الباحث القرآني

﴿وقِيلَ﴾ أيْ: بِأدْنى إشارَةٍ بَعْدَ هَلاكِ أهْلِ الأرْضِ وخُلُوِّها مِنَ الكافِرِينَ وتَدْمِيرِ مَن في السُّهُولِ والجِبالِ مِنَ الخاسِرِينَ، وهو مِن إطْلاقِ المُسَبَّبِ - وهو القَوْلُ - عَلى السَّبَبِ - وهو الإرادَةُ - لِتَصْوِيرِ أمْرٍ ومَأْمُورٍ هو في غايَةِ الطّاعَةِ فَإنَّهُ أوْقَعُ في النَّفْسِ. (p-٢٩١)ولَمّا كانَ كُلَّ شَيْءٍ دُونَ مَقامِ الجَلالِ والكِبْرِياءِ والعِزَّةِ بِأمْرٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. دَلَّ عَلى ذَلِكَ بِأداةِ البُعْدِ فَقالَ: ﴿يا أرْضُ ابْلَعِي﴾ أيِ اجْذِبِي مِن غَيْرِ مَضْغٍ إلى مَكانٍ خَفِيٍّ بِالتَّدْرِيجِ، وعَيَّنَ المَبْلُوعَ لِئَلّا يَعُمَّ فَتَبْتَلِعَ كُلَّ شَيْءٍ عَلى ظَهْرِها مِن جَبَلٍ وغَيْرِهِ، ولِذَلِكَ أفْرَدَ ولَمْ يَجْمَعْ فَقالَ: ﴿ماءَكِ﴾ أيِ الَّذِي تَجَدَّدَ عَلى ظَهْرِكِ لِلْإغْراقِ لِيَكُونَ كالغِذاءِ لِلْآكِلِ الَّذِي يُقَوِّي بَدَنَهُ فَيَقْوى بِهِ عَلى الإنْباتِ وسائِرِ المَنافِعِ وجَعَلَهُ ماءَها لِاتِّصالِهِ بِها اتِّصالَ المِلْكِ بِالمالِكِ ﴿ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ أيْ: أمْسِكِي عَنِ الإمْطارِ، فَفَعَلَتا مُبادِرَتَيْنِ لِأمْرِ المَلِكِ الَّذِي لا يَخْرُجُ عَنْ مُرادِهِ شَيْءٌ ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ أيِ المَعْهُودُ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالدَّبُوبِ في أعْماقِ الأرْضِ، مِنَ المُتَعَدِّي فَإنَّهُ يُقالُ: غاضَ الماءُ وغاضَهُ اللَّهُ، كَما يُقالُ: نَقَضَ الشَّيْءُ ونَقَضْتُهُ أنا ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ: فُرِغَ وانْبَتَّ وانْبَرَمَ في إهْلاكِ مَن هَلَكَ ونَجاةِ مَن نَجا كَما أرادَ الجَلِيلُ عَلى ما تَقَدَّمَ بِهِ وعْدُهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ أنْ يَحْبِسَهُ عَنْهم ولا أنْ يَصْرِفَهُ ولا أنْ يُؤَخِّرَهُ دَقِيقَةً ولا أصْغَرَ مِنها. فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ مَن أُخِّرَ عَنْهُ العَذابُ ولا يَقُلْ: ”ما يَحْبِسُهُ“ لِئَلّا يَأْتِيَهُ مِثْلُ ما أتى هَؤُلاءِ أوْ مَن بَعْدَهم ﴿واسْتَوَتْ﴾ أيِ اسْتَقَرَّتْ واعْتَدَلَتِ السَّفِينَةُ ﴿عَلى الجُودِيِّ﴾ إشارَةً بِاسْمِهِ إلى أنَّ الِانْتِقامَ العامَّ قَدْ مَضى، وما بَقِيَ إلّا الجُودُ بِالماءِ والخَيْرِ والخِصْبِ والرَّحْمَةِ العامَّةِ، وهو الجَبَلُ بِالمُوصِلِ بَعْدَ خَمْسَةِ أشْهُرٍ؛ قالَ قَتادَةُ: اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ (p-٢٩٢)لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِن رَجَبٍ وكانَتْ في الماءِ خَمْسِينَ ومِائَةَ يَوْمٍ، واسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلى الجُودِيِّ شَهْرًا، وهَبَطَ بِهِمْ يَوْمَ عاشُوراءَ ﴿وقِيلَ﴾ أيْ: إعْلامًا بِهَوانِ المُهْلَكِينَ والرّاحَةِ مِنهم ﴿بُعْدًا﴾ هو مِن بَعِدَ - بِالكَسْرِ مُرادًا بِهِ البُعْدُ مِن حَيْثُ الهَلاكُ، فَإنَّ حَقِيقَتَهُ بُعْدٌ بَعِيدٌ لا يُرْجى مِنهُ عَوْدٌ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْهَلاكِ وخُصَّ بِدُعاءِ السُّوءِ، وعَبَّرَ بِالمَصْدَرِ لِتَعْلِيقِهِ بِاللّامِ الدّالَّةِ عَلى الِاسْتِحْقاقِ والِاخْتِصاصِ ﴿لِلْقَوْمِ﴾ [أيِ المَعْهُودِينَ في هَذِهِ القِصَّةِ الَّتِي كانَ فِيها مِن شِدَّةِ القِيامِ فِيما يُحاوِلُونَهُ ما لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ إلّا اللَّهُ] ﴿الظّالِمِينَ﴾ أيِ العَرِيقِينَ في الظُّلْمِ، وهَذِهِ الآيَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً فِيها أحَدٌ وعِشْرُونَ نَوْعًا مِنَ البَدِيعِ - عَدَّها أبُو حَيّانَ وقالَ: ورُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا سَمِعَها فَقالَ: هَذا كَلامُ القادِرِينَ. وذَكَرَ الرُّمّانِيُّ عِدَّةً مِن مَعانِيها، مِنها إخْراجُ الأمْرِ عَلى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِفاعِلِهِ مِن غَيْرِ مُعاناةٍ ولا لُغُوبٍ، ومِنها: حُسْنُ تَقابُلِ المَعانِي، ومِنها: حُسْنُ ائْتِلافِ الألْفاظِ، ومِنها: حُسْنُ البَيانِ في تَصْوِيرِ الحالِ، ومِنها الإيجازُ مِن غَيْرِ إخْلالٍ، ومِنها تَقَبُّلُ الفَهْمِ عَلى أتَمِّ الكَمالِ؛ والبَلْعُ: إجْراءُ الشَّيْءِ في الحَلْقِ إلى الجَوْفِ؛ والإقْلاعُ: إذْهابُ الشَّيْءِ مِن أصْلِهِ حَتّى لا يَبْقى لَهُ أثَرٌ؛ والغَيْضُ: غَيْبَةُ الماءِ في الأرْضِ عَلى جِهَةِ النَّشَفِ. وإبْرازُ الكَلامِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ أدَلُ عَلى الكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ لِلْفاعِلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ مَعْلُومٌ لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الأفْعالِ غَيْرُهُ، ونَقَلَ (p-٢٩٣)الأصْبِهانِيُّ عَنْ صاحِبِ المِفْتاحِ فِيها كَلامًا أغْلى مِنَ الجَوْهَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب