الباحث القرآني

﴿وجاءَهُ قَوْمُهُ﴾ أيِ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةُ المُحاوَلَةِ ﴿يُهْرَعُونَ﴾ أيْ: كَأنَّهم يَحْمِلُهم عَلى ذَلِكَ حامِلٌ لا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ ﴿إلَيْهِ﴾ أيْ: في غايَةِ الإسْراعِ فِعْلَ الطّامِعِ الخائِفِ فَوْتَ ما يَطْلُبُهُ، (p-٣٤٠)فَهُوَ يَضْطَرِبُ لِذَلِكَ، أوْ لِأجْلِ الرُّعْبِ مِن لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. ولَمّا كانَ وِجْدانُهم - فَكَيْفَ عِصْيانُهم - لَمْ يَسْتَغْرِقْ زَمَنَ القَبْلِ، أدْخَلَ الجارَّ فَقالَ: ﴿ومِن قَبْلُ﴾ أيْ: قَبْلَ هَذا المَجِيءِ ﴿كانُوا﴾ أيْ: جِبِلَّةً وطَبْعًا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ أيْ: مَعَ الِاسْتِمْرارِ ﴿السَّيِّئاتِ﴾ أيِ الفَواحِشَ الَّتِي تَسُوءُ غايَةَ المَساءَةِ فَضُرِبُوا بِها ومُرِّنُوا عَلَيْها حَتّى زالَ عِنْدَهُمُ اسْتِقْباحُها، فَهو يَعْرِفُ ما يُرِيدُونَ، وكَأنَّهم كانُوا لا يَدْعُونَ مَلِيحًا ولا غَيْرَهُ مِنَ الغُرَباءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ أنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كانُوا عَلى هَيْئَةِ المُرْدِ الحِسانِ، ولا قُيِّدَ الذُّكْرانُ في قِصَّتِهِمْ في مَوْضِعٍ مِنَ المَواضِعِ بِالمُرُودِيَّةِ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَ لَهُمْ؟ فَقِيلَ: ﴿قالَ يا قَوْمِ﴾ مُسْتَعْطِفًا لَهم ﴿هَؤُلاءِ بَناتِي﴾ حادِيًا لَهم إلى الحَياءِ والكَرَمِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما نَفْعَلُ بِهِنَّ؟ قالَ: ﴿هُنَّ﴾ ولَمّا كانَ في مَقامِ المُدافَعَةِ بِاللِّينِ، قالَ إرْخاءً لِلْعِنانِ في تَسْلِيمِ طَهارَةِ ما يَفْعَلُونَهُ عَلى زَعْمِهِمْ مُشِيرًا بِلَطافَةٍ إلى خُبْثِ ما يُرِيدُونَهُ: ﴿أطْهَرُ لَكُمْ﴾ ولَيْسَ المُرادُ مِن هَذا حَقِيقَتَهُ، بَلْ تَنْبِيهُ القَوْمِ عَلى أنَّهم لا يَصِلُونَ إلَيْهِمْ إلّا إنْ وصَلُوا إلى بَناتِهِ لِأنَّ الخِزْيَ فِيهِما عَلى حَدٍّ سَواءٍ أوْ في الضَّيْفِ أعْظَمُ، ومِثْلُ (p-٣٤١)هَذا أنْ يَشْفَعَ الإنْسانُ فِيمَن يُضْرَبُ، فَإذا عَظُمَ الأمْرُ ألْقى نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَصُورَتُهُ أنَّهُ فَعَلَهُ لِيَقِيَهُ الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ، ومَعْناهُ احْتِرامُهُ بِاحْتِرامِهِ، وعَلى هَذا يَدُلُّ قَوْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ [الحجر: ٧١] وهُنا قَوْلُهُ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْظَمَ في هَذا الأمْرِ الَّذِي تُرِيدُونَهُ ﴿ولا تُخْزُونِ﴾ أيْ: تُوقِعُوا بِي الفَضِيحَةَ الَّتِي فِيها الذُّلُّ والهَوانُ والعارُ ﴿فِي ضَيْفِي﴾ إذْ لا يَشُكُّ ذُو مُسْكَةٍ مِن أمْرِهِ في أنَّ التَّقْوى إذا حَصَلَتْ مَنَعَتْ مِنَ الأمْرَيْنِ، وأنَّ الخِزْيَ عَلى تَقْدِيرِ عَدَمِها في البَناتِ أعْظَمُ؛ لِأنَّهُ عارٌ لازِمٌ لِلُزُومِ البَناتِ لِلْأبِ، وكُلُّ هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَشُكُّ أنَّهم آدَمِيُّونَ ولَمْ يَلُمَّ بِخاطِرِهِ أنَّهم مَلائِكَةٌ، فَهو تَنْبِيهٌ لِلْكُفّارِ عَلى أنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِإنْزالِ المَلائِكَةِ إلّا البارُّ الرّاشِدُ التّابِعُ لِلْحَقِّ؛ ثُمَّ أنْكَرَ أشَدَّ الإنْكارِ حالَهم في أنَّهم لا يَكُونُ مِنهم رَشِيدٌ حَثًّا عَلى الإقْلاعِ عَنِ الغَيِّ ولُزُومِ سَبِيلِ الرُّشْدِ فَقالَ: ﴿ألَيْسَ مِنكم رَجُلٌ﴾ أيْ: كامِلُ الرُّجُولِيَّةِ ﴿رَشِيدٌ﴾ كامِلُ الرُّشْدِ لِيَكُفَّكم عَنْ هَذا القَبِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنهم ذَلِكَ، بَلْ ﴿قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ أيْ: يا لُوطُ مُجْرِينَ الكَلامَ عَلى حَقِيقَتِهِ غَيْرَ مُعَرِّجِينَ عَلى ما كَنّى بِهِ عَنْهُ ﴿ما لَنا في بَناتِكَ﴾ وأغْرَقُوا في النَّفْيِ فَقالُوا: ﴿مِن حَقٍّ﴾ أيْ: حاجَةٍ ثابِتَةٍ، [ولَمْ يُرِيدُوا بِهِ ضِدَّ الباطِلِ؛ لِأنَّ البَناتِ والضَّيْفَ في نَفْيِ حَقِّهِمْ عَنْهم سَواءٌ]، وأكَّدُوا مُعْلِمِينَ بِما لَهم (p-٣٤٢)مِنَ الرَّغْبَةِ في الفُجُورِ وقاحَةً وجُرْأةً فَقالُوا: ﴿وإنَّكَ لَتَعْلَمُ﴾ أيْ: عِلْمًا لا تَشُكُّ فِيهِ ﴿ما نُرِيدُ﴾ وهو إتْيانُ الذُّكُورِ لِلتَّطَرُّقِ والتَّطَرُّفِ، فَحَمَلُوا عَرْضَهُ لِبَناتِهِ عَلى الحَقِيقَةِ خُبْثًا مِنهم وشَرَعُوا يَبْنُونَ عَلى ذَلِكَ بِوَقاحَةٍ وعَدَمِ مُبالاةٍ بِالعَظائِمِ، فَأخْبَرَ تَعالى عَنْ قَوْلِهِ لَهم عَلى طَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ﴾ [أيْ] مُتَمَنِّيًا أنْ يَكُونَ لَهُ بِهِمْ طاقَةٌ لِيَرَوْا ما يَصْنَعُ مِنَ الإيقاعِ بِهِمْ مُتَفَجِّعًا عَلى فَواتِ ذَلِكَ ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكُمْ﴾ أيْ: في دَفْعِكم ﴿قُوَّةً﴾ بِنَفْسِي ﴿أوْ﴾ لَوْ أنِّي ﴿آوِي﴾ مِنَ الأعْوانِ والأنْصارِ ﴿إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ أيْ: جَماعَةٍ هم كالرُّكْنِ المَوْصُوفِ بِالشِّدَّةِ لَحُلْتُ بَيْنَكم وبَيْنَ ما جِئْتُمْ لَهُ، وحَذْفُهُ أبْلَغُ لِذَهابِ النَّفْسِ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ؛ والسُّوءُ: ما يَظْهَرُ مَكُرُوهُهُ لِصاحِبِهِ؛ والعَصِيبُ: الشَّدِيدُ في الشَّرِّ خاصَّةً كَأنَّهُ التَفَّ شَرُّهُ؛ والقُوَّةُ خاصَّةً يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ بِها الفِعْلُ وأنْ لا يَقَعَ؛ والرَّكْنُ: مُعْتَمَدُ البِناءِ بَعْدَ الأساسِ، والرُّكْنُ هُنا مَن هو مِثْلُهُ؛ والشَّدَّةُ: مَجْمَعٌ يَصْعُبُ مَعَهُ الإمْكانُ، ووَصْفُهُ الرُّكْنَ بِالشِّدَّةِ وهو يَتَضَمَّنُها تَأْكِيدٌ يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْمَهُ كانُوا في غايَةِ القُوَّةِ والجَلادَةِ، وأنَّهُ كانَ يَوَدُّ مُعاجَلَتَهم لَوْ قَدَرَ. وذَلِكَ أنَّ مادَّةَ (رَكَنَ بِكُلِّ تَرْتِيبٍ تَدُورُ عَلى الرَّزانَةِ، مِن رَكُنَ - بِالضَّمِّ بِمَعْنى رَزُنَ، ويَلْزَمُهُما القُوَّةُ، ومِنهُ الرُّكْنُ لِلْجانِبِ الأقْوى والأمْرِ العَظِيمِ وما يُتَقَوّى بِهِ مِن مُلْكٍ وجُنْدٍ وغَيْرِهِ والعِزِّ (p-٣٤٣)والمَنَعَةِ، ومِن ذَلِكَ النُّكْرُ بِالضَّمِّ لِلدَّهاءِ والفِطْنَةِ، والنُّكْرُ لِلْمُنْكَرِ والأمْرِ الشَّدِيدِ وما يَخْرُجُ مِنَ الزَّحِيرِ مِن دَمٍ أوْ قَيْحٍ، ونَكِرَ الأمْرُ: صَعُبَ. وطَرِيقٌ يَنْكُورٌ: عَلى غَيْرِ قَصْدٍ، والمُنْكَرُ ضِدَّ المَعْرُوفِ لِأنَّ الشَّيْءَ إذا جُهِلَ صَعُبَ أمْرُهُ، وتَناكَرَ القَوْمُ: تَعادَوْا، والتَّنَكُّرُ: التَّغَيُّرُ مِن حالٍ يَسُرُّ إلى حالٍ يُكْرَهُ، والمُكَنِّرُ - كَمُحَدِّثٍ: الضَّخْمُ السَّمِجُ، ويَلْزَمُ الرَّزانَةَ أيْضًا المَيْلُ والسُّكُونُ، ومِنهُ رَكَنَ إلَيْهِ - بِالفَتْحِ: مالَ وسَكَنَ، ورَكِنَ بِالمَنزِلِ - بِالكَسْرِ: أقامَ؛ والكِنّارَةُ - بِالكَسْرِ والتَّشْدِيدِ: الشَّقَّةُ مِن ثِيابِ الكَتّانِ، لِأنَّهُ يُمالُ إلَيْهِ لِبَهْجَتِهِ، وكَذا الكَنّاراتُ لِلْعِيدانِ والطُّبُولِ، والكِرانُ كَكِتابٍ لِلْعُودِ أوِ الصَّنْجِ، أوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ لِقُوَّةِ أصْواتِها - واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب