الباحث القرآني

(p-٣١٢)سُورَةُ النَّصْرِ وتُسَمّى التَّوْدِيعَ. مَقْصُودُها الإعْلامُ بِتَمامِ الدِّينِ اللّازِمِ عَنْ مَدْلُولِ اسْمِها النَّصْرُ، اللّازِمُ عَنْهُ مَوْتُ النَّبِيِّ ﷺ، اللّازِمُ عَنْهُ العِلْمُ بِأنَّهُ ما بَرَزَ إلى عالَمِ الكَوْنِ والفَسادِ إلّا لِإعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعالى وإدْحاضِ كَلِمَةِ الشَّيْطانِ - لَعْنَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - اللّازِمُ عَنْهُ أنَّهُ (ﷺ خُلاصَةُ الوُجُودِ، وأعْظَمُ عَبْدٍ لِلْوَلِيِّ الوَدُودِ، وعَلى ذَلِكَ أيْضًا دَلَّ اسْمُها التَّوْدِيعُ وحالَ نُزُولِها وهو أيّامُ التَّشْرِيقِ [مِن -] سَنَةِ حِجَّةِ الوَداعَةِ ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ، فَهو العَلِيمُ الحَكِيمُ ”الرَّحْمَن“ الَّذِي أرْسَلَكَ رَحْمَةً لِلْعالِمِينَ، فَعَمَّهم بَعْدَ نِعْمَةِ الإيجادِ بِأنْ بَيَّنَ لَهم إقامَةً لِمَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ بِكَ طَرِيقَ النَّجاةِ غايَةَ البَيانِ، بِما أنْزَلَ عَلَيْكَ مِن مُعْجِزِ القُرْآنِ الَّذِي مِن سَمِعَهُ فَكَأنَّما سَمِعَهُ مِنَ العَلِيِّ العَظِيمِ ”الرَّحِيم“ الَّذِي خَصَّ مَن أرادَهُ بِالإقْبالِ بِهِ إلى حِزْبِهِ وجَعَلَهُ مِن أهْلِ قُرْبِهِ بِلُزُومِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ. * * * (p-٣١٣)لِما دَلَّتِ الَّتِي قَبْلَها عَلى أنَّ الكُفّارَ قَدْ صارُوا إلى حالٍ لا عِبْرَةَ بِهِمْ فِيهِ ولا التِفاتَ ولا خَوْفَ بِوَجْهٍ مِنهم ما دامَ الحالُ عَلى المُتارَكَةِ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَهَلْ يَحْصُلُ نَصْرٌ عَلَيْهِمْ وظَفْرٌ بِهِمْ بِالمُعارَكَةِ، فَأجابَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بِشارَةً [لِلْمُؤْمِنِينَ -] ونِذارَةً لِلْكافِرِينَ، ولَكِنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ هَذا بِالفِعْلِ إلّا عامَ حَجَّةِ الوَداعِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَتَيْنِ كانَ كَأنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ [الفَتْحُ -] إلّا حِينَئِذٍ، فَلَمْ يُنْزِلْ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذِهِ السُّورَةَ إلّا في ذَلِكَ الوَقْتِ وقَبْلَ مُنْصَرَفِهِ مِن غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَقالَ تَعالى تَحْقِيقًا لِأنَّهُ يَنْصُرُ المَظْلُومَ ويُعْلِي دِينَهُ ويُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ، فَإنَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، حَثًّا عَلى التَّفْوِيضِ لَهُ والِاكْتِفاءِ بِهِ، مُقَدَّمًا مَعْمُولُ ”سَبِّحْ“ تَعْجِيلًا لِلْبِشارَةِ: ﴿إذا﴾ . ولَمّا كانَتِ المُقَدَّراتُ مُتَوَجِّهَةً مِنَ الأزَلِ إلى أوْقاتِها المُعَيَّنَةِ لَها، يَسُوقُها إلَيْها سائِقُ القُدْرَةِ، فَتَقْرُبُ مِنها شَيْئًا فَشَيْئًا، كانَتْ كَأنَّها آتِيَةٌ إلَيْها، فَلِذَلِكَ حَصَلَ التَّجَوُّز بِالمَجِيءِ عَنِ الحُصُولِ فَقالَ: ﴿جاءَ﴾ أيِ اسْتَقَرَّ وثَبَتَ في المُسْتَقْبَلِ بِمَجِيءِ وقْتِهِ المَضْرُوبِ لَهُ في الأزَلِ، وزادَ في تَعْظِيمِهِ بِالإضافَةِ ثُمَّ بِكَوْنِها اسْمَ الذّاتِ فَقالَ: ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا مِثْلَ لَهُ ولا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ عَلى جَمِيعِ النّاسِ في [كُلِّ -] أمْرٍ يُرِيدُهُ. ولَمّا كانَ لِلنَّصْرِ دَرَجاتٌ، وكانَ قَدْ أشارَ سُبْحانَهُ بِمُطْلَقِ الإضافَةِ (p-٣١٤)إلَيْهِ ثُمَّ بِكَوْنِها إلى الِاسْمِ الأعْظَمِ إلى أنَّ المُرادَ أعْلاها، صَرَّحَ بِهِ فَقالَ: ﴿والفَتْحُ﴾ أيِ المُطْلَقُ الصّالِحُ لِكُلِّ فَتْحٍ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ سُورَتُهُ بِالحُدَيْبِيَةِ مُبَشِّرَةً لَهُ بِغَلَبَةِ حِزْبِهِ الَّذِينَ أنْتِ قائِدُهم وهادِيهِمْ ومُرْشِدُهُمْ، لا سِيَّما عَلى مَكَّةَ الَّتِي بِها بَيْتُهُ ومِنها ظَهَرَ دِينُهُ، وبِها كانَ أصْلُهُ، وفِيها اسْتَقَرَّ عَمُودُهُ، وعَزَّ جُنُودُهُ، فَذَلَّ بِذَلِكَ جَمِيعُ العَرَبِ، وقالُوا: لا طاقَةَ لَنا بِمَن أظْفَرَهُ اللَّهُ بِأهْلِ الحَرَمِ، فَعَزُّوا بِهَذا الذُّلِّ حَتّى كانَ بِبَعْضِهِمْ تَمامُ هَذا الفَتْحِ، ويَكُونُ بِهِمْ كُلُّهم فَتْحُ جَمِيعِ البِلادِ، ولِلْإشارَةِ إلى الغَلَبَةِ عَلى جَمِيعِ الأُمَمِ ساقَهُ تَعالى في أُسْلُوبِ الشَّرْطِ، ولِتَحَقُّقِها عَبَّرَ عَنْهُ بـ ”إذا“ إعْلامًا بِأنَّهُ لا يُخْلِفُ الوَعْدَ ولا يَنْقُصُ ما قَدَّرَهُ وإنْ تَوَهَّمَتِ العُقُولُ أنَّهُ فاتَ وقْتُهُ، وإيذانًا بِأنَّ القُلُوبَ بِيَدِهِ يُقَلِّبُها كَيْفَ يَشاءُ لِيَحْصُلَ لِمَن عَلِمَ ذَلِكَ الإخْلاصَ والخَوْفَ والرَّجاءَ، فَأشْعَرَتِ العِبارَةُ بِأنَّ الوَقْتَ قَدْ قَرُبَ، فَكانَ المَعْنى: فَكُنْ مُتَرَقِّبًا لِوُرُودِهِ ومُسْتَعِدًّا لِشُكْرِهِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لِما كَمُلَ دِينُهُ واتَّضَحَتْ شَرِيعَتُهُ واسْتَقَرَّ أمْرُهُ ﷺ وأدّى أمانَةَ رِسالَتِهِ حَقَّ أدائِها عَرَفَ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَفادَ عُمْرِهِ وانْقِضاءَ أجَلِهِ، وجُعِلَتْ لَهُ عَلى ذَلِكَ (p-٣١٥)عَلامَةُ دُخُولِ النّاسِ في دِينِ اللَّهِ جَماعاتٍ بَعْدَ التَّوَقُّفِ والتَّثَبُّطِ ﴿حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: ٥] ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ [الأنعام: ٣٥] وأمَرَ بِالإكْثارِ مِنَ الِاسْتِغْفارِ المَشْرُوعِ في أعْقابِ المَجالِسِ وفي أطْرافِ النَّهارِ وخَواتِمِ المَآخِذِ مِمّا عَسى أنْ يَتَخَلَّلَ مِن لَغْوٍ أوْ فُتُورٍ، فَشَرَعَ سُبْحانَهُ وتَعالى الِاسْتِغْفارَ لِيُحْرِزَ لِعِبادِهِ مِن حِفْظِ أحْوالِهِمْ ورَعْيِ أوْقاتِهِمْ ما يَفِي بِعَلِيِّ أُجُورِهِمْ كَما وعَدَهم ﴿وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ [الأنعام: ١١٥] وقَدْ بَسَطَتْ ما أشارَتْ إلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ العَظِيمَةُ - وكُلُّ كَلامِ رَبِّنا عَظِيمٌ - فِيما قَيَّدَتْهُ في غَيْرِ هَذا، وأنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرَفَ مِنها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ الكَرِيمَةُ عَلى رَبِّهِ وعُرِفَ بِدُنُوِّ أجَلِهِ، وقَدْ أشارَ إلى هَذا الغَرَضِ أيْضًا بِأبْعَدَ مِنَ الواقِعِ في هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وسُورَةُ بَراءَةَ وأفْعالُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حَجَّةِ الوَداعِ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْنا اسْتِشْعارُ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم تَعْيِينُ الأمْرِ إلّا مِن هَذِهِ السُّورَةِ. وقَدْ عُرِفَتْ بِإشارَةِ بَراءَةَ وآيَةِ المائِدَةِ تَعْرِيفًا شافِيًا، واسْتَشْعَرَ النّاسُ عامَ حِجَّةِ الوَداعِ وعِنْدَ نُزُولِ بَراءَةَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنُوهُ وغَلَبُوا رَجاءَهم في حَياتِهِ ﷺ، ومِنهم مَن تُوُفِّيَ، فَلَمّا نَزَلَتْ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ اسْتَيْقَنَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ذَلِكَ -] (p-٣١٦)اسْتِيقانًا حَمَلَهُ عَلى البُكاءِ لَمّا قَرَأها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب