الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى تَسْكِينُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ والتَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِيما يَفْعَلُ، أخْبَرَ تَعالى عَنْ حالِ قَوْمِهِ فَقالَ: ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ بِالفاءِ لِما مَضى في قِصَّةِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ التَّسْبِيبِ والتَّعْقِيبِ، أيْ: فَلَمّا خَرَجَ مِنها لُوطٌ بِأهْلِهِ جاءَنا أمْرُنا، ولَمّا جاءَ أمْرُنا الَّذِي هو عَذابُنا والأمْرُ بِهِ ﴿جَعَلْنا﴾ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿عالِيَها﴾ أيْ: عالِيَ مُدُنِهِمْ وهم فِيها (p-٣٤٦)﴿سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْها﴾ أيْ: عَلى مُدُنِهِمْ بَعْدَ قَلْبِها مِن أجْلِهِمْ وسَيَأْتِي في سُورَةِ الحِجْرِ سِرُّ الإتْيانِ هُنا بِضَمِيرِ ”ها“ دُونَ ضَمِيرِ ”هُمْ“ ﴿حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ أيْ: مُرْسَلَةً مِن مَكانٍ هو في غايَةِ العُلُوِّ ﴿مَنضُودٍ﴾ بِالحِجارَةِ هي فِيهِ مُتَراكِبَةٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ حالَ كَوْنِها ﴿مُسَوَّمَةً﴾ أيْ: مُعَلَّمَةً بِعَلاماتٍ تَدُلُّ عَلى أنَّها مُعَدَّةٌ لِلْعَذابِ مِنَ السِّيما [والسُّومَةُ] وهي العَلامَةُ تُجْعَلُ لِلْإبِلِ السّائِمَةِ لِتَتَمَيَّزَ إذا اخْتَلَطَتْ في المَرْعى، وفي الذّارِياتِ: ﴿حِجارَةً مِن طِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٣] وذَلِكَ أنَّ الحِجارَةَ أصْلُها تُرابٌ يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ بِواسِطَةِ الماءِ قابِلِيَّةً لِلِاسْتِحْجارِ كَما جَعَلَ فِيهِ قابِلِيَّةَ التَّحَوُّلِ إلى المَعْدِنِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والحَدِيدِ وغَيْرِها، فَبِاعْتِبارِ أصْلِهِ هو طِينٌ، وبِاعْتِبارِ أوَّلِهِ حَجَرٌ وكِبْرِيتٌ ونارٌ، ولَعَلَّ حَجَرَ الكِبْرِيتِ أثْقَلُ الحِجارَةِ مَعَ ما فِيهِ مِن قُوَّةِ النّارِ وقُبْحِ الرِّيحِ؛ ثُمَّ فَخَّمَها بِقَوْلِهِ: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وعَبَّرَ بِالرَّبِّ إشارَةً إلى كَثْرَةِ إحْسانِهِ وإلَيْهِ وأنَّهُ إنَّما أمَرَهُ ﷺ بِالإنْذارِ رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ الَّتِي جَعَلَها خَيْرَ الأُمَمِ وسَيَجْعَلُها أكْثَرَ الأُمَمِ، ولا يُهْلِكُها كَما أهْلَكَهُمْ؛ ومادَّةُ سَجَلَ - بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ - تَدُورُ عَلى العُلُوِّ، مِنَ الجَلْسِ لِما ارْتَفَعَ عَنِ الغَوْرِ وهو النَّجْدُ، ويَلْزَمُ مِنهُ الغِلَظُ والعُلُوُّ، ومِنَ الغِلَظِ الجَلْسُ لِلْغَلِيظِ مِنَ الأرْضِ والجَمَلِ الوَثِيقِ، ويَلْزَمُ العُلُوَّ التَّصْوِيبُ ومِن جَلَسَ - إذا قَعَدَ؛ والسَّجْلُّ لِلدَّلْوِ العَظِيمَةِ، ويَكُونُ غالِبًا في مُقابَلَتِها أُخْرى، كُلَّما نَزَلَتْ واحِدَةٌ طَلَعَتِ الأُخْرى، فَتَأْتِي المُساجَلَةُ بِمَعْنى المُباراةِ والمُفاخَرَةِ، (p-٣٤٧)والسَّجْلُ: الضَّرْعُ العَظِيمُ، والسِّجِلُّ - بِالكَسْرِ وشَدِّ اللّامِ: الكِتابُ؛ لِأنَّهُ يُذْكَرُ فِيهِ ما يَكُونُ بِهِ المُفاخَرَةُ والمُغالَبَةُ؛ وسَلَجَ الطَّعامَ: بَلَعَهُ، والسُّلَّجانُ: نَباتٌ رَخْوٌ، كَأنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّ أغْصانَهُ [تَأْخُذُ] إلى أسْفَلَ لِرَخاوَتِها، وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: الإمْطارِ، ولَفْظِ ”عَلى“، وسِجِّيلٍ. ولَمّا كانَ المَعْنى أنَّها مِن مَكانٍ هو في غايَةِ العُلُوِّ لِيَعْظُمَ وقْعُها، حَسُنَ كُلَّ الحُسْنِ إتْباعُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿وما هِيَ﴾ عَلى شِدَّةٍ بَعْدَ مَكانِها ﴿مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ: مِن أحَدٍ مِنَ العَرِيقِينَ في الظُّلْمِ في ذَلِكَ الزَّمانِ ولا هَذا ولا زَمَنٍ مِنَ الأزْمانِ ﴿بِبَعِيدٍ﴾ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ الِاحْتِياجُ في وُصُولِها إلى المَرْمى بِها إلى زَمَنٍ طَوِيلٍ. ذِكْرُ هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ التَّوْراةِ: قالَ في السِّفْرِ الأوَّلِ بَعْدَ ما مَضى في قِصَّةِ بُشْرى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَأتى المَلَكانِ إلى سَدُومَ عِشاءً، وكانَ لُوطٌ جالِسًا عَلى بابِ سَدُومَ، فَنَظَرَ إلَيْهِما لُوطٌ فَتَلَقّاهُما، ثُمَّ خَرَّ عَلى وجْهِهِ ساجِدًا عَلى الأرْضِ وقالَ: إنِّي طالِبٌ إلَيْكُما يا سَيِّدِي، اعْدِلا إلى مَنزِلِ عَبْدِكُما فَبِيتا فِيهِ واغْسِلا أقْدامَكُما وبَكِّرا فانْطَلِقا في طَرِيقِكُما، فَقالا: كَلّا! ولَكِنّا نَبِيتُ في السُّوقِ، فَألَحَّ عَلَيْهِما لُوطٌ إلْحاحًا شَدِيدًا فانْصَرَفا مَعَهُ ودَخَلا مُنْزِلَهُ فَأعَدَّ لَهُما طَعامًا، ومِن قَبْلِ وقْتِ الهُجُوعِ إذا أهْلُ القَرْيَةِ أهْلِ سَدُومَ قَدْ أحاطُوا بِالبابِ مِنَ الشُّبّانِ إلى المَشايِخِ جَمِيعُ الشَّعْبِ بِأسْرِهِ، (p-٣٤٨)فَدَعَوْا بِلُوطٍ وقالُوا لَهُ: أيْنَ الرَّجُلانِ اللَّذانِ أتَياكَ مُمْسِيَيْنِ أخْرِجْهُما إلَيْنا فَنَعْرِفْهُما - وفي نُسْخَةٍ: حَتّى نُواقِعَهُما - فَخَرَجَلُوطٌ إلَيْهِمْ وأغْلَقَ البابَ خَلْفَهُ، فَقالَ لَهم لُوطٌ: لا تُسِيئُوا بِي يا إخْوَةُ! هَذا لِي بِنْتانِ لَمْ يَمَسَّهُما رَجُلٌ، أُخْرِجُهُما إلَيْكم فاصْنَعُوا بِهِما ما حَسُنَ في أعْيُنِكُمْ، ولا تَرْتَكِبُوا مِن هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شَيْئًا لِأنَّهُما ولَجا ظِلالَ بَيْتِي، فَقالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَنّا، إنَّ واحِدًا أتى لِيَسْكُنَ بَيْتَنا فَصارَ يَحْكُمُ فِينا، فالآنَ نُسِيءُ إلَيْكَ أكْثَرَ مِنهُما، فَجاهَدَ لُوطٌ القَوْمَ جِدًّا فَدَنَوْا لِيَكْسِرُوا البابَ فَمَدَّ الرَّجُلانِ أيْدِيَهُما فَأدْخَلا لُوطًا إلَيْهِما إلى مَنزِلِهِ، ثُمَّ إنَّ القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا بِالبابِ ضَرَبُوا بِالعَشِيِّ مِن كَبِيرِهِمْ حَتّى صَغِيرِهِمْ فَأُعْيُوا في طَلَبِ البابِ، فَقالَ المَلَكانِ لِلُوطٍ: ما تَصْنَعُ هاهُنا؟ اعْمَدْ إلى أخْتانِكَ وبَنِيكَ وبَناتِكَ وجَمِيعِ ما لَكَ في هَذِهِ القَرْيَةِ فَأخْرِجْهم مِن هَذِهِ البَلْدَةِ لِأنّا نُرِيدُ الخَسْفَ بِالبَلْدَةِ لِأنَّ فِعالَهم وخُبْثَ صَنِيعِهِمْ قَدْ بَلَغَ الرَّبَّ، فَأرْسَلَنا الرَّبُّ لِنُفْسِدَها، فَخَرَجَ لُوطٌ وكَلَّمَ أخْتانَهُ وأزْواجَ بَناتِهِ وقالَ لَهُمْ: قُومُوا فاخْرُجُوا مِن هَذِهِ القَرْيَةِ؛ فَإنَّ الرَّبَّ مُزْمِعٌ لِخَرابِها، وكانَ عِنْدَ أخْتانِهِ كالمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ، فَلَمّا كانَ عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ ألَحَّ المَلَكانِ عَلى لُوطٍ وقالا لَهُ: قُمْ فَأخْرِجِ امْرَأتَكَ وابْنَتَيْكَ اللَّتَيْنِ مَعَكَ لِكَيْلا تُبْتَلى بِخَطايا أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ، فَأبْطَأ لُوطٌ فَأخَذَ المَلَكانِ بِيَدِهِ وبِيَدِ امْرَأتِهِ وابْنَتَيْهِ لِأنَّ اللَّهَ رَحِمَهُ فَأخْرَجاهُ وصَيَّراهُ خارِجًا عَنِ القَرْيَةِ، فَلَمّا أخْرَجاهم خارِجًا (p-٣٤٩)قالا لَهُ: انْجُ بِنَفْسِكَ ولا تَلْتَفِتَنَّ إلى خَلْفِكَ ولا تَقِفْ في شَيْءٍ مِن جَمِيعِ القاعِ، والتَجِئْ إلى جَبَلٍ وخَلِّصْ نَفْسَكَ، فَقالَ لَهُما لُوطٌ: أطْلُبُ إلَيْكُما يا سَيِّدِي أنْ أظْفَرَ الآنَ لِأنَّ عَبْدَكُما بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ وكَثُرَتْ نِعْماكُما إلَيَّ لِتَحْيى نَفْسِي، لَسْتُ أقْدِرَ أنْ أنْجُوَ إلى الجَبَلِ، لَعَلَّ الشَّرَّ يُرْهِقُنِي فَأمُوتُ، وهَذِهِ القَرْيَةُ هي قَرِيبَةٌ لِلْهَرَبِ إلَيْها وهي صَغِيرَةٌ، أتَأْذَنانِ لِي بِالهَرَبِ إلَيْها لِأنَّها حَقِيرَةٌ، فَلْتُحْيِيا نَفْسِي، فَقالَ لَهُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ في هَذا أيْضًا فَلا أقْلِبُ \ هَذِهِ القَرْيَةَ الَّتِي سَألْتَ، أسْرِعْ فَنَجِّ نَفْسَكَ إلى هُناكَ، لِأنّا لَسْنا نَقْدِرُ أنْ نَعْمَلَ شَيْئًا حَتّى تَدْخُلَها، ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ تِلْكَ القَرْيَةُ صاغارَ - وفي نُسْخَةٍ: زَغَرَ - فَشَرِقَتِ الشَّمْسُ عَلى الأرْضِ وقَدْ دَخَلَ لُوطٌ صاغارَ، وفي نُسْخَةٍ: زَغَرَ - فَأهْبَطَ الرَّبُّ عَلى سَدُومَ وعامُورا نارًا وكِبْرِيتًا مِن بَيْنِ يَدَيِ الرَّبِّ مِنَ السَّماءِ فَقَلَبَ هَذِهِ القُرى والقاعَ بِأسْرِهِ، وأهْلَكَ جَمِيعَ سُكّانِها وجَمِيعَ مَن فِيها وجَمِيعَ نَبْتِ الأرْضِ، فالتَفَتَتِ امْرَأتُهُ إلى خَلْفِها لِتَنْظُرَ فَصارَتْ نَصْبَةَ مِلْحٍ، فَأدْلَجَ إبْراهِيمُ باكِرًا إلى المَوْضِعِ الَّذِي كانَ يَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ؛ فَمَدَّ بَصَرَهُ نَحْوَ سَدُومَ وعامُورا وإلى جَمِيعِ أرْضِ القاعِ فَنَظَرَ فَإذا دُخانُ القَرْيَةِ يَرْتَفِعُ كَدُخانِ الأُخْدُودِ، فَلَمّا خَسَفَ اللَّهُ قُرى القاعِ ذَكَرَ اللَّهُ إبْراهِيمَ فَأرْسَلَ لُوطًا مِنَ المَأْفُوكَةِ إذْ قَلَبَ اللَّهُ القُرى الَّتِي كانَ يَنْزِلُها لُوطٌ فَطَلَعَ [لُوطٌ] مِن (p-٣٥٠)صاغارَ - وفي نُسْخَةٍ: زَغَرَ - فَسَكَنَ الجَبَلَ هو وابْنَتاهُ مَعَهُ لِأنَّهُ تَخَوَّفَ أنْ يَسْكُنَ صاغارَ، فَجَلَسَ في مَغارَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب