَمِ، وهَذِهِ العُدَّةُ إذا أُخِذَتْ مِن أوَّلِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ آخِرُها مُنْطَبِقًا عَلى سَنَةِ مَوْتِ صَدِيقِهِ الأكْبَرِ الَّذِي سَبَقَ غَيْرَهُ بِما وقَرَ في صَدْرِهِ وهو أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا يُوازِيهِما أحَدٌ في الإخْلاصِ، وأنَّهُما وصَلا فِيهِ إلى الرُّتْبَةِ العُلْيا، وإنْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ أعْلى الخَلْقِ فِيهِ، وفي ذَلِكَ أيْضًا دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا كُفُوءَ لَهُ لِأنَّهُ نَفى الإشْراكَ (p-٤٠٥)بِحَذافِيرِهِ مِن جَمِيعِ جَزِيرَةِ العَرَبِ بَعْدَ أنْ كانُوا مُطْبِقِينَ عَلَيْهِ، وأطْلَقَهم سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى مَن يَلِيهِمْ مِن [مُلُوكِ -] الأُمَمِ حَتّى أظْهَرَ اللَّهُ بِهِمُ الدِّينَ - وقَدْ كانُوا أذَلَّ الأُمَمِ - عَلى الدِّينِ كُلِّهِ، ونَفَوْا جَبابِرَةَ المُلُوكِ صِغْرَةً بَعْدَ أنْ كانَ عِنْدَهم أنَّهُ لا غالِبَ لَهُمْ، وحُرُوفُها المَلْفُوظَةُ هي بِعَدَدِ [كَلِماتِ -] آياتِ التَّوْحِيدِ، وهي آيَةُ الكُرْسِيِّ أعْظَمُ آيَةٍ في القُرْآنِ، وذَلِكَ خَمْسُونَ حَرْفًا إلّا واحِدًا هو ألِفُ ﴿كُفُوًا﴾ الَّذِي هو مَرْسُومٌ غَيْرُ مَلْفُوظٍ، وهو الدّالُّ عَلى الضَّمِيرِ الَّذِي هو غَيْبُ الغَيْبِ، [فَهُوَ غَيْبٌ -] مِن جِهَةِ عَدَمِ اللَّفْظِ بِهِ، ووُجُودٌ وظُهُورٌ مِن جِهَةِ شاهِدِ الرَّسْمِ.ومَسْمُوعُ الِاسْمِ، كَما أنَّ الذّاتَ غَيْبٌ مَحْضٌ مِن جِهَةِ الحَقِيقَةِ يُدْرَكُ بِمُشاهَدَةِ الأفْعالِ، ومَسْمُوعِ الأسْماءِ العُوالِ - واللَّهُ الهادِي مِنَ الضَّلالِ.
{"ayah":"وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق