الباحث القرآني
(p-٣١٧)ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَقَدْ سَبَّحَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِالحَمْدِ بِإبْعادٍ نَجَسِ الشِّرْكِ عَنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ بِالفِعْلِ، قالَ إيذانًا بِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقائِصِ الَّتِي مِنها إخْلافُ الوَعْدِ، وأنَّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الجَلالِ والجَمالِ، مُعَبِّرًا بِما يُفِيدُ التَّعَجُّبَ لِزِيادَةِ التَّعْظِيمِ لِلْمُتَعَجِّبِ مِنهُ لِيُثْمِرَ ذَلِكَ الإجْلالَ والتَّعْظِيمَ والتَّذَلُّلَ والتَّقَبُّلَ لِجَمِيعِ الأوامِرِ، ويَفْهَمُ أمْرَهُ تَعالى لِلنَّبِيِّ ﷺ بِالِاشْتِغالِ [بِخاصَّةِ نَفْسِهِ بِدُنُوِّ أجَلِهِ، وأنَّ اشْتِغالَهُ -] بِالنّاسِ قَدِ انْتَهى، لِأنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ ﷺ شُغْلٌ في دارِ الكَدَرِ: ﴿فَسَبِّحْ﴾ أيْ نَزِّهْ أنْتَ بِقَوْلِكَ وفِعْلِكَ بِالصَّلاةِ وغَيْرِها مُوافَقَةً لِمَوْلاكَ فِيما فَعَلَ، وزِدْ في جَمِيعِ أنْواعِ العِبادَةِ، تَسْبِيحًا مُتَلَبِّسًا ﴿بِحَمْدِ﴾ أيْ بِكَمالٍ وإجْلالٍ وتَعْظِيمٍ ﴿رَبِّكَ﴾ أيِ الَّذِي أنْجَزَ لَكَ الوَعْدَ بِإكْمالِ الدِّينِ وقَمْعِ المُعْتَدِينَ، المُحْسِنِ إلَيْكَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، لِأنَّهُ كُلُّهُ لِكَرامَتِكَ، وإلّا فَهو عَزِيزٌ حَمِيدٌ عَلى كُلِّ حالٍ، تَعَجُّبًا لِتَيْسِيرِ اللَّهِ مِن هَذا الفَتْحِ مِمّا لَمْ يَخْطُرْ بِالبالِ، وشُكْرًا لِما أنْعَمَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى [عَلَيْهِ -] مِن أنَّهُ أراهُ تَمامَ ما أُرْسِلَ لِأجْلِهِ، ولِأنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُها أتْباعُهُ لَهُ مِثْلُها.
ولَمّا أمَرَهُ ﷺ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، ووَصْفَهُ تَنَزُّلًا (p-٣١٨)عَنْ غَيْبِ الغَيْبِ إلى الغَيْبِ بِكُلِّ كَمالٍ مُضافًا إلى الرَّبِّ تَدَلِّيًا إلى مُشاهَدَةِ الأفْعالِ، وصَلَ إلى نِهايَة التَّنَزُّلِ مِنَ الخالِقِ إلى المَخْلُوقِ مُخاطِبًا لِأعْلى الخَلائِقِ كُلِّهِمْ فَأمَرَهُ بِما يَفْهَمُ العَجْزَ عَنِ الوَفاءِ بِحَقِّهِ لِما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ المُشار إلَيْها بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى العِظَمِ والعُلُوِّ إلى مَحَلِّ الغَيْبِ الَّذِي لا مَطْمَعَ في دَرْكِهِ ما تَنْقَطِعُ الأعْناقُ دُونَهُ لِيَفْهَمَ عَجْزَ غَيْرِهِ مِن بابِ الأوْلى، فَقالَ مُعَلِّمًا بِأنَّ مِن كَمالِهِ أنْ يَأْخُذَ بِالذَّنْبِ إنْ شاءَ ويَغْفِرَ إنْ شاءَ وإنْ عَظُمَ الذَّنَبُ، لِيَحُثَّ ذَلِكَ عَلى المُبادَرَةِ إلى التَّوْبَةِ وتَكْثِيرِ الحَسَناتِ وحُسْنِ الرَّجاءِ: ﴿واسْتَغْفِرْهُ﴾ أيِ اطْلُبْ غُفْرانَهُ إنَّهُ كانَ غَفّارًا إيذانًا بِأنَّهُ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُقَدِّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ كَما أشارَ إلى ذَلِكَ الِاسْتِغْفارِ عَقِبَ الصَّلاةِ الَّتِي هي أعْظَمُ العِباداتِ لِتَقْتَدِيَ بِكَ أُمَّتُكَ في المُواظَبَةِ عَلى الأمانِ الثّانِي لَهُمْ، فَإنَّ الأمانَ الأوَّلَ - الَّذِي هو وُجُودُكَ بَيْن أظْهُرِهِمْ قَدْ دَنا رُجُوعُهُ إلى مَعْدِنِهِ في الرَّفِيقِ الأعْلى والمَحَلِّ الأقْدَسِ الأوْلى، وكَذا فَعَلَ ﷺ - كانَ يَقُولُ: «سُبْحانَكَ لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ» ودَخَلَ يَوْمَ الفَتْحِ مَكَّةَ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ حَتّى إنَّهُ لِيَكادُ يَمَسُّ واسِطَةَ الرَّحْلِ تَواضُعًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إعْلامًا لِأصْحابِهِ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ أنَّ ما وقَعَ (p-٣١٩)إنَّما هو بِحَوْلِ اللَّهِ، لا بِكَثْرَةِ ما مَعَهُ مِنَ الجَمْعِ، وإنَّما جَعَلَهم سَبَبًا لُطْفًا مِنهُ بِهِمْ، ولِذَلِكَ نَبَّهَ مَن ظَنَّ مِنهم أوْ هَجَسَ في خاطِرِهِ أنَّ لِلْجَمْعِ مَدْخَلًا بِما وقَعَ مِنَ الهَزِيمَةِ في حُنَيْنٍ أوَّلًا، وما وقَعَ بَعْدُ مِنَ النُّصْرَةِ بِمَن ثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وهم لا يَبْلُغُونَ ثَلاثِينَ نَفْسًا ثانِيًا، فالتَّسْبِيحُ الَّذِي هو تَنْزِيهٌ عَنِ النَّقْصِ إشارَةٌ إلى إكْمالِهِ الدِّينَ تَحْقِيقًا لِما [كانَ -] تَقَدَّمَ بِهِ وعْدُهُ الشَّرِيفُ.
والِاسْتِغْفارُ إشارَةٌ إلى أنَّ عِبادَتَهُ ﷺ الَّتِي هي أعْظَمُ العِباداتِ قَدْ شارَفَتْ الِانْقِضاءَ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِالمَوْتِ، فَلِذَلِكَ أمَرَ بِالِاسْتِغْفارِ لِأنَّهُ يَكُونُ في خاتِمَةِ المَجالِسِ والأعْمالِ [جَبْرًا -] لِما لَعَلَّهُ وقَعَ فِيها عَلى نَوْعٍ مِنَ الوَهْنِ واعْتِرافًا بَذْلُ العُبُودِيَّةِ والعَجْزِ.
ولَمّا أمَرَ بِذَلِكَ فَأرْشَدَ السِّياقَ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: وتُبْ إلَيْهِ، عَلَّلَهُ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ اسْتِبْعادِ مَن يَسْتَبْعِدُ مَضْمُونَ ذَلِكَ مِن رُجُوعِ النّاسِ في الرِّدَّةِ ومَن غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ﴾ أيِ المُحْسِنُ إلَيْكَ غايَةَ الإحْسانِ بِخِلافَتِهِ لَكَ في أُمَّتِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ لِأجْلِ دَلالَةِ ما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ الجَلالَةِ مَرَّتَيْنِ عَلى غايَةِ العَظَمَةِ والفَوْتِ عَنِ الإدْراكِ (p-٣٢٠)بِالِاحْتِجابِ بِإرادَتِهِ الكِبْرِياءَ والعِزَّ والتَّجَبُّرَ والقَهْرَ مَعَ أنَّ المَأْلُوفَ أنَّ مَن كانَ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ كانَ بِحَيْثُ لا يَقْبَلُ عُذْرًا ولا يَقْبَلُ نادِمًا ﴿كانَ﴾ أيْ لَمْ يَزَلْ عَلى التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ ﴿تَوّابًا﴾ أيْ رَجّاعًا بِمَن هَذَّبَ بِهِ الشَّيْطانَ مِن أهْلِ رَحْمَتِهِ فَهو الَّذِي رَجَعَ بِأنْصارِكَ عَمّا كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِماعِ عَلى الكُفْرِ والِاخْتِلافِ والعَداواتِ فَأيَّدَكَ بِدُخُولِهِمْ في الدِّينِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى أسْرَعَ بِهِمْ بَعْدَ سُورَةِ الفَتْحِ إلى أنْ دَخَلَتْ مَكَّةَ في عَشَرَةِ آلافٍ، وهو أيْضًا يَرْجِعُ بِكَ إلى الحالِ الَّتِي يَزْدادُ بِها ظُهُورُ رِفْعَتِكَ في الرَّفِيقِ الأعْلى ويَرْجِعُ عَنْ تَخَلْخُلٍ مِن أُمَّتِكَ في دِينِهِ بِرِدَّةٍ أوْ مَعْصِيَةٍ دُونَ ذَلِكَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ، ويَسِيرُ بِهِمْ أحْسَنَ سَيْرٍ، فَقَدْ رَجَعَ آخِرَ السُّورَةِ إلى أوَّلِها لِأنَّهُ لَوْلا تَحَقُّقِ وصْفِهِ بِالتَّوْبَةِ لَما وجَدَ النّاصِرَ الَّذِي وجَدَ بِهِ الفَتْحَ والتَحَمَ مَقْطَعُها أيْ التِحامٌ بِمَطْلَعِها، وعَلِمَ أنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنها مُسَبِّبَةٍ عَمّا قَبْلَها، فَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلى عَبْدِهِ نَتِيجَةُ تَوْبَتِهِ بِاسْتِغْفارِهِ الَّذِي [هُوَ -] طَلَبُ المَغْفِرَةِ بِشُرُوطِهِ، وذَلِكَ ثَمَرَةُ اعْتِقادِهِ الكَمالَ في رَبِّهِ، وذَلِكَ ما دَلَّ عَلَيْهِ إعْلاؤُهُ لِدِينِهِ، وقَسْرُهُ لِلدّاخِلِينَ فِيهِ عَلى الدُّخُولِ مَعَ [أنَّهم -] أشَدُّ النّاسِ شَكائِمَ وأعْلاهم (p-٣٢١)هِمَمًا وعَزائِمَ، وقَدْ كانُوا في غايَةِ الإباءِ لَهُ والمُغالَبَةِ لِلْقائِمِ بِهِ، وذَلِكَ هو فائِدَةُ الفَتْحِ هو آيَةُ النَّصْرِ، وقَدْ عَلِمَ أنَّ الآيَةَ الأخِيرَةَ مِنَ الِاحْتِباكِ: دَلَّ بِالأمْرِ بِالِاسْتِغْفارِ [عَلى الأمْرِ بِالتَّوْبَةِ، وبِتَعْلِيلِ الأمْرِ بِالتَّوْبَةِ عَلى تَعْلِيلِ الأمْرِ بِالِاسْتِغْفارِ -]، وعَلِمَ أنَّ السُّورَةَ إشارَةٌ إلى وفاتِهِ ﷺ بِالحَثِّ عَلى الِاسْتِغْفارِ الَّذِي هو الأمانُ الثّانِي، ومِن شَأْنِهِ أنْ تُخْتَمَ بِهِ الأعْمالُ والمَجالِسُ بَعْدَ ما أشارَ إلَيْهِ إعْلامُها بِظُهُورِ الدِّينِ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ونُزُولِها في أوْسَطِ [أيّامِ -] التَّشْرِيقِ مِن حُجَّتِهِ عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ سَنَةَ عَشْرٍ كَما ذَكَرْتُهُ في كِتابِي ”مَصاعِدُ النَّظَرِ لِلْإشْرافِ عَلى مَقاصِدِ السُّوَرِ“ وكِتابِي ”الِاطِّلاعُ عَلى حَجَّةِ الوَداعِ“ وذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ المائِدَةِ - الَّتِي هي نَظِيرَتُها في رَدِّ المَقْطَعِ عَلى المَطْلَعِ - في يَوْمِ عَرَفَةَ
﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا يَكُونُ في هَذِهِ الدّارِ كَمالٌ إلّا بَعْدَهُ نُقْصانُ، ولِذَلِكَ سَمّاها النَّبِيُّ ﷺ حَجَّةَ الوَداعِ وخَطَبَ النّاسَ فِيها، فَعَلَّمَهم أُمُورَ دِينِهِمْ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ وأشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ (p-٣٢٢)بِأنَّهُ بَلَّغَهُمْ، ووَدَّعَهم وقالَ: لا أدْرِي لَعَلِّي [لا -] ألْقاكم بَعْدَ عامِي هَذا، وأشارَ إلى ذَلِكَ أيْضًا بِالتَّوْبَةِ وإلى وُقُوعِ الرِّدَّةِ بَعْدَهُ ﷺ ورُجُوعِ مَنِ ارْتَدَّ إلى أحْسَنِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ اعْتِقادِهِمْ في الدِّينِ وثَباتِهِمْ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَن كانَ مَطْبُوعًا عَلى الكُفْرِ المُشارِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ أسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣] - أيْ إسْماعُ قَهْرٍ وغَلَبَةٍ وقَسْرٍ - ﴿لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣] فَكانَ وُجُودُهم ضَرَرًا صِرْفًا مِن غَيْرِ مَنفَعَةٍ وقَتْلُهم نَفْعًا لا ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ، ولِأجْلِ إفْهامِها حُلُولُ الأجَلِ لِلْإيذانِ بِالتَّمامِ «بَكى العَبّاسُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وفي رِوايَةٍ: ولَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ - عِنْدَ نُزُولِها فَسَألَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: ”نَعَيْتُ إلَيْكَ نَفْسَكَ“ فَقالَ: إنَّهُ لَكُما تَقُولُ» . كَما بَكى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ المائِدَةِ، وعَلَّلَ بِهَذا - واللَّهُ الهادِي، وقَدْ ظَهَرَ بِهَذا أنَّ حاصِلَها الإيذانُ بِكَمالِ الدِّينِ ودُنُوِّ الوَفاةِ لِخاتَمِ النَّبِيِّينَ، والنَّصْرِ عَلى جَمِيعِ الظّالِمِينَ الطّاغِينَ الباغِينَ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ مَقاصِدِ المائِدَةِ، المُناظَرَةُ لِهَذِهِ في التَّطْبِيقِ بَيْنَ البادِئَةِ والعائِدَةِ، كَما أشارَ إلَيْهِ [قَوْلُهُ تَعالى -]: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] (p-٣٢٣)الآيةُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَتَوَلَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيهِنَّ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: ١٢٠] ومِن أعْظَمِ لِطائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ ودَقِيقِ بَدائِعِها ولَطِيفِ مُنازِعِها أنَّ كَلِماتِها تَدُلُّ بِأعْدادِها عَلى أُمُورٍ جَلِيلَةٍ وأسْرارٍ جَمِيلَةٍ، فَإنَّها تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وقَدْ كانَ في سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ مَوْتُ قَيْصَرَ طاغِيَةِ الرُّومِ، وذَلِكَ أنَّ عَمْرَو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمّا فَتَحَ الإسْكَنْدَرِيَّةَ قالَ قَيْصَرُ: لَئِنْ غَلَبُونا عَلى الإسْكَنْدَرِيَّةِ لَقَدْ هَلَكَتِ الرُّومُ، فَتَجَهَّزَ لِيُباشِرَ قِتالَهم بِنَفْسِهِ، فَعِنْدَما فَرَغَ مِن جِهازِهِ صَرَعَهُ اللَّهُ فَماتَ وكَفى اللَّهُ المُسْلِمِينَ شَرَّهُ، وذُلَّ الرُّومِ بِذَلِكَ ذُلًّا كَبِيرًا، واسْتَأْسَدَتِ العَرَبُ، وفي هَذِهِ السَّنَةِ أيْضًا فَتَحَ اللَّهُ قَيَسارِيةَ مِن بِلادِ الشّامِ فَلَمْ يَبْقَ بِالشّامِ أقْصاها وأدْناها عَدُوٌّ، وفَرِحَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وكانَ فِيها أيْضًا فَتْحُ جَلَوْلاءَ، مِن بِلادِ فارِسٍ، وكانَ فَتْحُها يُسَمّى فَتْحَ الفُتُوحِ، لِأنَّ الفُرْسَ لَمْ يَنْجَبِرُوا بَعْدَهُ، هَذا إنَّ عَدَدَنا ما يُوازِي كَلِماتِها مِن سَنَةِ الهِجْرَةِ، وإنَّ عَدَدَنا مِن سَنَةِ نُزُولِ السُّورَةِ في سَنَةِ عَشْرٍ فَقَدْ فُتِحَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وعِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ - وهي التّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِن نُزُولِها - (p-٣٢٤)مَدِينَةُ اصْطَخَرَ، واشْتَدَّ ضَعْفُ الفُرْسِ، وأمَرَ مَلِكِهِمْ يَزْدَجَرْدَ [و -] اجْتِهادُهُ في الهَرَبِ مِنَ العَرَبِ حَتّى قُتِلَ سَنَةَ إحْدى وثَلاثِينَ مِنَ الهِجْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ، وذَلِكَ هو العَدُّ المُوازِي لِعَدِّ كَلِماتِها ظَواهِرَ وضَمائِرَ مَعَ كَلِماتِ البَسْمَلَةِ، وإذا نَظَرْتَ إلى ما هُنا مِن هَذا وطَبَّقْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما ذَكَرَ في سُورَةِ الفَتْحِ مِن مِثْلِهِ زادَ عَجَبَكَ مِن باهِرِ هَذِهِ الآياتِ - واللَّهُ المُوَفِّقُ، ثُمَّ إنَّكَ إذا اعْتَبَرْتَ اعْتِبارًا آخَرَ وجَدْتَ هَذِهِ السُّورَةَ كَما دَلَّتْ بِجُمْلَتِها عَلى انْقِضاءِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ دَلَّتْ بِمُفْرَداتِ كَلِماتِها عَلى انْقِضاءِ خِلافَةِ النُّبُوَّةِ لِتَمامِ ثَلاثِينَ سَنَةً كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيما رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنِّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ عَنْ سَفِينَةِ مَوْلى النَّبِيِّ ﷺ ورَضِيَ عَنْهُ
«خِلافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاثُونَ، ثُمَّ يُؤْتِي [اللَّهُ -] المُلْكَ مَن يَشاءُ» وذَلِكَ أنَّكَ إذا عَدَدْتَ كَلِماتِها مَعَ البَسْمَلَةِ كانَتْ بِاعْتِبارِ الرَّسْمِ ثَلاثًا وعِشْرِينَ كَلِمَةً، وذَلِكَ مُشِيرًا إلى انْقِضاءِ الخِلافَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَطُّ خِلافَةً مِثْلَها، وهي خِلافَةُ الفارُوقِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاسْتِشْهادِهِ في ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثَةٍ وعِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، فَإذا ضَمَمْتَ إلى ذَلِكَ الضَّمائِرَ البارِزَةَ وهي خَمْسَةٌ، والمُسْتَتِرَةُ وهي ثَلاثَةٌ، فَكانَتْ أحَدًا وثَلاثِينَ، (p-٣٢٥)وحَسِبْتُ مِن حِينِ نُزُولِ السُّورَةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ في ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ عَشْرٍ كانَ ذَلِكَ مُشِيرًا إلى انْقِضاءِ خِلافَةِ النُّبُوَّةِ كُلِّها بِإصْلاحِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ سَنَةَ إحْدى وأرْبَعِينَ، وذَلِكَ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلاثِينَ سَنَةً مِن مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الهِجْرَةِ لا تَزِيدُ شَهْرًا ولا تَنْقُصُهُ، وإنْ أُخِذَتْ.الضَّمائِرُ وحْدَها بارَزُها ومُسْتَتِرُها دَلَّتْ عَلى فَتْحِ مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ بِعَيْنِهِ، فَإنَّها - كَما مَضى - ثَمانِيَةٌ وقَدْ كانَ الفَتْحُ سَنَةَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ، ومِن لَطائِفِ الأسْرارِ وبَدائِعِ الأنْظارِ أنَّها تَدُلُّ عَلى السِّنِينَ بِحَسَبَ التَّفْصِيلِ، فالبارِزُ يَدُلُّ عَلى سَنَةِ النَّصْرِ والظُّهُورِ عَلى قُرَيْشٍ لِأنَّهُمُ المَقْصُودُونَ بِالذّاتِ لِأنَّ العَرَبَ لَهم تَبَعٌ، والمُسْتَتِرُ يَدُلُّ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، وشَرْحُ هَذا أنَّهُ لَمّا كانَتْ قَدْ خَفَقَتْ [فِي -] السَّنَةِ الأُولى مِنَ الهِجْرَةِ راياتُ الإسْلامِ في كُلِّ وجْهٍ، وانْتَشَرَتْ أُسْدُهُ في كُلِّ صَوْبٍ، وانْبَثَّتْ سَراياهُ في كُلِّ قُطْرٍ، أشارَ إلَيْها التّاءُ في ﴿ورَأيْتَ﴾ [النصر: ٢] الَّتِي هي ضَمِيرُهُ ﷺ إشارَةً إلى ما يَخْتَصُّ بِفَهْمِهِ مِنَ البِشارَةِ. ولَمّا كانَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ مِن واضِحِ الظَّفْرِ وعَظِيمِ النَّصْرِ ما هَدَّ قُلُوبَ الكُفّارِ، وشَدَّ قُلُوبَ الأنْصارِ في سائِرِ الأمْصارِ، وأعْلى لَهُمُ القَدْرَ، أشارَ إلى ذَلِكَ واوُ ﴿يَدْخُلُونَ﴾ [النصر: ٢] ولَمّا حَصَلَ في السَّنَةِ الثّالِثَةِ ما لَمْ يَخَفْ مِنَ المُصِيبَةِ في غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي رُبَّما أوْهَمَتْ بَعْضَ مَن لَمْ يُرَسِّخْ نَقْصًا، أشارَ إلى ذَلِكَ الضَّمِيرُ (p-٣٢٦)المُسْتَتِرُ في ﴿فَسَبِّحْ﴾ ولَمّا كانَ الخَبَرُ في الرّابِعَةِ بِإجْلاءِ بَنِي النَّضِيرِ وإخْلافِ قُرَيْشٍ لِلْوَعْدِ في بَدْرٍ جَبْنًا وعَجْزًا حَيْثُ وفى النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم شَجاعَةٌ وقُوَّةٌ بِحَوْلِ اللَّهِ وانْقَلَبُوا، مِنها بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمَسَّهم سُوءٌ، أشارَ إلى ذَلِكَ الكافُ في ﴿رَبِّكَ﴾ ولَمّا كانَ في الخامِسَةِ غَزْوَةُ الأحْزابِ أشارَ إلَيْها المُسْتَتِرُ في ﴿واسْتَغْفِرْهُ﴾ [ولَمّا كانَ في السّادِسَةِ عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي سَمّاها النَّبِيُّ ﷺ فَتْحًا، أنْزَلَ اللَّهُ فِيها سُورَةَ الفَتْحِ -] لِكَوْنِها كانَتْ سَبَبًا لِلْفَتْحِ، فَكانَ ذَلِكَ عَلَمًا مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ، ولَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ فِيها إلى المُلُوكِ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ تَعالى أشارَ إلى ذَلِكَ الضَّمِيرُ البارِزُ في ﴿واسْتَغْفِرْهُ﴾ وأكَّدَ قُوَّتَهُ [كَوْنُهُ] لِلرَّبِّ تَعالى، ولَمّا كانَ في السّابِعَةِ غَزْوَةُ خَيْبَرَ وعُمْرَةُ القَضاءِ أشارَ إلَيْها الضَّمِيرُ الظّاهِرُ في ﴿إنَّهُ﴾ ولَمّا كانَ ضَمِيرُ [ ﴿كانَ﴾ لِلَّهِ، وكانَ لَهُ سُبْحانَهُ حَضْرَتانِ: حَضْرَةُ غَيْبٍ وبُطُونٍ، وحَضْرَةُ شَهادَةٍ وظُهُورٍ، وكانَتْ حَضْرَةً -] الغَيْبُ هي حَضْرَةُ الجَلالِ والكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ والتَّعالِي، وحَضْرَةُ الشَّهادَةِ حَضْرَةُ التَّنَزُّلِ بِالأفْعالِ والِاسْتِعْطافِ بِالأقْوالِ، كانَتِ الحَضْرَتانِ لِلنَّصْرِ، وكانَتْ حَضْرَةُ الغَيْبِ أعْظَمَهُما نَصْرًا وأشَدَّهُما أزْرًا، فَلِذَلِكَ كانَ ضَمِيرُ الِاسْتِتارِ دالًّا عَلى الفَتْحِ الأكْبَرِ بِالِانْتِصارِ عَلى السُّكّانِ والدِّيارِ بِسَطْوَةِ الواحِدِ القَهّارِ عَلى أنّا إذا نَظَرْنا إلَيْهِ مِن حَيْثُ كَوْنِهِ جائِزَ البُرُوزِ كانَ البارِزُ فَلَهُ حُكْمُهُ - فَسُبْحانَ مِن شَمِلَ عِلْمُهُ، ودَقَّتْ حِكْمَتُهُ فَنَفَذَ حُكْمُهُ.
{"ayah":"فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











