الباحث القرآني

ولَمّا تَمَّ البَيانُ لَهَوِيَّتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى هَذا الوَجْهِ الَّذِي أنْهاهُ بِالأُحْدِيَّةِ المُعَلِّمَةِ بِالتَّنَزُّهِ عَنِ القِسْمَةِ والنَّظِيرِ، وكانَ بَيانُ القُرْآنِ بِالغًا أقْصى نِهاياتِ البَيانِ، وكانَ الأحَدُ مَنِ النُّعُوتِ المُتَوَغِّلَةِ في السَّلْبِ، وكانَتِ الشَّرِكَةُ تَقَعُ في التَّعْبِيرِ بِهِ في النَّفْيِ وهو بِمَعْناهُ الحَقِيقِيِّ وتَقَعُ (p-٣٧٤)فِيهِ بِالإثْباتُ والسَّلْبُ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، أوْ دَلالَتُهُ عَلى الكَمالِ والإضافَةِ أكَمُلُ، وبَناهُ عَلى الِاسْمِ الأعْظَمِ الَّذِي هو آخِرُ الأسْماءِ الظّاهِرَةِ وأوَّلُ الأسْماءِ الباطِنَةِ، ولَمْ يَقَعْ فِيهِ شَرِكَةٌ بِوَجْهٍ دَفْعًا لِكُلِّ تَعَنُّتٍ، وإشْعارًا بِأنْ لَمْ يُسَمَّ بِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الأُلُوهِيَّةَ، وأخْلى الجُمْلَةَ عَنْ عاطِفٍ لِأنَّها كالنَّتِيجَةِ لِلْأُولى والدَّلِيلُ عَلَيْها، فَقالَ مُكاشِفًا لِنُفُوسِ المُؤْمِنِينَ ولِلْعُلَماءِ مُعِيدًا الِاسْمَ ولَمْ يُضْمِرْ لِئَلّا يَظُنُّ تَقَيُّدَ بِحَيْثِيَّةِ غَيْبٍ أوْ غَيْرِها: ﴿اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي ثَبَتَتْ إلَهِيَّتُهُ وأُحْدِيَّتُهُ، لا غَيْرُهُ ﴿الصَّمَدُ﴾ الَّذِي تَناهى سُؤْدُدُهُ المُطْلَقُ في كُلِّ شَيْءٍ [إلى حَدٍّ تَنْقَطِعُ دُونَهُ الآمالُ، فَكانَ بِحَيْثُ لا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ -] وكُلُّ شَيْءٍ إلَيْهِ مُحْتاجٌ، وتَنَزَّهَ عَنِ الجَوْفِيَّةِ فَلَمْ تَدِنَّ مِن جَنابِهِ بِفِعْلٍ ولا قُوَّةٍ لِأنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ القِسْمَةِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ مَعَ العَظَمَةِ الَّتِي لا يُشْبِبُها عَظَمَةٌ، فَكانَ واحِدًا بِكُلِّ اعْتِبارٍ، وذَلِكَ هو مَفْهُومُ الأُحْدِيَّةِ عِبارَةٌ وإشارَةٌ، فَكانَ مَصْمُودًا إلَيْهِ في الحَوائِجِ أيْ مَقْصُودًا لِأجْلِها، فَهو المَوْصُوفُ بِهَذا الِاسْمِ عَلى الإطْلاقِ، وبِكُلِّ اعْتِبارٍ، فَكانَ مُوجِدًا لِلْعالَمِ لِأنَّ العالِمَ مُرَكَّبٌ بِدَلِيلِ المُشاهَدَةِ فَكانَ مُمْكِنًا فَكانَ مُحْدِثُهُ واجِبًا قَدِيمًا، نَفْيًا لِلدَّوْرِ والتَّسَلْسُلِ المُحالَيْنِ، وخَلْقُهُ [لَهُ -] بِالقُدْرَةِ والِاخْتِيارِ (p-٣٧٥)لِأنَّهُ لَوْ كانَ بِالطَّبْعِ والإيجابِ لَكانَ وجُودُهُ مَعَ وُجُودِهِ لَأنَّ العِلَّةَ لا تَنْفَكُّ عَنِ المَعْلُولِ، فَيَلْزَمُ مِن قِدَمِ البارِئِ عَزَّ وجَلَّ قِدَمِ العالَمِ، ومِن حُدُوثِ العالَمِ حُدُوثِ البارِئِ جَلَّ وعَزَّ، وذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وهو مُحالٌ، وقِصَرُ الصَّمَدِيَّةِ عَلَيْهِ لِأنَّ اشْتِدادَ الألِفِ لِحاجَةِ الشَّيْءِ إلى غَيْرِهِ رُبَّما كانَ مُوجِبًا لِخَفاءِ اخْتِصاصِهِ بِهِ، ولَمْ يُقَصِّرِ الأُحْدِيَّةِ إمّا لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ذَلِكَ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ غَنِيٌّ عَنِ التَّأْكِيدِ. وإمّا اسْتِئْلافًا لَهم لِئَلّا يَنْفِرُوا قَبْلَ سَماعِ تَمامِ السُّورَةِ عَلى أنَّهُ بِظُهُورِ قِصَرِ الصَّمَدِيَّةِ الَّتِي أحَدُ مَعْنَيَيْها لازِمُ الأُحْدِيَّةِ ظَهَرَ الِاخْتِصاصُ بِالأُحْدِيَّةِ، قالَ العُلَماءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى: والصَّمَدُ مَن صَمَدَ إلَيْهِ - إذا قَصَدَهُ، وهو كالأحَدِ، بُنِيَ عَلى هَذا الوَزْنِ لِأنَّهُ لا تَلْحَقْهُ المُضارَعَةُ ولا تَدْنُ مِنهُ المُشابِهَةُ لِأنَّهُ اسْمٌ خاصٌّ فَهو السَّيِّدُ المَصْمُودُ إلَيْهِ، وهو أيْضًا الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ ولا رَخاوَةَ بِوَجْهٍ فِيهِ، لِأنَّ الأجْوافَ وِعاءٌ، وكُلُّ وِعاءٍ مُحْتاجٌ إلى مُوَعِّيهِ، يُقالُ: شَيْءٌ مُصَمَّدٌ، أيْ صُلْبٌ، وحَجَرٌ صَمَدٌ: أمْلَسُ لا يَقْبَلُ الغُبارُ ولا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ ولا يَخْرُجُ مِنهُ شَيْءٌ، قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وهو عَلى هَذا الدّالِّ فِيهِ مُبْدِلُهُ مِنَ التّاءِ وهو المُصْمَتُ، وهو أيْضًا العالِي الَّذِي تَناهى عُلُوُّهُ، تَقُولُ العَرَبُ لِما أشْرَفَ مِنَ الأرْضِ: صَمْدٌ - بِإسْكانِ المِيمِ، وبِناءٍ صَمَدٍ أيْ (p-٣٧٦)مُعَلّى، فَهو عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ مِنَ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ بِمَعْنى أنَّهُ سَيِّدٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، والكُلُّ مُحْتاجُونَ إلَيْهِ في ابْتِداءِ إيجادِهِمْ وفي تَرْبِيَتِهِمْ، فَهم يَصْمُدُونَ إلَيْهِ في الحَوائِجِ ويَقْصِدُونَ إلَيْهِ في جَمِيعِ الرَّغائِبِ، وهو غَنِيٌّ عَلى الإطْلاقِ، وذَلِكَ هو اتِّصافُهُ بِصِفاتِ الإلَهِيَّةِ، قالَ [ الإقْلِيشِيُّ -]: فَعَلى هَذا أيْ أنَّهُ الَّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ ويَعْتَمِدُ عَلَيْهِ لِتَناهِي سُؤْدُدُهُ - يَتَشَعَّبُ مِن صِفَةِ الصَّمَدِ صِفاتُ السُّؤْدُدِ كُلُّها مِنَ الجُودِ، والحِلْمُ وغَيْرُ ذَلِكَ وإذا قُلْنا: إنَّ الصَّمَدَ العالِيَ تَشَعَّبَتْ مِنهُ صِفاتُ التَّعالِي كُلُّها مِنَ العِزَّةِ والقَهْرِ والعُلُوِّ ونَحْوِها - انْتَهى، وقَدْ رَوى البَيْهَقِيُّ رَحْمَة اللَّهِ تَعالى بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قَوْلِهِ ”الصَّمَدُ“ قالَ: هو السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ في سُؤْدُدِهِ، والشَّرِيفُ الَّذِي كَمُلَ في شَرَفِهِ، والعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ في عَظْمَتِهِ، والحَلِيمُ الَّذِي [قَدْ -] كَمُلَ في حُلْمِهِ، والغَنِيُّ الَّذِي [ قَدْ -] كَمُلَ في غِناهُ، والجَبّارُ الَّذِي [قَدْ -] كَمُلَ في جَبَرُوتِهِ، والعالَمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ في عِلْمِهِ، والحَكَمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ في حُكْمِهِ، وهو الَّذِي كَمُلَ في أنْواعِ الشَّرَفِ والسُّؤْدُدِ وهو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، هَذِهِ صِفَتُهُ لا تَنْبَغِي إلّا لَهُ، (p-٣٧٧)لَيْسَ لَهُ كُفُوءً، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَسُبْحانَ اللَّهِ الواحِدِ القَهّارِ وقالَ أبُو العَبّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ الحَنْبَلِيُّ -] في كِتابِهِ ”الفَرْقانِ بَيْنَ أوْلِياءِ الرَّحْمَنِ وأوْلِياءِ الشَّيْطانِ“: أجْمَعَ سَلَفُ الأُمَّةِ وأئِمَّتُها أنَّ الرَّبَّ سُبْحانَهُ وتَعالى بائِنٌ مِن مَخْلُوقاتِهِ، يُوصَفُ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وبِما وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ بِوَصْفٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ [دُونَ صِفاتِ النَّقْصِ، ونَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولا كُفُوءَ لَهُ في شَيْءٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ -] كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ - إلى آخِرِها، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الصَّمَدُ - إلى آخِرِ ما مَضى عَنْهُ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وغَيْرُهُ: هو الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ، والأحَدُ الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ. فاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصافَهُ بِصِفاتِ الكَمالِ ونَفْيِ النَّقائِصِ عَنْهُ، واسْمُهُ الأحَدُ يَتَضَمَّنُ أنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ، وقالَ الحَرّالِيُّ: الصَّمَدُ - يَعْنِي بِالسُّكُونِ: - التَّوَجُّهُ بِالحاجاتِ إلى مَلِيٍّ بِقَضائِها لا يَحْتاجُ إلى سِواهُ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ [الصَّمَدُ -] سَيِّدًا لا يُسادُ، السَّيِّدُ اللَّهُ - انْتَهى، وعَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي: هو مِنَ النُّعُوتِ السَّلْبِيَّةِ، فَهو دالٌّ عَلى نَفْيِ الماهِيَّةِ الَّتِي تَعَنَّتَ بِها فِرْعَوْنُ لِاقْتِضائِها المُقَوِّماتِ المُسْتَلْزَمَةِ لِلْحاجَةِ إلى ما بِهِ التَّقْوِيمُ، وعَلى (p-٣٧٨)إثْباتِ الهُوِيَّةِ المُنَزَّهَةِ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍّ، فَإنَّ كُلَّ ما لَهُ ماهِيَّةٌ كانَ لَهُ جَوْفٌ وباطِنٌ، وهو تِلْكَ الماهِيَّةُ، وهو ما لا باطِنَ لَهُ، وهو مَوْجُودٌ فَلا جِهَةَ ولا اعْتِبارَ في ذاتِهِ إلّا الوُجُودُ، فَهو واجِبُ الوُجُودِ غَيْرُ قابِلٍ لِلْعَدَمِ، وقَدْ عَلِمَ بِهَذا أنَّهُ جامِعٌ لِما ذَكَرَ فِيما قَبْلَهُ، فَإنَّ هَذا التَّفْسِيرَ الثّانِيَ يَتَشَعَّبُ مِنهُ مِنَ الأسْماءِ ما يَنْظُرُ إلى نَفْيِ التَّرْكِيبِ كالأحَدِ [ونَحْوِهِ ] وهَذانَ التَّفْسِيرانِ الأوَّلُ والثّانِي جامِعانِ لِجَمِيعِ ما فَسَّرَ بِهِ ولَمّا عَسى أنْ يُقالَ فِيهِ سُبْحانَهُ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونُعُوتُ العَظَمَةِ والجَلالِ، فَمَن كانَ مَصْمُودًا إلَيْهِ في جَمِيعِ الحاجاتِ ومُتَعالِيًا عَنْ كُلِّ سَمْتِ حَدَثٍ وشائِبَةِ نَقْصٍ كانَ مُوجِدًا لِكُلِّ ما يُرِيدُ مِن نَفْعٍ وضُرٍّ ونافِعٍ وضارٍّ، قادِرًا عَلى حِفْظِ ما يُرِيدُ، وكانَ مَعْلُومًا كالشَّمْسِ أنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّهُ هو وحْدَهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ لِاحْتِياجِ الكُلِّ إلَيْهِ الِاحْتِياجُ المُطْلَقَ، وغِناهُ عَنْهُمُ الغِنى المُطْلَقَ، وتَفَرُّدُهُ بِصِفاتِ الكَمالِ والِانْقِطاعِ عَنْ قَرِينٍ، وإلى الصَّمَدانِيَّةِ يَنْتَهِي التَّوَجُّهُ وهو الإقْبالُ بِالكُلِّيَّةِ، وهي تَرُدُّ عَلى الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِتَدْبِيرِ العُقُولِ، والصّابِيَةِ القائِلِينَ بِتَدْبِيرِ النُّجُومِ، وعَلى غَيْرِهِمْ مِن [كُلِّ مَنِ -] ادَّعى تَدْبِيرًا لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومَنِ اعْتَقَدَ (p-٣٧٩)صَمَدِيَّتَهُ المُقْتَضِيَةُ لِكَمالِ الذّاتِ والصِّفاتِ وشُمُولِ التَّدْبِيرِ، أنْتَجَ لَهُ كَمالَ التَّفْوِيضِ والتَّوَكُّلِ وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وهَذِهِ الأسْماءُ الأرْبَعَةِ مُشِيرَةٌ إلى مَقاماتِ السّائِرِينَ ومُراماتِ الحائِرِينَ والجائِرِينَ، فالمُقَرَّبُونَ نَظَرُوا إلى الأشْياءِ فَوَجَدُوا كُلَّ ما سِواهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مَعْدُومًا بِالذّاتِ، فَكانَ ذِكْرُهم ”هُوَ“ [و -]أصْحابُ اليَمِينِ نَظَرُوا إلى وُجُودِ المُمَكَّناتِ فَعَيَّنُوا مُرادَهم ومَيَّزُوا مَذْكُورَهم بِالجَلالَةِ، وأصْحابُ الشِّمالِ جَوَّزُوا الكَثْرَةَ في الإلَهِ فاحْتاجُوا في تَذْكِيرِهِمْ إلى الوَصْفِ بِالأُحْدِيَّةِ والصَّمَدِيَّةِ، وهي رادَّةٌ عَلى أهْلِ الِاتِّحادِ أعْظَمَ رَدٍّ، فَإنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ الإلَهَ هو هَذا العالَمُ، وهو مُنْقَسِمٌ بِالحِسِّ فَضْلًا عَمّا عَداهُ ومُحْتاجٌ أشَدَّ احْتِياجٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب