الباحث القرآني
ولَمّا انْجَلى لِلسّامِعِ ما هو فِيهِ ﷺ مِن عُلُوِّ المَقامِ وعَظِيمِ (p-٢٩٦)الشَّأْنِ المُوجِبِ لِلْعِتابِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الصَّوابِ فَتَشَوَّفَ لِلْجَوابِ، اسْتَأْنَفَ بَيانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ﴾ أيْ: مُبادِرًا عَلى ما يَقْتَضِيهِ لَهُ مِن كَمالِ الصِّفاتِ ﴿رَبِّ﴾ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ، وأكَّدَ دَلالَةً لِلسّامِعِينَ عَلى عَظِيمِ رَغْبَتِهِ فَقالَ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ﴾ أيْ: مِن أنْ ﴿أسْألَكَ﴾ [أيْ] في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ ﴿ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ تَأدُّبًا بِإذْنِكَ واتِّعاظًا بِمَوْعِظَتِكَ وارْتِقاءً لِما رَقَّيْتَنِي إلَيْهِ مِن عُلُوِّ الدَّرَجَةِ ورَفِيعِ المَنزِلَةِ ﴿وإلا تَغْفِرْ لِي﴾ أيِ الآنَ وفي المُسْتَقْبَلِ ﴿وتَرْحَمْنِي﴾ أيْ: تَسْتُرْ زَلّاتِي وتَمْحُها وتُكْرِمْنِي ﴿أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ أيِ العَرِيقِينَ في الخَسارَةِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ماذا أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: ﴿قِيلَ﴾ بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ دَلالَةً عَلى العَظَمَةِ والجَلالِ الَّذِي تَكُونُ الأُمُورُ العَظِيمَةُ لِأجْلِهِ بِأدْنى إشارَةٍ ﴿يا نُوحُ اهْبِطْ﴾ أيْ: مِنَ السَّفِينَةِ ﴿بِسَلامٍ﴾ أيْ: عَظِيمٍ ﴿مِنّا﴾ أيْ: ومَن سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلا هَلَكَ يَلْحَقُهُ ﴿وبَرَكاتٍ﴾ أيْ: خَيْراتٍ نامِيَةٍ عَظِيمَةٍ صالِحَةٍ ﴿عَلَيْكَ﴾ أيْ: خاصَّةً بِكَ ﴿وعَلى أُمَمٍ﴾ ناشِئَةٍ ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾ لِكَوْنِهِمْ عَلى ما يُرْضِينا ولا نُمَتِّعُهم بِالدُّنْيا إلّا قَلِيلًا، ولَهم إذا رَجَعُوا إلَيْنا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وقَدْ دَخَلَ في هَذا الكَلامِ كُلُّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ﴿وأُمَمٌ﴾ أيْ: مِنهم ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدُّنْيا بِالسِّعَةِ في الرِّزْقِ والخَفْضِ في العَيْشِ عَلى وفْقِ عِلْمِنا وإرادَتِنا ولا بَرَكاتٌ عَلَيْهِمْ مِنّا ولا سَلامٌ، فالآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: (p-٢٩٧)ذَكَرَ البَرَكاتِ والسَّلامَ أوَّلًا دَلِيلًا عَلى نَفْيِهِما ثانِيًا، والمَتاعَ ثانِيًا، دَلِيلًا عَلى حَذْفِهِ أوَّلًا ﴿ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا﴾ أيْ: في الدّارَيْنِ أوْ في الآخِرَةِ أوْ فِيهِما ﴿عَذابٌ ألِيمٌ﴾ لِجَرْيِهِمْ عَلى غَيْرِ هَدْيِنا وجُرْأتِهِمْ عَلى ما يُسْخِطُنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿وأُمَمٌ﴾ مُبْتَدَأً مِن غَيْرِ تَقْدِيرِ صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، فَيَكُونُ المُسَوِّغُ لِلِابْتِداءِ كَوْنَ المَقامِ مَقامَ التَّفْضِيلِ؛ والعِياذُ: طَلَبُ النَّجاةِ بِما يَمْنَعُ مِنَ الشَّرِّ؛ والبَرَكَةُ: ثُبُوتُ الخَيْرِ بِنَمائِهِ حالًا بَعْدَ حالٍ، وأصْلُهُ الثُّبُوتُ، ومِنهُ البُرُوكُ والبَرَكَةُ لِثُبُوتِ الماءِ فِيها.
ذِكْرُ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ التَّوْراةِ وهو نُوحُ بْنُ لَمَكَ بْنِ مُتَوَشْلِحَ بْنِ خَنُوخَ بْنِ يارْدَ بْنِ مُهَلالِيلَ بْنِ قِينانَ بْنِ أنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ في أوائِلِ السِّفْرِ الأوَّلِ مِنها: وإنَّ آدَمَ طافَ نَحْوَ حَلِيلَتِهِ فَحَبِلَتْ ووَلَدَتِ ابْنًا فَسَمّاهُ شِيثَ وقالَ: الآنَ أخْلَفَ اللَّهُ عَلَيَّ نَسْلًا آخَرَ بَدَلَ هابِيلَ الَّذِي قَتَلَهُ قابِيلُ، وذَلِكَ بَعْدَ أنْ عاشَ آدَمُ مِائَةً وثَلاثِينَ سَنَةً، وكانَ جَمِيعُ حَياةِ آدَمَ تِسْعَمِائَةٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، وعاشَ شِيثُ مِائَةً وخَمْسَ سِنِينَ فَوُلِدَ لَهُ أنُوشُ، وكانَ (p-٢٩٨)جَمِيعُ حَياةِ شِيثَ تِسْعَمِائَةٍ واثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَعاشَ أنُوشُ تِسْعِينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ قِينانُ وكانَ جَمِيعُ حَياةِ أنُوشَ تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسَ سِنِينَ، وعاشَ قِينانُ سَبْعِينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ مُهَلالِيلَ وكانَ جَمِيعُ [حَياةِ] قِينانَ تِسْعَمِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، وعاشَ مُهْلالِيلُ خَمْسًا وسِتِّينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ يارْدُ وكانَتْ مِائَةً واثْنَتَيْنِ وسِتِّينَ سَنَةً فَوُلِدَ بِهِ خَنُوخُ فَكانَتْ جَمِيعُ حَياةِ يارْدَ تِسْعَمِائَةٍ واثْنَتَيْنِ وسِتِّينَ سَنَةً، وعاشَ خَنُوخُ خَمْسًا وسِتِّينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ مُتَوَشْلِحُ وكانَتْ جَمِيعُ حَياةِ خَنُوخَ ثَلاثَمِائَةٍ وخَمْسًا وسِتِّينَ سَنَةً، وعاشَ مُتَوَشْلِحُ مِائَةً وسَبْعًا وثَمانِينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ لَمَكُ وكانَتْ جَمِيعُ حَياةِ مُتَوَشْلِحَ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعًا وسِتِّينَ سَنَةً، وعاشَ لَمَكُ مِائَةً واثْنَتَيْنِ وثَمانِينَ سَنَةً فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَسَمّاهُ نُوحًا، ثُمَّ قالَ: هَذا يُرِيحُنا مِن أعْمالِنا، وكَدِّ \ أيْدِينا في الأرْضِ الَّتِي قَدْ لَعَنَها اللَّهُ، وكانَتْ جَمِيعُ أيّامِ حَياةِ لَمَكَ سَبْعَمِائَةٍ وسَبْعًا وسَبْعِينَ سَنَةً، وتُوُفِّيَ ونُوحٌ ابْنُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ. فَوُلِدَ لِنُوحٍ بَنُونَ: سامُ وحامُ ويافِثُ، فَلَمّا بَدَأ النّاسُ أنْ يَكْثُرُوا عَلى وجْهِ الأرْضِ ووُلِدَ لَهُمُ البَناتُ نَظَرَ بَنُو الأشْرافِ مِنهم بَناتِ العامَّةِ حِسانًا جِدًّا فَأخَذُوا مِنهُمُ النِّساءَ عَلى ما اخْتارُوا وأحَبُّوا، فَقالَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ: لا تَحِلُّ عِنايَتِي وشَفَقَتِي عَلى هَؤُلاءِ النّاسِ لِأنَّهم يَتَّبِعُونَ أهْواءَ الجَسَدِ واللَّحْمِ وكانَتْ عَلى الأرْضِ جَبابِرَةٌ في تِلْكَ الأيّامِ ومِن بَعْدِها، لِأنَّ بَنِي الأشْرافِ دَخَلُوا عَلى بَناتِ العامَّةِ فَوُلِدَ لَهم جَبابِرَةٌ مَذْكُورُونَ، فَرَأى الرَّبُّ أنَّ شَرَّ النّاسِ قَدْ كَثُرَ (p-٢٩٩)عَلى الأرْضِ وأنَّ هَوِيءَ فِكْرِهِمْ وحِقْدِهِمْ رَدِيءٌ في جَمِيعِ الأيّامِ، فَقالَ الرَّبُّ: أمَحَقُ الَّذِينَ خَلَقْتُ وأُبِيدُهم عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ مِنَ النّاسِ والبَهائِمِ حَتّى الهَوامِّ وطَيْرِ السَّماءِ؛ وظَفِرَ نُوحٌ مِنَ اللَّهِ بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ، وكانَ نُوحٌ رَجُلًا بارًّا تَقِيًّا في حِقَبِهِ فَأرْضى اللَّهَ، وفَسَدَتِ الأرْضُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وامْتَلَأتْ إثْمًا وفُجُورًا، فَرَأى الرَّبُّ الإلَهُ أنَّ الأرْضَ قَدْ فَسَدَتْ وقالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: قَدْ وصَلَ إلَيَّ [أمْرُ] جَمِيعِ النّاسِ وسُوءُ أعْمالِهِمْ لِأنَّ الأرْضَ قَدِ امْتَلَأتْ إثْمًا وفُجُورًا بِسُوءِ سِيرَتِهِمْ. فَهاأنَذا مُفْسِدُهم مَعَ الأرْضِ فاتَّخِذْ لَكَ أنْتَ تابُوتًا مُرَبَّعًا مِن خَشَبِ السّاجِ - وفي نُسْخَةٍ: الشِّمْشارِ - واجْعَلْ في التّابُوتِ عَلالِيَ. واطْلِها بِالقارِ مِن داخِلِها وخارِجِها، ولْيَكُنْ طُولُ الفُلْكِ ثَلاثَمِائَةِ ذِراعٍ. وعَرْضُهُ خَمْسِينَ ذِراعًا، وسُمْكُهُ ثَلاثِينَ ذِراعًا، واجْعَلْ في التّابُوتِ كُوًى ولْيَكُنْ عَرْضُها مِن أعْلاها ذِراعًا واحِدًا، واجْعَلْ بابَ الفُلْكِ في جانِبِهِ، واجْعَلْ فِيهِ مَنازِلَ أسْفَلَ وأوْساطَ وعَلالِيَ. وهاأنَذا مُحَدِّرُ ماءِ الطُّوفانِ عَلى الأرْضِ لِأُفْسِدَ بِهِ كُلَّ ذِي لَحْمٍ فِيهِ نَسَمَةُ الحَياةِ مِن تَحْتِ السَّماءِ، ويُبِيدُ كُلَّ ما عَلى الأرْضِ، وأُثَبِّتُ عَهْدِي بَيْنِي وبَيْنَكَ. وتَدْخُلُ التّابُوتَ أنْتَ وبُنُوكَ وامْرَأتُكَ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ، ومَن كُلِّ حَيٍّ مِن ذَوِي اللُّحُومِ مَن كُلِّ صِنْفٍ اثْنانِ لِتَحْيا مَعَكَ، ولْتَكُنْ ذُكُورًا وإناثًا، مِن كُلِّ الطُّيُورِ كَأجْناسِها، (p-٣٠٠)ومِنَ الأنْعامِ لِأصْنافِها، ومَن كُلِّ الهَوامِّ الَّتِي تَدِبُّ عَلى الأرْضِ لِجَواهِرِها، اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، أدْخِلْ مَعَكَ مِن كُلِّها لِتَسْتَحْيِيَها ذَكَرًا وأُنْثى، واجْعَلْ مَن كُلِّ ما يُؤْكَلُ فاخْزُنْهُ مَعَكَ، ولْيَكُنْ مَأْكَلَكَ ومَأْكَلَها؛ فَصَنَعَ نُوحٌ كُلَّ شَيْءٍ كَما أمَرَ اللَّهُ ثُمَّ قالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: ادْخُلْ أنْتَ وكُلُّ أهْلِ بَيْتِكَ إلى التّابُوتِ لِأنِّي إيّاكَ وجَدْتُ بارًّا تَقِيًّا في هَذا الحِقْبِ، ومَن كُلِّ الأنْعامِ الزَّكِيَّةِ أدْخِلْ مَعَكَ سَبْعَةً سَبْعَةً مِنَ الذُّكُورِ والإناثِ، ومِنَ الأنْعامِ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَكِيَّةٍ أدْخِلْ مَعَكَ اثْنَيْنِ ذُكُورًا وإناثًا. ومِنَ الطَّيْرِ الزَّكِيِّ سَبْعَةً سَبْعَةً ذُكُورًا وإناثًا، ومِنَ الطَّيْرِ الَّذِي لَيْسَ بِزَكِيٍّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ ذُكُورًا وإناثًا، لِيَحْيا مِنها نَسْلٌ عَلى وجْهِ الأرْضِ، لِأنِّي مِنَ الآنِ إلى سَبْعَةِ أيّامٍ أُهْبِطُ القَطْرَ عَلى وجْهِ الأرْضِ أرْبَعِينَ يَوْمًا ولَيالِيَها، وأُبِيدُ كُلَّ ما خَلَقْتُ عَلى وجْهِ الأرْضِ؛ فَصَنَعَ نُوحٌ كَما أمَرَهُ الرَّبُّ الإلَهُ. فَلَمّا كانَ بَعْدَ بَعْدِ ذَلِكَ بِسَبْعَةِ أيّامٍ نَزَلَتْ مِياهُ الطُّوفانِ، تَفَجَّرَتْ [مِياهُ] الغَمْرِ وتَفَتَّحَتْ مَثاعِبُ السَّماءِ. وأقْبَلَتِ الأمْطارُ عَلى وجْهِ الأرْضِ أرْبَعِينَ نَهارًا وأرْبَعِينَ لَيْلَةً، [و] في هَذا اليَوْمِ دَخَلَ نُوحٌ وسامُ وحامُ ويافِثُ بَنُو نُوحٍ وامْرَأةُ نُوحٍ ونِساءُ بَنِيهِ الثَّلاثُ مَعَهُ الفُلْكَ هم وجَمِيعُ السِّباعِ لِأجْناسِها وجَمِيعُ الدَّوابِّ لِأصْنافِها وكُلُّ حَشَرَةٍ تَدِبُّ عَلى الأرْضِ بِجَواهِرِها وجَمِيعُ الطُّيُورِ لِأجْناسِها، ودَخَلَ مَعَ نُوحٍ التّابُوتُ مِن كُلِّ عُصْفُورٍ ومِن كُلِّ ذِي جَناحَيْنِ اثْنانِ اثْنانِ، ومِن كُلِّ ذِي لَحْمٍ فِيهِ (p-٣٠١)رُوحُ الحَياةِ \ وكُلُّ شَيْءٍ دَخَلَ مِن ذَوِي اللُّحُومِ دَخَلُوا ذُكُورًا وإناثًا كَما أمَرَ اللَّهُ نُوحًا، ثُمَّ أغْلَقَ اللَّهُ الرَّبُّ البابَ عَلَيْهِ، وكانَ الطُّوفانُ عَلى الأرْضِ أرْبَعِينَ يَوْمًا وأرْبَعِينَ لَيْلَةً، وكَثُرَتِ المِياهُ حَتّى احْتَمَلَتِ التّابُوتَ فارْتَفَعَ عَنِ الأرْضِ، وغَزُرَتِ المِياهُ وكَثُرَتْ عَلى الأرْضِ جِدًّا [وجَعَلَ التّابُوتُ يَسِيرُ عَلى وجْهِ الماءِ واشْتَدَّتِ المِياهُ عَلى وجْهِ الأرْضِ جِدًّا] جِدًّا. وتَوارَتْ جَمِيعُ الجِبالِ العالِيَةِ الشّاهِقَةِ الَّتِي تَحْتَ السَّماءِ، وارْتَفَعَتِ المِياهُ مِن فَوْقِ كُلِّ جَبَلٍ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِراعًا، وبادَ كُلُّ ذِي لَحْمٍ عَلى الأرْضِ مِنَ الطُّيُورِ أجْمَعَ والسِّباعِ والدَّوابِّ وجَمِيعِ الحَشَرَةِ الَّتِي تَدِبُّ عَلى الأرْضِ وجَمِيعُ النّاسِ والبَهائِمِ، وماتَ كُلُّ شَيْءٍ كانَ [فِيهِ] نَسَمَةُ الحَياةِ مِمّا في اليَبَسِ. وبَقِيَ نُوحٌ ومَن مَعَهُ في الفُلْكِ، واشْتَدَّتِ المِياهُ عَلى الأرْضِ مِائَةً وخَمْسِينَ يَوْمًا؛ وإنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نُوحًا وكُلَّ السِّباعِ والدَّوابِّ وجَمِيعَ الطُّيُورِ الَّتِي مَعَهُ في التّابُوتِ. فَأهاجَ اللَّهُ رِيحًا عَلى وجْهِ الأرْضِ فَسَكَنَتِ المِياهُ والأمْطارُ. واشْتَدَّتْ يَنابِيعُ الغَمْرِ ومَيازِيبُ السَّماءِ، وغاضَتِ المِياهُ بَعْدَ مِائَةٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا، وسَكَنَ التّابُوتُ ووَقَفَ في الشَّهْرِ السّابِعِ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنَ الشَّهْرِ عَلى جِبالِ قُودِي وجَعَلَتِ المِياهُ تَنْصَرِفُ وتَنْتَقِصُ إلى الشَّهْرِ العاشِرِ، وظَهَرَتْ رُؤُوسُ الجِبالِ في أوَّلِ يَوْمِ الشَّهْرِ العاشِرِ، فَلَمّا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأرْبَعِينَ (p-٣٠٢)يَوْمًا فَتَحَ نُوحٌ الكُوَّةَ الَّتِي عَمِلَها في التّابُوتِ فَأرْسَلَ الغُرابَ، فَخَرَجَ الغُرابُ مِن عِنْدِهِ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ حَتّى يَبِسَتِ المِياهُ عَنْ وجْهِ الأرْضِ، [ثُمَّ أرْسَلَ الحَمامَةَ مِن بَعْدِهِ لِيَرى هَلْ قَلَّتِ المِياهُ عَنْ وجْهِ الأرْضِ] فَلَمْ تَجِدِ الحَمامَةُ مَوْضِعًا لِمَوْطِئِ رِجْلَيْها فَرَجَعَتْ إلى التّابُوتِ لِأنَّ المِياهَ كانَتْ بَعْدُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، فَمَدَّ يَدَهُ فَأخَذَها وأدْخَلَها إلَيْهِ وانْتَظَرَ سَبْعَةَ أيّامٍ أُخْرى، ثُمَّ عادَ فَأرْسَلَ الحَمامَةَ فَعادَتْ عِنْدَ المَساءِ وفي مِنقارِها ورَقَةُ زَيْتُونٍ، فَعَلِمَ أنَّ الماءَ قَدْ غاضَ عَنْ وجْهِ الأرْضِ فَصَبَرَ أيْضًا سَبْعَةَ [أيّامٍ] أُخَرَ، ثُمَّ أرْسَلَ الحَمامَةَ فَلَمْ تَعُدْ إلَيْهِ أيْضًا، فَفَتَحَ نُوحٌ بابَ الفُلْكِ فَرَأى فَإذا وجْهُ الأرْضِ قَدْ ظَهَرَ وجَفَّتِ الأرْضُ. فَكَلَّمَ الرَّبُّ الإلَهُ نُوحًا وقالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنَ التّابُوتِ أنْتَ وامْرَأتُكَ وبُنُوكُ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ وكُلُّ السِّباعِ الَّتِي مَعَكَ مِن كُلِّ ذِي لَحْمٍ والطُّيُورُ والدَّوابُّ، وأخْرِجْ كُلَّ الهَوامِّ الَّتِي تَدِبُّ عَلى الأرْضِ مَعَكَ، ولِتَتَوَلَّدَ وتَنْمُوَ في الأرْضِ وتَكْثُرَ وتَزْدادَ عَلى الأرْضِ. فَخَرَجَ نُوحٌ ومَن ذُكِرَ وبَنى لِلرَّبِّ مَذْبَحًا وأخَذَ مِن جَمِيعِ الدَّوابِّ والطُّيُورِ الزَّكِيَّةِ فَأصْعَدَ مِنها عَلى المَذْبَحِ قُرْبانًا لِلرَّبِّ الإلَهِ، فَقالَ الرَّبُّ الإلَهُ: لا أعُودُ ألْعَنُ الأرْضَ أبَدًا مِن أجْلِ أعْمالِ النّاسِ لِأنَّ هَوى قَلْبِ الإنْسانِ وحِقْدَهُ رَدِيءٌ مُنْذُ صِباهُ، ولا أعُودُ أيْضًا أُبِيدُ كُلَّ حَيٍّ كَما فَعَلْتُ، ومِنَ الآنِ جَمِيعُ أيّامِ الأرْضِ (p-٣٠٣)يَكُونُ فِيها الزَّرْعُ والحَصادُ والبَرْدُ والحَرُّ والقَيْظُ والشِّتاءُ، فَبارَكَ اللَّهُ عَلى نُوحٍ وبَنِيهِ وقالَ لَهُمُ: انْمُوا واكْثُرُوا وامْلَئُوا الأرْضَ، ولْيَغْشَ رُعْبُكم وخَوْفُكم جَمِيعَ السِّباعِ وبَهائِمَ الأرْضِ وكُلَّ طُيُورِ السَّماءِ وكُلَّ دابَّةٍ تَدِبُّ عَلى الأرْضِ، وجَمِيعُ حِيتانِ البُحُورِ [تَكُونُ] تَحْتَ أيْدِيكُمْ، وكُلُّ الدَّوابِّ الطّاهِرَةِ الحَيَّةِ تَكُونُ لِأكْلِكُمْ، وقَدْ جَعَلْتُ الأشْياءَ كُلَّها حَلالًا لَكم مِثْلَ عُشْبِ البَرِّيَّةِ خَضِرَها، وأمّا المَخْنُوقُ الَّذِي دَمُهُ فِيهِ فَلا تَأْكُلُوهُ فَإنَّ دَمَهُ نَفْسُهُ، وأمّا دِماؤُكم مِن أنْفُسِكم فَأطْلُبُها بِالنَّهْيِ مِن يَدِ جَمِيعِ الحَيَوانِ ومِن يَدِ جَمِيعِ النّاسِ، أيُّ إنْسانٍ قَتَلَ أخاهُ طالَبْتُهُ بِدَمِهِ، ومَن سَفَكَ دَمَ الإنْسانِ سُفِكَ دَمُهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بِصُورَتِهِ، وأنْتُمْ فانْمُوا واكْثُرُوا وتَوَلَّدُوا في الأرْضِ واكْثُرُوا فِيها؛ وقالَ اللَّهُ لِنُوحٍ ولِبَنَيْهِ مَعَهُ: هاأنَذا مُثَبِّتٌ عَهْدِي بَيْنِي وبَيْنَكم ومَعَ أنْسالِكم مِن بَعْدِهِمْ ومَعَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مِنكُمْ، \ ومَعَ الطُّيُورِ والدَّوابِّ ومَعَ كُلِّ سِباعِ الأرْضِ جَمِيعِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الفُلْكِ، وأُثَبِّتُ عَهْدِي بَيْنِي وبَيْنَكم فَلا يَبِيدُ كُلُّ ذِي لَحْمٍ أيْضًا بِماءِ الطُّوفانِ ولا يَهْبِطُ الطُّوفانُ أيْضًا لِيُفْسِدَ جَمِيعَ الأرْضِ، قالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: هَذِهِ عَلامَةٌ لِعَهْدَيِ الَّذِي أجْعَلَهُ بَيْنِي وبَيْنَكم وبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَعَكم في جَمِيعِ أحْقابِ العالَمِ، قَدْ أظْهَرْتُ قَوْسِي في السَّحابِ فَهي أمارَةُ ذِكْرِ العَهْدِ [الَّذِي] (p-٣٠٤)بَيْنِي وبَيْنَكَ وبَيْنَ أهْلِ الأرْضِ، فَإذا أنْشَأتُ السَّحابَ في الأرْضِ وأظْهَرْتُ قَوْسَ السَّحابِ فاذْكُرُوا العَهْدَ الَّذِي بَيْنِي وبَيْنَكُمْ، وكانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مِنَ التّابُوتِ سامَ وحامَ ويافِثَ، [وحامُ] يُكَنّى أبا كَنْعانَ، هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ هم بَنُو نُوحٍ، وتَفَرَّقَ النّاسُ مِن هَؤُلاءِ في الأرْضِ كُلِّها؛ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ نامَ فَرَأى حامُ عُرْيَهُ فَأظْهَرَ ذَلِكَ لِأخَوَيْهِ، فَتَناوَلَ سامُ ويافِثُ رِداءً فَألْقَياهُ عَلى أكْتافِهِما ثُمَّ سَعَيا عَلى أعْقابِهِما مُدْبِرِينَ فَوارَيا عُرْيَ أبِيهِما، فَلَمّا عَلِمَ نُوحٌ ما صَنَعَ ابْنُهُ الأصْغَرُ دَعا عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِأخَوَيْهِ، وكانَتْ جَمِيعُ أيّامِ حَياةِ نُوحٍ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتَّحِيَّةُ والإكْرامُ؛ ثُمَّ ذُكِرَ أنَّ النّاسَ بَعْدَهُ أرادُوا أنْ يَبْنُوا صَرْحًا لاحِقًا بِالسَّماءِ، واجْتَمَعَ جَمِيعُهم عَلى ذَلِكَ لِأنَّ لُغَتَهم كانَتْ واحِدَةً ورَأْيَهم واحِدٌ فَفَرَّقَ اللَّهُ ألْسِنَتَهم وفَرَّقَهم مِن هُنالِكَ عَلى وجْهِ الأرْضِ ولَمْ يَبْنُوا القَرْيَةَ الَّتِي هَمُّوا بِها، ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ بابِلَ وبُوبالَ مَعْناهُ بِالعِبْرانِيِّ: الشَّتاتُ، وما في تَفْسِيرِ البَغَوِيِّ وغَيْرِهِ مِن أنَّ عُوجَ بْنَ عُوقَ - بِضَمِّهِما كَما في القامُوسِ - كانَ [فِي] زَمَنِ نُوحٍ وسَلِمَ مِنَ الطُّوفانِ، وأنَّ الماءَ لَمْ يُجاوِزْ رُكْبَتَيْهِ ونَحْوَ هَذا كَذِبٌ بَحْتٌ مَنابِذٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧] وقَوْلِهِ: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلا مَن رَحِمَ﴾ [هود: ٤٣] وقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] ونَحْوِها، فَإنَّ (p-٣٠٥)كُلَّ مَن ذَكَرَ ذَلِكَ ذَكَرَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَتَلَهُ كافِرًا.
{"ayahs_start":47,"ayahs":["قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ","قِیلَ یَـٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَـٰمࣲ مِّنَّا وَبَرَكَـٰتٍ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمࣱ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ یَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِیمࣱ"],"ayah":"قِیلَ یَـٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَـٰمࣲ مِّنَّا وَبَرَكَـٰتٍ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمࣱ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ یَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق