الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّخْوِيفِ والإطْماعِ ما هو مَظِنَّةٌ لِإقْبالِهِمْ ورَهَبِهِمْ (p-٢٣٥)عَلى التَّوَلِّي بِخُصُوصِهِ، فَكانَ مَوْضِعَ أنْ يُقالَ: هَلْ أقْبَلُوا؟ فَقِيلَ: لا [قالَ] مُبَيِّنًا أنَّ التَّوَلِّيَ باطِنًا كالتَّوالِي ظاهِرًا؛ لِأنَّ الباطِنَ هو العُمْدَةُ، مُؤَكِّدًا لِأنَّهُ أمْرٌ لا يَكادُ أنْ يُصَدَّقَ، والتَّأْكِيدُ أقْعَدُ في تَبْكِيتِهِمْ: ﴿ألا إنَّهُمْ﴾ أيِ الكُفّارَ المُعانِدِينَ ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ أيْ: يَطْوُونَها ويَنْحَرِفُونَ عَنِ الحَقِّ عَلى غِلٍّ مِن غَيْرِ إقْبالٍ لِأنَّ مَن أقْبَلَ عَلى الشَّيْءِ أقْبَلَ عَلَيْهِ بِصَدْرِهِ ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ﴾ أيْ: يُرِيدُونَ أنْ يُوجِدُوا إخْفاءَ سِرِّهِمْ عَلى غايَةِ ما يَكُونُ مِن أمْرِهِ. فَإنْ كانَ مُرادُهم بِالثَّنْيِ الِاسْتِتارَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فالأمْرُ في عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ واضِحٌ، وإنْ كانَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فالِاسْتِخْفاءُ مِنهُ اسْتِخْفاءٌ مِمَّنْ أرْسَلَهُ، ثُمَّ أعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُغْنٍ عَنْهُمْ؛ لِأنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهم وعَلَنَهم في أخْفى أحْوالِهِمْ عِنْدَهُمْ، وهو حِينٌ اسْتِغْشائِهِمْ ثِيابَهُمْ، فَيُغَطُّونَ الوُجُوهَ الَّتِي تَسْتَقِرُّ عَنْ بَعْضِ ما في القُلُوبِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فَقالَ: ﴿ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ﴾ أيْ: يُوجِدُونَ غِشْيانَها أيْ تَغْطِيَتَها لِرُؤُوسِهِمْ، لِاسْتِخْفاءِ كَراهِيَةٍ لِسَماعِ كَلامِ اللَّهِ وأخْبارِ رَسُولِهِ ﷺ ﴿يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾ أيْ: يُوقِعُونَ إسْرارَهُ في أيِّ وقْتٍ كانَ ومِن أيِّ نَوْعٍ كانَ مِن غَيْرِ بُطْءٍ لِتَدَبُّرٍ أوْ تَأمُّلٍ، [ولَمّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ عِلْمِ السِّرِّ والعَلَنِ مُلازَمَةٌ لِاخْتِصاصِ العَلَنِ بِما يَكُونُ لِغَيْبَةٍ أوِ اخْتِلافٍ بِأصْواتٍ ولَفْظٍ أوِ اخْتِلافِ لُغَةٍ ونَحْوِ ذَلِكَ قالَ تَصْرِيحًا]: ﴿وما يُعْلِنُونَ﴾ أيْ: يُوقِعُونَ إعْلانَهُ لا تَفاوُتَ في (p-٢٣٦)عِلْمِهِ بَيْنَ إسْرارٍ وإعْلانٍ، فَلا وجْهَ لِاسْتِخْفائِهِمْ نِفاقًا، فَإنَّ سُوقَ نِفاقِهِمْ غَيْرُ نافِقٍ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ. ثُمَّ عَلَّلَهُ بِما هو أدَقُّ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ شُمُولِهِ لِلنَّوْعَيْنِ فَقالَ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ﴾ أيْ: بالِغُ العِلْمِ جِدًّا ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ: بِضَمائِرِ قُلُوبِهِمْ الَّتِي في دَواخِلِ صُدُورِهِمْ الَّتِي يَثْنُونَها مِن قَبْلِ أنْ يَقَعَ لَهم إضْمارُها، بَلْ مِن قَبْلِ أنْ يَخْلُقَهُمْ؛ وأصْلُ الثَّنْيِ العَطْفُ، ومِنهُ الِاثْنانِ - لِعَطْفِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ، والثَّناءُ - لِعَطْفِ المَناقِبِ في المَدْحِ. ولِهَذا لِما قالَ العَبْدُ في الفاتِحَةِ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] بَعْدَ الحَمْدِ قالَ اللَّهُ تَعالى: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي - كَما في حَدِيثِ: ««قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»» والِاسْتِثْناءُ - لِعَطْفِ الثّانِي عَلى الأوَّلِ بِالِاسْتِخْراجِ مِنهُ؛ والِاسْتِخْفاءُ: طَلَبُ خَفاءِ الشَّيْءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب