الباحث القرآني
ولَمّا أمَرَهُ تَعالى ونَهاهُ، أخْبَرَ أنَّهُ امْتَثَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَأيِسَ مِن إيمانِ أحَدٍ مِنهم فَتَرَكَ دُعاءَهم وشَرَعَ يُسَلِّي نَفْسَهُ: ﴿ويَصْنَعُ﴾ أيْ: صَنْعَةَ ماهِرٍ جِدًّا، لَهُ مَلَكَةٌ عَظِيمَةٌ بِذَلِكَ الصُّنْعِ ﴿الفُلْكَ﴾ فَحَلّى فِعْلَهُ حالُ عِلْمِهِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ بَتَّ الأمْرَ بِأنَّهُ كانَ يَعْمَلُ ما أمَرَهُ بِهِ (p-٢٨٤)سُبْحانَهُ ولَمْ يُخاطِبْهُ فِيهِمْ ولا أسِفَ عَلَيْهِمْ، وأشارَ إلى أنَّهُمُ ازْدادُوا بَغْيًا بِقَوْلِهِ: ﴿وكُلَّما﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ كُلَّما ﴿مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ﴾ أيْ: أشْرافٌ ﴿مِن قَوْمِهِ﴾ وأجابَ ”كُلَّما“ بِقَوْلِهِ: ﴿سَخِرُوا مِنهُ﴾ أيْ: ولَمْ يَمْنَعْهم شَرَفُهم مِن ذَلِكَ، وذَلِكَ أنَّهم رَأوْهُ يُعانِي ما لَمْ يَرَوْا قَبْلَهُ مِثْلَهُ لِيَجْرِيَ عَلى الماءِ وهو في البَرِّ وهو عَلى صِفَةٍ مِنَ الهَوْلِ عَظِيمَةٍ فَعَنِ الحَسَنِ أنَّ طُولَها ألْفُ ذِراعٍ ومِائَتا ذِراعٍ وعَرْضُها سِتُّمِائَةٍ، فَقالُوا: يا نُوحُ! ما تَصْنَعُ؟ قالَ: أبْنِي بَيْتًا عَلى الماءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿سَخِرُوا﴾ صِفَةً لِ «مَلَأٌ»، وجَوابُ ”كُلَّما“ ﴿قالَ﴾ ولَمّا أيْأسَهُ اللَّهُ مِن خَيْرِهِمْ، تَرَكَ ما كانَ مِن لِينِهِ لَهم واسْتِعْطافِهِمْ فَعُلِمَ أنَّ ذَلِكَ ما كانَ إلّا لَهُ سُبْحانَهُ، فَقالَ حاكِيًا عَنْهُ اسْتِئْنافًا: \ ﴿قالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنّا﴾ ولَمّا كانُوا يَظُنُّونَ أنَّهُ غائِبٌ في عَمَلِهِ كانَ [عِنْدَهُمْ] مَوْضِعًا لِلْخِزْيِ والسُّخْرِيَةِ، وكانَ هو ﷺ عالِمًا بِأنَّ عَمَلَهم سَبَبٌ لِخِزْيِهِمْ بِالعَذابِ المُسْتَأْصِلِ، فَكانَ المَعْنى: إنْ تَسْخَرُوا مِنّا - أيْ مِنِّي ومِمَّنْ يُساعِدُنِي - لِظَنِّ أنَّ عَمَلَنا غَيْرُ مُثْمِرٍ ﴿فَإنّا نَسْخَرُ﴾ أيْ: نُوجِدُ السُّخْرِيَةَ ﴿مِنكُمْ﴾ جَزاءً لَكم ﴿كَما تَسْخَرُونَ﴾ مِنّا الآنَ لِأنَّ عَمَلَنا مُنْجٍ وعَمَلَكم لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلى الضَّياعِ بَلْ هو مُوجِبٌ لِما تُوعَدُونَ مِنَ العَذابِ فَأنْتُمُ المَخْزِيُّونَ دُونِي. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ واقِعًا مَوْقِعَ هَذا الإخْبارِ، حَسُنَ الإتْيانُ بِالفاءِ المُؤْذِنَةِ بِتَسَبُّبِ العِلْمِ المَذْكُورِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ: بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ (p-٢٨٥)﴿مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ﴾ أيْ: يَفْضَحُهُ فَيُذِلَّهُ، وكَأنَّ المُرادَ بِهِ عَذابُ الدُّنْيا ﴿ويَحِلُّ عَلَيْهِ﴾ أيْ: حُلُولَ الدَّيْنِ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ ﴿عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ وهو عَذابُ الآخِرَةِ، وقَدْ مَضى نَحْوَهُ في الأنْعامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ﴾ [الأنعام: ١٣٥] والسُّخْرِيَةُ: إظْهارُ ما يُخالِفُ الإبِطانَ عَلى جِهَةِ تَفَهُّمِ اسْتِضْعافِ العَقْلِ، مِنَ التَّسْخِيرِ وهو التَّذْلِيلُ اسْتِضْعافًا بِالقَهْرِ، وهي تُفارِقُ اللَّعِبَ بِأنَّ فِيها خَدِيعَةَ اسْتِنْفاضٍ، فَلا تَكُونُ إلّا بِحَيَوانٍ، واللَّعِبُ قَدْ يَكُونُ بِجَمادٍ لِأنَّهُ مُطْلَقُ طَلَبِ الفَرَحِ؛ والخِزْيُ: العَيْبُ الَّذِي تَظْهَرُ فَضِيحَتُهُ والعارُ بِهِ، ونَظِيرُهُ الذُّلُّ والهَوانُ؛ واسْتَمَرَّ ذَلِكَ دَأْبَهُ ودَأْبَهم ﴿حَتّى إذا جاءَ أمْرُنا﴾ أيْ: وقْتُ إرادَتِنا لِإهْلاكِهِمْ ﴿وفارَ﴾ أيْ: غَلا وطَفَحَ ﴿التَّنُّورُ﴾ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما والحَسَنِ ومُجاهِدٍ أنَّهُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ، وهَذا هو الظّاهِرُ فَلا يُعْدَلُ عَنْهُ إلّا بِدَلِيلٍ، لِأنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَبَثٌ [كَما] قالَهُ أهْلُ الأُصُولِ ﴿قُلْنا﴾ بِعَظَمَتِنا ﴿احْمِلْ﴾ [ولَمّا كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أمَرَهُ أنْ يَجْعَلَ لَها غِطاءً - كَما قالَهُ أهْلُ التَّفْسِيرِ - لِئَلّا تَمْتَلِئَ مِن شِدَّةِ الأمْطارِ، كانَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِيها بِخِلافِ غَيْرِها مِنَ السُّفُنِ واضِحَةً؛ فَلِذَلِكَ قالَ]: ﴿فِيها﴾ أيِ السَّفِينَةِ ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ مِنَ الحَيَواناتِ، والزَّوْجُ فَرْدٌ يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ لا يَكْمُلُ نَفْعُهُ إلّا بِهِ ﴿اثْنَيْنِ﴾ ذَكَرًا وأُنْثى ﴿وأهْلَكَ﴾ أيِ احْمِلْهُمْ، والأهْلُ: (p-٢٨٦)العِيالُ ﴿إلا مَن سَبَقَ﴾ غالِبًا ﴿عَلَيْهِ القَوْلُ﴾ بِأنِّي أُغْرِقُهُ وهو امْرَأتُهُ وابْنُهُ كَنْعانُ ﴿ومَن﴾ أيْ: واحْمِلْ فِيها مَن ﴿آمَنَ﴾ قالَ أبُو حَيّانَ: وكانَتِ السَّفِينَةُ ثَلاثَ طَبَقاتٍ: السُّفْلى لِلْوُحُوشِ، والوُسْطى لِلطَّعامِ والشَّرابِ، والعُلْيا لَهُ ولِمَن آمَنَ مَعَهُ؛ ثُمَّ سَلّى المُخاطَبَ بِهَذِهِ القِصَصِ ﷺ وذَكَّرَهُ نِعْمَتَهُ بِكَثْرَةِ مَنِ اتَّبَعَهُ مَعَ صَدْعِهِمْ بِمُؤْلِمِ الإنْذارِ عَلى قِصَرِ الزَّمانِ دُونَ نُوحٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعَ تَطاوُلِ الزَّمَنِ فَقالَ: ﴿وما﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ ما ﴿آمَنَ﴾ كائِنًا ﴿مَعَهُ﴾ أيْ: بِإنْذارِهِ ﴿إلا قَلِيلٌ﴾ بِسَبَبِ تَقْدِيرِنا لا بِإغْضائِهِمْ بِما كُوفِحُوا بِهِ مِنَ الإنْذارِ؛ والتَّنُّورُ - قالَ أبُو حَيّانَ: وزْنُهُ فَعُّولٌ عِنْدَ أبِي عَلِيٍّ وهو أعْجَمِيٌّ، وقالَ ثَعْلَبٌ: وزْنُهُ تَفَعُولٌ مِنَ النُّورِ، وأصْلُهُ تَنْوُورٌ، هُمِزَتِ الواوُ ثُمَّ خُفِّفَتْ وشُدِّدَ الحَرْفُ الَّذِي قَبْلَها، والزَّوْجُ قَدْ كَثُرَ عَلى الرَّجُلِ الَّذِي لَهُ امْرَأةٌ؛ قالَ الرُّمّانِيُّ: وقالَ الحَسَنُ في ﴿ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] السَّماءُ زَوْجٌ والأرْضُ زَوْجٌ، والشِّتاءُ زَوْجٌ، والصَّيْفُ زَوْجٌ، واللَّيْلُ زَوْجٌ، والنَّهارُ زَوْجٌ، حَتّى يَصِيرَ الأمْرُ إلى اللَّهِ الفَرْدِ الَّذِي لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، ومَعْنى ذَلِكَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، وأقَلُّ ما قِيلَ فِيمَن كانَ في السَّفِينَةِ ثَمانِيَةٌ: نُوحٌ وامْرَأةٌ لَهُ، وثَلاثَةُ بَنِينَ: سامُ وحامُ ويافِثُ، ونِساؤُهُمْ؛ وأكْثَرُ ما قِيلَ أنَّهم ثَمانُونَ - رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
{"ayahs_start":38,"ayahs":["وَیَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیۡهِ مَلَأࣱ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُوا۟ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُوا۟ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ","فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن یَأۡتِیهِ عَذَابࣱ یُخۡزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیۡهِ عَذَابࣱ مُّقِیمٌ","حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣱ"],"ayah":"فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن یَأۡتِیهِ عَذَابࣱ یُخۡزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیۡهِ عَذَابࣱ مُّقِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق