الباحث القرآني

ولَمّا اتَّهَمُوهُ بِالقَطِيعَةِ والسَّفَهِ شَرَعَ في إبْطالِ ما قالُوا ونَفْيِ التُّهْمَةِ فِيهِنَّ وأُخْرِجَ مَخْرَجَ الجَوابِ لِمَن كَأنَّهُ قالَ: ما أجابَهم بِهِ؟ فَقِيلَ: (p-٣٥٨)﴿قالَ يا قَوْمِ﴾ مُسْتَعْطِفًا لَهم بِما بَيْنَهم مِن عَواطِفِ القَرابَةِ مُنَبِّهًا لَهم عَلى حُسْنِ النَّظَرِ فِيما ساقَهُ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ لِيَكُونَ أدْعى إلى الوِفاقِ والإنْصافِ ﴿أرَأيْتُمْ﴾ أيْ: أخْبِرُونِي ﴿إنْ كُنْتُ﴾ أيْ: كَوْنًا هو في غايَةِ الثَّباتِ ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾ أيْ: بُرْهانٍ ﴿مِن رَبِّي﴾ الَّذِي أحْسَنَ إلَيَّ بِما هو إحْسانٌ إلَيْكُمْ، وعَطَفَ عَلى جُمْلَةِ الشَّرْطِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ قَوْلَهُ: ”و“ قَدْ ”رَزَقَنِي“ وعَظَّمَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ جَلِيلًا ومالًا جَمًّا حَلالًا لَمْ أظْلِمْ فِيهِ أحَدًا، والجَوابُ مَحْذُوفٌ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ فِيهِ: هَلْ يَسَعُ عاقِلًا أنْ يَنْسِبَنِي إلى السَّفَهِ بِتَبْذِيرِ المالِ بِتَرْكِ الظُّلْمِ، أوْ يَسَعُنِي أنْ أحْلُمَ عَمَّنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وأتْرُكَ دُعاءَكم إلى اللَّهِ، فَقَدْ بانَ بِهَذا أنِّي ما أمَرْتُكم بِما يَسُوءُكم مِن تَرْكِ ما ألِفْتُمْ وتَعَرَّضْتُ لِغَضَبِكم كُلِّكُمْ، وتَرَكْتُ مِثْلَ أفْعالِكم إلّا خَوْفًا مِن غَضَبِهِ ورَجاءً لِرِضاهُ، فَظَهَرَ أنْ لا تُهْمَةَ في شَيْءٍ مِن أمْرِي ولا خَطَأ، ما فَعَلْتُ قَطُّ ما نَهَيْتُكم عَنْهُ فِيما مَضى ﴿وما أُرِيدُ﴾ أيْ: في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ﴿أنْ أُخالِفَكُمْ﴾ أيْ: [بِأنْ] أذْهَبَ وحْدِي ﴿إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ في المُسْتَقْبَلِ، وما نَقَصَ مالٌ بِتَرْكِ مِثْلِ أفْعالِكُمْ، فَهو إرْشادٌ إلى النَّظَرِ في بابِ: ؎لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ ؎فابْدَأْ بِنَفْسِكَ فانْهَها عَنْ غَيِّها ∗∗∗ فَإذا انْتَهَيْتَ عَنْهُ فَأنْتَ حَكِيمُ (p-٣٥٩)[وقَدْ نَبَّهَتْ هَذِهِ الأجْوِبَةُ الثَّلاثَةُ عَلى أنَّ العاقِلَ يَجِبُ أنْ يُراعِيَ في كُلِّ ما يَأْتِي ويَذْرُ أحَدَ حُقُوقٍ ثَلاثَةٍ؛ أهَمُّها وأعْلاها حَقُّ اللَّهِ، وثانِيها حَقُّ النَّفْسِ، وثالِثُها حَقُّ العِبادِ عَلى وجْهِ الإخْلاصِ في الكُلِّ] فَثَبَتَ بِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ مَعَ سَدادِ الأفْعالِ وحُسْنِ المَقاصِدِ - حِلْمُهُ ﷺ ورُشْدُهُ، فَلِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِما تَضَمَّنَ مَعْناهُ مُصَرَّحًا بِهِ فَقالَ: ﴿إنْ﴾ أيْ: ما ﴿أُرِيدُ﴾ أيْ: شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ ﴿إلا الإصْلاحَ﴾ وأقَرَّ بِالعَجْزِ فَقالَ: ﴿ما اسْتَطَعْتُ﴾ أيْ: مُدَّةَ اسْتِطاعَتِي لِلصَّلاحِ وهو كَما أرَدْتُ فَإنَّ مالِي - مَعَ اجْتِنابِي ما أنْتُمْ عَلَيْهِ - صالِحٌ، لَيْسَ بِدُونِ مالِ أحَدٍ مِنكُمْ، فَعُلِمَ، مُشاهَدَةً أنْ لا تَبْذِيرَ في العَدْلِ، وأمّا التَّوْحِيدُ فَهو - مَعَ انْتِفاءِ التُّهْمَةِ عَنِّي فِيهِ - دُعاءٌ إلى القادِرِ عَلى كُلِّ شَيْءِ الَّذِي لا خَيْرَ إلّا مِنهُ ولا مَحِيصَ عَنِ الرُّجُوعِ إلّا إلَيْهِ؛ ثُمَّ تَبَرَّأ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ، وأسْنَدَ الأمْرَ إلى مَن هو لَهُ فَقالَ: ﴿وما تَوْفِيقِي﴾ أيْ: فِيما اسْتَطَعْتُ مِن فِعْلِ الإصْلاحِ ﴿إلا بِاللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ؛ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ الأهْلُ لِأنَّ يُرْجى فَقالَ مُشِيرًا إلى مَحْضِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هو أقْصى مَراتِبِ العِلْمِ بِالمَبْدَأِ ﴿عَلَيْهِ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ ولَمّا طَلَبَ التَّوْفِيقَ لِإصابَةِ الحَقِّ فِيما يَأْتِي ويَذْرُ مِنَ اللَّهِ والِاسْتِعانَةَ بِهِ في مَجامِعِ أمْرِهِ وأقْبَلَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ وحَسَمَ أطْماعَ الكُفّارِ عَنْهُ وأظْهَرَ الفَراغَ عَنْهم وعَدَمَ المُبالاةِ بِهِمْ، وكانَ في قَوْلِهِ: ﴿ما اسْتَطَعْتُ﴾ (p-٣٦٠)إقْرارٌ بِأنَّهُ مَحَلُّ التَّقْصِيرِ، أخْبَرَ بِأنَّهُ لا يَزالُ يُجَدِّدُ التَّوْبَةَ لِعِظَمِ الأمْرِ، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبارَةٍ صالِحَةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِن يَوْمِ البَعْثِ تَهْدِيدًا لَهم فَقالَ مُنَبِّهًا عَلى مَعْرِفَةِ المَعادِ لِيَكْمُلَ الإيمانُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ: ﴿وإلَيْهِ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿أُنِيبُ﴾ أيْ: أرْجِعُ مَعْنًى سَبْقِي لِلتَّوْبَةِ وحِسًّا تَيَقُّنِي بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ؛ والتَّوْفِيقُ: خَلْقُ قُدْرَةِ ما هو وفْقَ الأمْرِ مِنَ الطّاعَةِ، مِنَ المُوافَقَةِ لِلْمُطابَقَةِ؛ والتَّوَكُّلُ عَلى اللَّهِ: تَفْوِيضُ الأمْرِ إلَيْهِ عَلى الرِّضاءِ بِتَدْبِيرِهِ مَعَ التَّمَسُّكِ بِطاعَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب