الباحث القرآني

ولَمّا كانَ خَلْقُ ما مِنهُ الرِّزْقُ أعْظَمَ مِن خَلْقِ الرِّزْقِ وتَوْزِيعِهِ في شُمُولِ العِلْمِ والقُدْرَةِ مَعًا تَلاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أيْ: أوْجَدَ وقَدَّرَ ﴿السَّماواتِ والأرْضَ﴾ وحْدَهُ لَمْ يُشْرِكْهُ في ذَلِكَ أحَدٌ كَما أنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ ﴿فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾ ولَمّا كانَ خَلْقُ العَرْشِ أعْظَمَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ فَإنَّ جَمِيعَ السَّماواتِ والأرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَحَلْقَةٍ مُلْقاةٍ في فَلاةٍ. وأعْظَمُ مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلى الماءِ الَّذِي لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ في العادَةِ إلّا في وِعاءٍ ضابِطٍ مُحْكَمٍ، تَلاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وكانَ﴾ [أيْ] قَبْلَ خَلْقِهِ لِذَلِكَ ﴿عَرْشُهُ﴾ مُسْتَعْلِيًا ﴿عَلى الماءِ﴾ ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ (p-٢٣٩)المُلاصَقَةُ كَما أنَّ السَّماءَ عَلى الأرْضِ مِن غَيْرِ مُلاصَقَةٍ. وقَدْ عُلِمَ مِن هَذا السِّياقِ أنَّهُ كانَ قَبْلَ الأرْضِ [خَلْقٌ] فَثَبَتَ أنَّهُ وما تَحْتَهُ مَحْمُولانِ بِمَحْضِ القُدْرَةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ قَرِيبٍ أوْ بَعِيدٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ قُدْرَتَهُ في دَرَجاتٍ مِنَ العَظَمَةِ لا تَتَناهى، وهَذا زِيادَةُ تَفْصِيلٍ لِما ذُكِرَ في سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن أمْرِ العَرْشِ لِأنَّ هَذِهِ سُورَةُ التَّفْصِيلِ، ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعالى مُعَلِّقًا بِ: ”خَلَقَ“: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ أيْ: [أنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَكم سَكَنًا كامِلًا بِمَهْدِهِ وسَقْفِهِ مِن أكْلِهِ وشُرْبِهِ وكُلِّ ما تَحْتاجُونَهُ فِيهِ وما يُصْلِحُكم وما يُفْسِدُكم ومَكَّنَكم مِن جَمِيعِ ذَلِكَ و] الحِكْمَةُ في خَلْقِ ذَلِكَ أنَّهُ يُعامِلُكم مُعامَلَةَ المُخْتَبِرِ، ودَلَّ عَلى شِدَّةِ الِاهْتِمامِ بِذَلِكَ بِسَوْقِهِ مَساقَ الِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ: ﴿أيُّكُمْ﴾ أيْ: أيُّها العِبادُ ﴿أحْسَنُ عَمَلا﴾ عَلى أنَّهُ فَعَلَ هَذِهِ الأفْعالَ الهائِلَةَ لِأجْلِ هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي هم لَها مُسْتَهِينُونَ وبِها مُسْتَهْزِئُونَ، وعَلَّقَ فِعْلَ البَلْوى عَنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِ لِما فِيهِ مِن مَعْنى العِلْمِ لِأنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ، رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»»، وقالَ: ««يَدُ اللَّهِ مَلْأى لا تُغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحّاءُ اللَّيْلَ والنَّهارَ، وقالَ: أرَأيْتُمْ ما أنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّماءَ والأرْضَ فَإنَّهُ لَمْ يَغِضْ ما في (p-٢٤٠)يَدِهِ، وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ، وبِيَدِهِ المِيزانُ يَخْفِضُ ويَرْفَعُ»». وفي الآيَةِ حَثٌّ عَلى مَحاسِنِ الأعْمالِ والتَّرَقِّي دائِمًا في مَراتِبِ الكَمالِ مِنَ العِلْمِ الَّذِي هو عَمَلُ القَلْبِ [والعَمَلِ] الظّاهِرِ الَّذِي هو وظِيفَةُ الأرْكانِ. ولَمّا ثَبَتَ - بِيَدِهِ الخَلْقُ الَّذِي هم [بِهِ] مُعْتَرِفُونَ - القُدْرَةُ عَلى إعادَتِهِ، وثَبَتَ بِالِابْتِلاءِ أنَّهُ لا تَتِمُّ الحِكْمَةُ في خَلْقِ المُكَلَّفِينَ إلّا بِإعادَتِهِمْ لِيُجازِيَ كُلًّا مِنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ بِفِعالِهِ [وأنَّهم ما خُلِقُوا إلّا لِذَلِكَ]. عَجِبَ مِن إنْكارِهِمْ لَهُ وأكَّدَهُ لِذَلِكَ فَقالَ: ﴿ولَئِنْ قُلْتَ﴾ أيْ: لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ ما خَلَقْتُ هَذا الخَلْقَ العَظِيمَ إلّا لِابْتِلائِهِمْ ﴿إنَّكم مَبْعُوثُونَ﴾ أيْ: مَوْجُودُونَ، [بَعْثُكُمْ] ثابِتٌ قَطْعًا لا بُدَّ مِنهُ. ولَمّا كانَ زَمَنُ البَعْثِ بَعْضَ الزَّمَنِ قالَ: ﴿مِن بَعْدِ المَوْتِ﴾ الَّذِي هو في غايَةِ الِابْتِداءِ ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ أكَّدَهُ دَلالَةً عَلى العِلْمِ بِالعَواقِبِ عَلَمًا مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ ”الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ“ أيْ: ما ﴿هَذا﴾ أيِ القَوْلُ بِالبَعْثِ ﴿إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: شَيْءٌ مِثْلَ السِّحْرِ تَخْيِيلٌ باطِلٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ أوْ خَدّاعٌ يَصْرِفُ النّاسَ عَنِ الِانْهِماكِ في اللَّذّاتِ لِلدُّخُولِ في طاعَةِ الأمْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب