الباحث القرآني
ولَمّا كانَ أكْثَرُ المُجادَلَةِ لِما عِنْدَهُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلى عِبادِ اللَّهِ لِما لَهُ (p-٣٣٤)مِن هَذِهِ الصِّفاتِ الجَلِيلَةِ، أعْلَمَهُ اللَّهُ أنَّ الأمْرَ قَدْ خُتِمَ بِقَوْلِهِ حِكايَةً أنَّ الرُّسُلَ قالَتْ لَهُ بَعْدَ طُولِ المُجادَلَةِ مُنادِينَ بِالأداةِ الَّتِي هي أُمُّ البابِ إعْلامًا بِأنَّ ما بَعْدَها عَظِيمُ الشَّأْنِ عالِي المَنزِلَةِ: ﴿يا إبْراهِيمُ أعْرِضْ﴾ أيْ: بِكُلِّيَّتِكَ ﴿عَنْ هَذا﴾ أيِ السُّؤالِ في نَجاتِهِمْ؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُؤَكَّدًا لِأنَّهُ بِمُجادَلَتِهِ في حَيِّزِ مَن يُنْكِرُ بَتَّ الأمْرِ: ﴿إنَّهُ قَدْ﴾ افْتَتَحَهُ بِحَرْفِ التَّوَقُّعِ لِأنَّهُ مَوْضِعُهُ ﴿جاءَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ أيِ الَّذِي عَوَّدَكَ بِإحْسانِهِ الجَمِّ، فَلَوْلا أنَّهُ حَتَمَ الأمْرَ بِعَذابِهِمْ لَأمْهَلَهم لِأجْلِكَ، ولِذا عَطَفَ عَلى العِلَّةِ قَوْلَهُ مُؤَكَّدًا إعْلامًا بِأنَّهُ أمْرٌ قَدِ انْبَرَمَ ومَضى: ﴿وإنَّهم آتِيهِمْ﴾ أيْ: إتْيانًا ثابِتًا ﴿عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ مِن أحَدٍ كائِنًا مَن كانَ؛ الإعْراضُ: الِانْصِرافُ، وحَقِيقَتُهُ الذَّهابُ عَنِ الشَّيْءِ في جِهَةِ العَرْضِ؛ والرَّدُّ: إذْهابُ الشَّيْءِ إلى ما جاءَ مِنهُ كالرَّجْعِ؛ والدَّفْعُ أعَمُّ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلى جِهَةِ القُدّامِ؛ فَلَّما عَلِمَ مُرادَ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ، قَدَّمَهُ عَلى مُرادِهِ ولَمْ يَنْطِقْ بَعْدَهُ بِبِنْتِ شَفَةٍ.
ذِكْرُ هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ التَّوْراةِ: قالَ في السِّفْرِ الأوَّلِ: واسْتَعْلَنَ اللَّهُ لِإبْراهِيمَ في مَرْجٍ - وفي نُسْخَةٍ: بَيْنَ بَلُّوطِ مُمْرى الأُمُورانِيِّ - وكانَ جالِسًا عَلى بابِ خَيْمَتِهِ إذِ اشْتَدَّ النَّهارُ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ فَإذا هو بِثَلاثَةِ رِجالٍ وُقُوفٍ عَلى رَأْسِهِ، فَلَمّا رَآهم أحْضَرَ إلَيْهِمْ مِن بابِ الخَيْمَةِ (p-٣٣٥)وسَجَدَ عَلى الأرْضِ وقالَ: يا رَبِّ - وفي نُسْخَةٍ: يا ولِيَّ اللَّهِ - إنْ كانَ لِي عِنْدَكَ مَوَدَّةٌ فَلا تَبْعُدْ عَنْ عَبْدِكَ حَتّى آتِيَ بِما أغْسِلُ بِهِ أرْجُلَكُمْ، واتَّكَئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وأصِيبُوا شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ تُقِرُّونَ بِهِ أنْفُسَكُمْ، ثُمَّ حِينَئِذٍ تَجُوزُونَ لِأنَّكم مَرَرْتُمْ بِعَبْدِكم بَغْتَةً فَقالُوا لَهُ: اصْنَعْ كَما قُلْتُ، فاسْتَعْجَلَ إبْراهِيمُ فَأحْضَرَ إلى الخَيْمَةِ إلى سارَّةَ وقالَ: عَجِّلِي بِثَلاثَةِ آصُعٍ مِن دَرْمَكٍ - وفي نُسْخَةٍ: دَقِيقٍ سَمِيدٍ - فاعْجِنِيهِ واخْبِزِي مِنهُ مَلِيلًا، وسَعى إلى قَطِيعِ البَقَرِ فَأخَذَ عِجْلًا سَمِينًا شابًّا فَدَفَعَهُ إلى الغُلامِ وأمَرَ بِتَعْجِيلِ صَنْعَتِهِ وأخَذَ سَمْنًا ولَبَنًا والعِجْلَ الَّذِي \ صُنِعَ لَهُ أيْضًا فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ، وكانَ هو واقِفًا بَيْنَ أيْدِيهِمْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وقالُوا لَهُ: أيْنَ سارَّةُ امْرَأتُكَ؟ فَقالَ: في الخَيْمَةِ، فَقالَ لَهُ: إنِّي أرْجِعُ إلَيْكَ في مِثْلِ هَذا الحِينِ مِن قابِلٍ وهي في الحَياةِ ولَها مِنكَ ابْنٌ، فَسَمِعَتْ سارَّةُ وهي عَلى بابِ الخَيْمَةِ مُسْتَتِرَةً وكانَ هو خَلْفَها، وكانَ إبْراهِيمُ وسارَّةُ قَدْ شاخا وقَدِمَ سِنُّهُما وانْقَطَعَ عَنْ سارَّةَ سَبِيلُ النِّساءِ، فَضَحِكَتْ سارَّةُ في قَلْبِها وقالَتْ: أمِن بَعْدِ ما بَلِيتُ أرْجِعُ شابَّةً وسَيِّدِي قَدْ شاخَ؟ فَقالَ اللَّهُ لِإبْراهِيمَ: لِمَ ضَحِكَتْ سارَّةُ وقالَتْ: أنّى لِي بِالوَلَدِ وقَدْ شِخْتُ؟ أيَعْسَرُ هَذا عَلى اللَّهِ؟ إنِّي أرْجِعُ إلَيْكَ في [مِثْلِ] هَذا الحِينِ مِن قابِلٍ وهي حَيَّةٌ ولَها ابْنٌ، فَجَحَدَتْ سارَّةُ وقالَتْ: كَلّا ما ضَحِكْتُ، لِأنَّها فَزِعَتْ، فَقالَ: كَلّا! ولَكِنَّكِ قَدْ ضَحِكْتِ، ثُمَّ قامَ (p-٣٣٦)الرِّجالُ وتَعَمَّدُوا طَرِيقَ سَدُومَ وعامُورا، وانْطَلَقَ مَعَهم إبْراهِيمُ لِيُشَيِّعَهم. وقالَ اللَّهُ: أأكْتُمُ عَبْدِي إبْراهِيمَ شَيْئًا مِمّا أصْنَعُ؟ وإبْراهِيمُ يَكُونُ رَئِيسًا لِشُعَبٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ، وتَتَبارَكُ بِهِ شُعُوبُ الأرْضِ، لِأنِّي عالِمٌ أنَّهُ يُوصِي بَنِيهِ وأهْلَ بَيْتِهِ مِن بَعْدِهِ أنْ يَحْفَظُوا طُرُقَ الرَّبِّ لِيَعْمَلُوا بِالبَرِّ والعَدْلِ، لِأنَّ الرَّبَّ يُكْمِلُ لِإبْراهِيمَ جَمِيعَ ما وعَدَهُ بِهِ. فَقالَ الرَّبُّ [ لِإبْراهِيمَ ]: لَقَدْ وصَلَ إلَيَّ حَدِيثُ سَدُومَ وعامُورا وقَدْ كَثُرَتْ خَطاياهم جِدًّا، ثُمَّ ولّى القَوْمُ ومَضَوْا إلى سَدُومَ، وكانَ إبْراهِيمُ بَعْدُ واقِفًا قُدّامَ الرَّبِّ، [فَدَنا إبْراهِيمُ ] وقالَ: يا رَبِّ! تُهْلِكُ الأبْرارَ مَعَ الفُجّارِ بِغَضَبٍ واحِدٍ؟ إنْ كانَ في القَرْيَةِ خَمْسُونَ بارًّا أتُهْلِكُهم بِغَضَبٍ واحِدٍ؟ حاشاكَ يا رَبِّ أنْ تَصْنَعَ هَذا الصَّنِيعَ وتُهْلِكَ البَرِيءَ مَعَ السَّقِيمِ، ويَكُونَ البَرِيءُ بِحالِ السَّقِيمِ، حاشا لَكَ يا حاكِمَ الأرْضِ كُلِّها! لا يَكُونُ هَذا مِن صَنِيعِكَ! فَقالَ الرَّبُّ: إنْ وجَدْتُ بِسَدُومَ خَمْسِينَ بارًّا في القَرْيَةِ عَفَوْتُ عَنْ جَمِيعِ البَلَدِ مِن أجْلِهِمْ، فَأجابَ إبْراهِيمُ وقالَ: إنِّي قَدْ بَدَأْتُ بِالكَلامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وإنَّما أنا تُرابٌ ورَمادٌ، فَإنْ نَقَصَ مِنَ الخَمْسِينَ بارًّا خَمْسَةٌ تُخَرِّبُ القَرْيَةَ كُلَّها مِن أجْلِ الخَمْسَةِ؟ فَقالَ: لا أُخَرِّبُها إنْ وجَدْتُ بِها خَمْسَةً وأرْبَعِينَ بارًّا، فَعادَ إبْراهِيمُ وقالَ لَهُ: فَإنْ وُجِدَ فِيها أرْبَعُونَ؟ (p-٣٣٧)فَقالَ: لا أُخَرِّبُها إنْ وُجِدَتْ فِيها أرْبَعِينَ، فَقالَ: لا يُمْكِنُ الرَّبُّ كَلامِي فَأتَكَلَّمُ، فَإنْ كانَ هُناكَ ثَلاثُونَ؟ فَقالَ: لا أُخَرِّبُها إنْ وجَدْتُ فِيها ثَلاثِينَ، فَقالَ: إنِّي قَدْ أمْعَنْتُ في الكَلامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، فَإنْ وُجِدَ بِها عِشْرُونَ؟ فَقالَ: لا أُخَرِّبُها مِن أجْلِ العِشْرِينَ، فَقالَ: لا نَشُقَّنَّ عَلى الرَّبِّ، فَأتَكَلَّمُ هَذِهِ المَرَّةَ يا رَبِّ فَقَطْ، فَإنْ وُجِدَ بِها عَشَرَةُ رَهْطٍ؟ فَقالَ: لا أُفْسِدُها مِن أجْلِ العَشَرَةِ؛ فارْتَفَعَ اسْتِعْلانُ الرَّبِّ عَنْ إبْراهِيمَ لَمّا فَرَغَ إبْراهِيمُ مِن كَلامِهِ ورَجَعَ إبْراهِيمُ إلى مَوْضِعِهِ - انْتَهى. وقَدْ مَضى أمْرُ حَبَلِ سارَّةَ ووِلادِها في البَقَرَةِ.
{"ayah":"یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۤۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَاۤءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِیهِمۡ عَذَابٌ غَیۡرُ مَرۡدُودࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











